أدب الرعب والعام

القُربان العظيم

بقلم : سامي عمر النجار – الأردن
للتواصل : [email protected]

القُربان العظيم
شَدَّ قبضته على يد جاريث ، وضع السكين عليها ثم بدأ بعملية القطع

 

18 نوفمبر الساعة الرابعة مساءً.

بَحثَ كثيراً عن كلماتٍ داخلَ عقله لتصف المشاعر المختلطة و المزدحمة داخل قلبه ، فتح دفتر يومياته وكتب :

إلى الحبيبة اللعينة ماري ، أنتِ لستِ سوى فتاة تتسلى بإيقاع الصبيان في حُبها وأنا كُنت الضحية الأخيرة ، مَعكِ كُنتُ أشعر أني خارج جسدي اللعين ، أُحلق نحو السماء ، كُنتِ تخلقين لي الأمل بكلماتِ الحب التي تقولينها لي ، كُنتُ أَشعرُ أني إنسانٌ محظوظٌ ومُميز، أني !.

تَوقَفَ “جاريث” عن الكتابة قليلاً ، غَصَة في قلبه جعلت بعض الدموع تَفُر من عينيه ، مسح دموعه وأردف يكتب :

أتعلمين ؟ لن أكتب شيئاً عنكِ ولن أُفكر فيكِ ! فأنتِ لستِ سوى بومة سوداء قبيحة تافهة أتمنى أن تموت داخل شجرة عفنة ، تباً لك.”

توقف جاريث عن الكتابة ، رمى القلم بعيداً وانتزع الورقة من دفتر يومياته ومَزَّقها وكأنه بذلك يُمزق هذا العالم الموحش ، نَهضَ على قدميه وهو يَعضُ على يديه ويتلفت حول نفسه ، يبحث عن شيء ليُحَطِمه ويُفرغ الغضب الذي أعتلى قلبه ، وقف أمام المرآة يُحدق في نفسه ، شعر أبيض ، عيون ملونة وبشرة بيضاء شاحبة عليها بقع حروق من الشمس ، بيديه أَخذَ يَضربُ المرآة وهو يبكي و يصرخ لاعِناً نفسه وحياته البائسة.

و قبل أن يُعيد ضرب المرآة مرة أخرى كان أبوه قد سمع صوت صراخه فسارع إلى غرفته واحتضنته وهو يقول له :

– ما الذي حدث معك يا عزيزي ؟.

اعتصر جاريث أبوه بكلتا يديه وكأنه يريد الدخول إلى قلبه ، قال وهو يتنهد :

– اليوم كان لدينا درس عن مرض “المهق”، كانت المعلمة تشرح لنا وباقي الطلاب ينظرون إلي ! شعرت بالذُل والخزي يا أبي ، كانوا ينظرون إلي ويتهامسون ، حتى صديقتي “ماري” تركتني اليوم ولم تعد تتكلم معي ، لماذا خلقتني هكذا يا أبي ؟. 

أمسك أبو جاريث طرف رداءه وأخذ يمسح دموع ابنه ، ثم مسح أنفه وقال وهو يبتسم :

– حبيبي ، هذه ميزة من الله لك ، أنت أجمل منهم ، لديك بشرة بيضاء فاتحة وعيون ملونة ، أنت أجمل الأولاد يا عزيزي حتى أنك أجمل مني.

ضحك جاريث بينما أردف أبوه قائلاً :

عندما تكبر وتغدو رجلاً مثلي ستتقاتل عليك النساء ، لا داعي للحزن حبيبي ، غداً سيتغير كل شيء.

قال جاريث وعلامات البهجة بدأت تظهر على ملامحه :

– متى ستعود أمي ؟ اشتقت لها كثيراً !.

أجابه أبوه وهو يُمسد شعره :

أمك بحاجة إلى المكوث بضعة أيام في المشفى ، ولكن لا تقلق ستخرج الأسبوع القادم.

عزيزي جاريث سأخذ اليوم أخوتك معي للمشفى ، إنهم صغار وهم بحاجة لرؤية أمك ، وأنت تعلم أني لا أستطيع اصطحابك معي ، أخاف عليك من الناس الأشرار ، أريدك أن تبقى في البيت وأن لا تغادر مهما حدث، أنت الرجل من بعدي ، هل يمكنني الاعتماد عليك ؟.

قال جاريث والحسرة تملأ قلبه : أجل يا أبي ، لا تقلق علي.

2

18 نوفمبر الساعة التاسعة ليلاً.

أنهى جاريث طعام العشاء ، حمل الأطباق و وضعها في المطبخ ، عاد إلى غرفته وأخذ يبحث عن قلمه ، رآه في زاوية الغرفة ، أمسك القلم وجلس على الفرشة الإسفنجية ، أمامه طاولة صغيرة موضوع عليها دفتر مذكراته ، أخذ يكتب :

اليوم قال لي أبي أني أجملُ ولدٍ في الدنيا ، لقد صَدَّقتُ أبي ولكني بحاجةٍ ماسة لأمي ، مَرَّ شهرين ولم أراها ، لا أعلم مرضها بالضبط ولكن أبي يقول أن مرضها ليس خطيراً ، كُنتُ أتمنى أن أذهب لرؤيتها اليوم مع أبي وأخوتي ، ولكن أبي يخاف علي بسبب وجود الناس الأشرار ، يقول لي أن أولئك الناس يخطفون الأشخاص المميزين مثلي ، يعتقدون أننا سحرة قادرون على علاج أي شيء ، على كل حال ، بقي سنتين وسأبلغ الثامنة عشرة ، عندها سأغادر هذه البلاد ، سأهرب من الأشرار ومن نظرات الناس لي وسأ…

صوت تحطم الباب جعل جاريث يقفز من مكانه ، توقف مكانه من الفزع ، لم يستوعب عقله الأمر بعد ، صوت خطوات يقترب من غرفته ، مقبض الباب يتحرك وقلبُ جاريث من شدة الفزع سيقفز من صدره ، رجلين مُلثمين يقفون في غرفته.

تقدم أحدهم وأمسك بجاريث ، حاول المقاومة ، أخذ يركل الرجل بقدميه ، حاول الصراخ ولكن يد الرجل أطبقت على فمه.

تقدم الآخر و وضع شريطاً لاصقاً على فمه ثم قام بتقييد يديه إلى الخلف ، وتقييد قدميه.

حمله الرجل و وضعه بكل هدوء على الفرشة الإسفنجية بحيث أصبح جاريث مُمَدّد على بطنه.

قال أحدهم : أخي إنه جاهز ، لا تنسى قراءة التعويذة قبل أن تبدأ.

– ابتسم الآخر وقال : أخرج أنت الآن وحينما أنتهي سأُناديك.

تقدم الرجل وهو يتمتم بكلمات غريبة ، أخرج من جيبه سكين صغيرة وأَحدَثَ جُرحاً في جبينه ، خلع ملابسه واقترب من جاريث ، أخذ يُقَبله ويتحسس جسده وهو يقول :

– باركني و أشفيني .

ثم قام بتمزيق رداءه من الخلف ، أنفاس الرجل تلفح مؤخرة عنق جاريث ، ويديه تُطبِقان على فخذيه ، حاول جاريث أن يُقاوم أن يصرخ ، شعر بالموت بالألم ، بسيف يخترق جسده ، تمنى في تلك اللحظة أن تغادر روحه ولكن ذلك لم يحدث.

3

18 نوفمبر الساعة التاسعة وخمسٌ وأربعون دقيقة ليلاً.

جاريث مُمَدّد على بطنه ومياه دافئة مختلطة بالدم والبول تسيل بين فخذيه ، ارتدى الرجل ملابسه ونادى على أخيه :

– جالوم ، هيا لقد تأخرنا.

دخل جالوم الغرفة وبيده سكين كبيرة ، نظر لجاريث الذي كان يَئِنُّ من ألمه ، اقترب من أخيه وقال :

– بماذا تشعر الآن ؟.

أجابه وابتسامة تعلو وجهه : أشعر بأني ولدت من جديد ، وكأن المرض خرج من جسدي.

قال جالوم وهو ينظر إلى الصبي :

سيعود أبوه قريباً ، دعنا نُسرع في عملنا ، و ناول أخاه السكين.

اقترب جالوم من جاريث وفك قيود يديه ، وضع يده اليمنى تحت قدميه بينما أمسك الرجل الآخر بيد جاريث اليسرى ، أغمض عينيه يستذكر كلام المعالج له :

” اقطع يده دون تخدير حتى لا تذهب القوة الروحية من جسده وتذكر كلما زاد ألمه زادت القوة الروحية.”

شَدَّ قبضته على يد جاريث ، وضع السكين عليها ثم بدأ بعملية القطع ، كان يحاول أن يُبطئ عملية القطع قدر الإمكان حتى تعلو القوة الروحية فيحقق أكبر استفادة.

بينما كان جاريث يحاول قدر الإمكان الصمود وتَحَمُّل الألم ، كان يُقاوم حتى عندما قُطع لحمه ظل يقاوم، يحاول الهروب بالتخيل.

هذا حلم سأستيقظ منه بعد قليل ، هذا حلم.

عندما وَصَلت السكين إلى عظم يده رأى أُمَهُ وهي تبكي و رأى وجه ماري علی جسد بومة و شَعَرَ بكهرباء عظيمة تَسري في جسده ، عندها فقط فقد وَعيهُ.

4

أَمسكَ جاريث هاتفه المحمول ، فتح على صفحته الشخصية في الفيسبوك ، قام بتحميل صورة له وكَتب :

اليوم هو 18 نوفمبر ، في مثل هذا اليوم تعلمت أنه من الممكن أن تتعرف على امرأة رخيصة تُسْكِنها روحك لتستيقظ بعد أيام وتجد أن هذه المرأة قد سرقت نور روحك و وهجها وعاثت فيها فساداً وأحالت روحك إلى قطعة خُردة مُظلمة و رحلت عنك لتسكن روح غيرك.

و أنه من الممكن أن يُسرَقَ بيتك أو أن تُسرق سيارتك أو أن يُسرَق جسدك.

في مثل هذا اليوم استيقظتُ في المشفى لأجد نفسي مُستنزفة و روحي مُظلمة ، لم أكن أشعر بيدي اليسرى ، تحسستها ولم أجدها ، لقد سرق الأوغاد يدي ، وجدني أبي في البيت أنزف ، وبسرعة البرق قام بمساعدتي ونقلي إلى المشفى، بسببه أنا ما زِلتُ حياً ، بعد أيام وأنا في المشفى اكتشف الأطباء إصابتي بالإيدز.

أخذ الأوغاد يدي وأعطوني مرض الإيدز ، لم أفهم وقتها خطورة هذا المرض ولكني الآن أفهم.

مضت سبعة سنوات على تلك الحادثة ، لم يستطع أحد القبض على أولئك الأوغاد ولكنهم قبضوا على أبي ، تبين من خلال التحقيقات تورط أبي في هذه القضية ، لقد أراد بيع قطعة مني ! اعترف بأنه قبض ثمن يدي عشرون ألف دولار ، لم أكن أعلم بأن يدي وحدها تساوي كل هذا المبلغ ! لم أكن أعلم أن الذي أنقذ حياتي هو نفسه الذي سبب لي كل هذا الألم.

حرصاً على ما تبقى مني تم نقلي إلى هذا الملجأ لحمايتي من أولئك الذين يعتبروننا كنزاً ثميناً لجلب الحظ والمال والشفاء ، هنا يوجد الكثير مني ، الكثير من “الألبينو” ، هنا أستطيع الحياة دون خوف ، هنا شعرت ولأول مرة أنني إنسان مثلي مثلكم.

في النهاية أنا قد صَفَحتُ عن الجميع ، عن أصدقاء مدرستي وعن ماري التافِهَة اللعوب وعن أبي الذي سبب لي هذا الألم الجسدي والتشوه الذي سيبقى معي حتى الموت ، حتى أني سامحتُ أولئك الأوغاد فهم جهلة لا يعلمون عن مرض “المهق” شيئاً ، ولكني لا أستطيع التقدم والتفكير في مستقبلي ، فلم يعد لي مستقبل ، بالنسبة لي توقف الزمن في 18 نوفمبر قبل سبعة سنوات ، ما زلت هناك طفلاً أُعاني أَلَمَ اللحظة.

ضَغَطَ جاريث على زر النشر ، و وضع الهاتف جانباً ، عَدَّل الوسادة و وضع رأسه عليها ، تنهد تعبيراً عن الارتياح ، أغمض عينيه وغرق في نوم عميق لم يستيقظ بعده.

 

النهاية……..

المصادر :
برص – ويكيبيديا

ملاحظة :
كنت أقرأ عن الألبينو”الأشخاص المصابين بالبرص” وللأسف قرأت أنه في بعض البلاد يتم سرقة واختطاف الـأشخاص المصابين بالبرص “المهق” لاستخدامهم في السحر..لذلك وللأسف مرة أخرى هذه القصة مستوحى من الواقع ، وضعت لكم رابط يحتوي بعض المعلومات عن المصابين بالبرص ، يمكنكم الاطلاع عليه.

تاريخ النشر : 2019-01-30

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى