أدب الرعب والعام

المتمرد

بقلم : تقي الدين – الجزائر

سار بين الأجساد و كل الأعين مسلطة عليه كرجل هرب من القبر
سار بين الأجساد و كل الأعين مسلطة عليه كرجل هرب من القبر

 
ألبرت أينشتاين قال يوما : ” حين لا يفهمك الكبار في السن و ينتقدك الشباب و يعتبرك المجتمع مجنون فأنت متمرد قادر على تغيير العالم ” .
 
***
 
مطائطاً رأسه سار عبر البوابة ، أجساد تحيط به من كل جانب ، مآزر زرقاء و أخرى زهرية تتحرك حوله كماء نهر صادف صخره ، أوجه مبتسمة و ضحكات عالية تنبثق من تلك التجمعات الصغيرة التي تتشكل بعد نهاية كل يوم دراسي و شباب بمثل سنه يقفون لحظات عند المدخل منتظرين الرفقة التي اعتادوا عليها ، لم يعرف قط ذلك الشعور ، أن تقف مبتسماً و عيناك تتلاعبان وسط الحشود لتلمحا صديق حملته لك الأيام فقد وجد في الوحدة ملجأ يجعله متصالحاً مع الجميع ببعده عنهم .

قصيرة هي المسيرة بين منزله و الثانوية فقط مئات الخطوات التي يسيرها بتثاقل لعله يربح بضع دقائق إضافية بعيداً عن جدران غرفته و إن كانت ملجأه الوحيد فإنه يحمل لها مشاعر مختلطة فيغرقها بالود ثناءً لها على العزلة التي توفرها له و يذمها بالمقت كرها من ذكريات تحملها و من منظر جامد يطل على شارع قطن ، ذلك الزقاق الراقي بفيلاته الأنيقة ذات الطراز الإيطالي و سكانه الأثرياء الذي يختلجون في صدورهم كبرياء يلامس السماء .

استدار يميناً عند ناصية شارع كسير و دخل مجمع شقق بتصميم يجمع بين غرابة دهليز و عتاقة كهف حتى أن المطر لا يبلل أرضيته في أيام جانفي الباردة ، متحاشياً الغسيل الذي أنتشر على طول خيوط مثبتة بين الأبواب المتقابلة اهتدى للأدراج قاصداً مرتعه في الطابق الرابع ، و مثل كل يوم وقفت والدته عند العتبة منتظرة إياه كجندي فذ زحف حياً من بين براثن الحرب ، تعدل نظارة قديمة تنزلق أحيانا فتستقر عند أنفها الشامخ و تلوح بيدها لابنها بابتسامة تجعل غمازاتها تظهر كخواتم صغيرة عند خديها ، يقولون عنها مسكينة تركها زوجها بمعاش بسيط لا تعرف هل تنفقه على نفسها أم على الفتى الذي تبنته لتشبع به غريزة أمومتها ، فتى عانقته بقوة و ربتت على ظهره بلطف بضع مرات هامسة في أذنه : كيف كان يومك ؟.

فأجاب بلباقة : جيداً يا أماه.
برفق نزعت عنه حقيبة ظهره ثم قالت و هي تضعها بحذر على مائدة بلاستيكية أخذت مساحة من الرواق الواسع : لقد حضرت لنا دجاجاً و خضروات.
دلف المطبخ الضيق و حمل من فوق المنضدة طبقاً أبيضاً تلمس فيه نوعاً من التنميق.
– هل آخذ هذا لمنزل أمل ؟ ، سأل بصوت خافت
– نعم … هي على الأرجح بانتظارك.

سحب من حقيبته دفتراً جعله في يده اليمنى فوازن به ثقل اليسرى التي حملت الصحن و عاد أدراجه بحذر حتى وصل الطابق الثاني أين توسعت حدقتاه العسليتان و هما تنظران لفتاة نحيلة الجسم و متوسطة القامة بشعر بني كلون الرمل أرسلته خلف ظهرها في ظفيرة واحدة خشنة ، تجلس على كرسي متحرك و بين يديها قفص احتوى عصفور كناري أصفر فاقع ينط بين خشبتين صغيرتين.

– هل ملابسي مضحكة ؟ ، قالت و هي تثبت القفص على مسمار صغير بمحاذاة الباب فأجاب بارتباك و قد لاحظ أنه شرد :
– لا ، على الإطلاق … لقد جلبت الغداء.
أمسكت عنه الطبق برقة ثم قالت و هي تلوح بعينيها الزرقاوين ناحية دفتره : ها قد جلبته اليوم … هيا إذا .

دخل المنزل ليس كضيف بل كفرد منه و جلس معها بين جدران غرفتها بحكم صداقة وثيقة جمعتهما ، رابطة أعمق من أن تكون سطحية ، و أصدق من أن تتحول لحب ، فقد ترعرعا معاً كأخوين و وجد كل واحد منهما ما ينقصه في الآخر ، فياسين كان فتى يفتقر التفاؤل و أمل كانت فتاة تفتقر إلى التصميم ، بنوع من الخجل جلس فوق كرسي آجوري اللون مقابلاً أمل التي ضمت قدميها بصعوبة فوق سريرها .
– أين والدك ؟.

سأل بفضول و هو يقلب صفحات الدفتر بخفة ، فأجابت : في الخارج ، أظنها مقابلة عمل أخرى ، لا أدري فهو يتصرف بغرابة هذه الأيام ،  ربما يتهرب لأنه لا يستطيع أن يتحمل تكاليف هدية بسيطة لعيد ميلادي .
توقفت أصابعه عن الحركة و قال : أنا متأكد أنه مرتبك لأنه لا يعرف ذوقك و لا يريد أن يتسرع .

رمت بابتسامة ساخرة على محياها قائلة : ربما معك حق يا ياسين ، عيد ميلاد ابنته الأخير و يريد أن تكون هدية مميزة.
لم يكن سهلاً عليها أن تتقبل و تتعايش مع واقع أن لها أيام معدودة في الحياة ، لكن مع مرور الوقت أضحت ترى الموت على أنه راحة أكثر من كونه عقاب ، و مع بقاء ستة أشهر لها لتعيشها حسب قول طبيبها ، فإن قولها ذلك أخاف ياسين الذي أوقفها قائلاً : تذكير نفسك بذلك في كل فرصة لن يجعل الأمر سهلاً عليك .

أدارت رأسها للنافذة و نفضت كلماته عنها بتوتر : لقد اشترى لي فستانا أسود رخيصاً العام الماضي ، لم يجب عليه أن يكون أسوداً .
قاطعها بصفحة من صفحات دفتره التي أشهرها في وجهها و عليها رسمة رمادية دقيقة بقلم رصاص تظهر مجموعة الجيران في الطابق الأرضي و هم يتبادلون أطباقاً زخرفت بطعام تشتهيه العين قبل الفم.

– ما عنوانك لهذه ؟.
تصفحتها مطولا ثم أجابت : لقد ركزت أكثر على الطعام لذا سأقول ” أفضل ما صنعت أيدينا يهدى لأيديكم “.
هز رأسه موافقاً و الغبطة على وجهه ليقلب صفحة أخرى أملاً في أن يثريها بعنوان رقيق آخر ، لكن خشخشة قفل الباب كان لها اليد العليا في إنهاء محادثتهما ، وضعت قدميها على الأرضية ثم قالت بفتور : ها قد وصل.
رفع ياسين جسده من على الكرسي و خرج للرواق ملقياً السلام :
– سيد أنور ، آمل أنك بخير.
بخطوات ثقيلة تقدم منه و مع كل خطوة تزداد قامته ارتقاءً حتى أضحى ينظر له نظرة غصن الشجرة العالي للأرض.
– بخير … لقد أتعبناك معنا بجلبك للغداء كل يوم ، قال بنبرة أحس ياسين أن فيها شيئاً من الخزي فرد محاولاً التخفيف عنه : هذا أقل واجب.
لم تضرب تلك الكلمات وتر الإقناع لديه و أبقى على وجهه جامداً و هو يسحبه ناحية الباب قبل أن يتمتم معه : لقد عدت من مقابلة أخرى فاشلة .
رد ياسين بعفوية : ستكون هناك فرص أخرى.
– أنا خجل منك و من والدتك فكرمكما تجاهنا لا يمكن أن يُعوض ، لكن أمل تراني عالة أكثر من أب.

لم يعرف بما يرد ليهدئ روعه فعذوبة اللسان ثمرة لم يقطفها من شجرة الحياة ، لكنه دفع نفسه للقول : لا داعي لقول ذلك ، ستُفرج بإذن الله.
أغلق السيد أنور عينيه أسفاً و أجاب : عيد ميلادها بعد أيام و لا أملك غير الكلمات لأهديها إياها.

تنحنح ياسين ثم قال : لدي بعض الأشياء القديمة التي تصلح كهدايا لطيفة ، سأرمي عليها بعض الورق المبهرج و أعطيك إياها لتهديها لها.
 بصق أنور بضحكة من خلف حزنه قائلاً : ذلك سينقذ حياتي ، بارك الله فيك يا بني .
 
***
 
خلف الطاولة الأخيرة لقسمه جلس وحيداً يطالع تلك الخربشات العشوائية التي غطت الطاولة فجعلت لون الخشب يختفي منها ، الهدوء نسف بريحه على المكان فالأستاذ أنهى الدرس مبكراً و كل ما أمكنه سماعه هو صوت حفيف مروحة السقف الخافت ، لذا فإن الطرقات المفاجئة على الباب كان لها وقع مختلف كسر روتين الصمت ، بخفة رفع رأسه فرأى المدير يقتحم المكان بجسده العريض و إن كان دخوله لطيفاً و محترماً فإن حجمه الضخم و نبرته الخشنة تعطيانك شعور أنه فرض نفسه على المكان بقوة و خلفه دلف رجل أفضل وصف له سيكون الأرستقراطية على قدمين ، ذقن عال ، باروكة سوداء واضحة تغطي صلعه و نظرات ازدراء يرمق بها الجميع .

وقف المدير فوق المصطبة الخشبية فصرخت بصرير خفيف غلب عليه تصريحه الحاد : لقد قررت الإدارة بالتعاون مع السيد غنيم إقامة مسابقة رسم لطلبة العام الأخير ، فعلى كل شخص يريد المشاركة أن يبلغ الأستاذ سليم ، و الآن سيعطيكم السيد غنيم بضع كلمات عن المسابقة.

تقدم الرجل ببهجة مزيفة على وجهه و قال بنبرة هادئة : المسابقة التي قررنا إقامتها هذا العام ستكون مفتوحة للجميع .
صمت لحظة منتظراً ردة فعل ، لكنه قوبل بالصمت ، فأعقب : و نعم … يمكن لفتية حي كسير أن يشاركوا رغم أنني لا أظن أن هناك مبدعين كُثر .
طالت مسامع ياسين كلمات هامسة قادمة من أحد فتية حيه :
– هذا السافل يتحدث عنا كأننا غير موجودين.

و لم ينهي الرجل كلماته حتى دوى رنين الجرس فانتفض ياسين على غرار جيرانه سباقين للمغادرة ، لكن السيد سليم أوقفه بصيحة خفيفة : سيد شريف هل لديك لحظة ؟.
عادةً لم يكن ياسين ليتوقف للتحدث مع شخص من حي قطن ، لكن أستاذه كان من أكبر الداعمين له و لحيه و من الرافضين لفكرة الفصل رغم أنه لا يستطيع فعل شيء غير الدعاء.

وقف أمامه قائلاً : نعم بالطبع.
عقد الأستاذ أصابعه كمذيع و قال : ما رأيك بما قاله المدير ؟.
رد متفاجئاً : عن المسابقة ؟ … لا أدري.
– و لم لا ؟ لديك موهبة جميلة بين أناملك ، قال بحماس.
حرك ياسين عينيه في الأرجاء بعدم ارتياح
– سأخبرك غداً ! أمهلني بعض الوقت للتفكير.
تعجب الأستاذ و حاول استمالته بكلمات حكيمة.
– أنا لا أفهم كيف تفرط في فرصة كهذه ، ففسيلة الموهبة تُسقى من هنا ، في هذه الفترة من حياتك.

أمسك ياسين لجام نفسه هنيهة ثم قال : أنا لا أرسم لأجل مسابقة ما ، بل أرسم لأنني أجد الرضا في الالتزام بشيء ما و إتمامه حتى النهاية.
وضب الأستاذ حاجياته داخل حقيبته الجلدية السوداء و قال مستسلماً : أعطي الأمر تفكيراً عميقاً.

هز ياسين رأسه مغادراً و سار تلك الطريق لمنزله مستعداً ليوم نمطي أخر في حياة شبيهة بمنظر الصحراء المقفرة من نافذة قطار ، لكنه تفاجئ عند وصوله للطابق الثاني بأمل جالسة أمام الباب و في عينيها وميض من التساؤل.
– ها قد وصلت ، ما الذي أخرك ؟.
حك رأسه مرتبكاً و أجاب : لقد انشغلت بالتحدث مع أحد الأساتذة ، لماذا ؟.
وضعت يديها على العجلات و قالت : لقد جلبت أمك العشاء.
بخفة وضع يده في جيبه مفتعلاً الثقة.
– جيد … أسمعي أردت أن أستشيرك في أمر ما.
هزت حاجبيها بفضول.
– نعم ! ماذا ؟.

فأجاب : هناك مسابقة رسم في المدرسة ، و لست متأكداً إن كنت أريد المشاركة حقاً.
أمعنت النظر فيه لوهلة كأن كلماته أهانتها و قالت : هل أنت جدي ؟.
رد مرتبكاً : نعم ، بالطبع.

لوحت بيديها قائلة : و ما الذي يمنعك من القيام بذلك ؟ أنت تعرف أن السفلة من حي قطن سيشاركون كالعادة و هذه فرصة لتسحق جزءاً من غرورهم.
رد ياسين متعجباً من انفعالها : ذلك ما فكرت فيه أيضاً ، لا أظن أنه يمكننا أن نفوز ، لكن سيكون من الجيد أن يمثل شخص ما الحي .
أدارت كرسيها مستعدة للدخول و قد رمت بكلمة أخيرة : اجعلنا فخورين يا بيكاسو و اجلب لي هدية حين تفوز.

بخفة استدار ياسين و همس مع نفسه : تباً ! الهدية ، ثم صعد الأدراج بسرعة و سار رواق منزله ملقياً بتحية عشوائية على أمه دون أن يعرف حتى مكانها ، بهستيرية مرر أصابعه على مجموعة كتب متلاصقة ملأت رفاً خشبياً صغيراً و سحب من وسطها كتاب العجوز و البحر لإيرنست هامنغواي ، تأمل غلافه الأزرق لوهلة ثم صاح و هو يسير خارجاً : أماه ، أحتاج أن أغلف هذا الكتاب ، سأعطيه كهدية.

لكن الصمت كان سيد الموقف ، ما دفعه لدخول غرفة نومها مفترضاً أنها نائمة ، فتفاجئ بها جالسة على حافة السرير و بين يديها صورة صغيرة تتأملها بأعين ملؤها الحزن.
– هل أنت بخير ؟ ، سأل متعجباً فردت : نعم … لقد تذكرت والدك فقط.
حاذاها في الجلوس و قال محاولاً التخفيف عنها : بعد كل ما فعله ، ما زلت تذرفين الدموع لأجله ؟.

و في تلك اللحظة تذكر آخر مرة رأى فيها والده ، كان ينزف من وجهه بعد أن وجه له لكمة قوية حملت كل الغضب الذي احتقن داخل قلبه من أيام سابقة كان يراه فيها يعود فيها للمنزل مشحوناً بالتوتر فيفرغ جام غضبه على زوجته لسبب أو لآخر ، و عادةً ما يكون السبب تافهاً حد السخافة ، و لم تمض ساعات من خروجه غاضباً حتى وُجد ميتاً بعد أن دعسته سيارة مسرعة كان يقودها مخمور من حي قطن .

بهدوء مسحت خدها ثم قالت : من كل الأطفال في المشفى اختارك أنت و رباك كابن له و هذا شيء يجب أن لا تنساه طالما حييت.
– لن أفعل ذلك.
– أنت تعرف أنك والدك لم يكن دوماً عصبياً إنما مخالطة أولئك الأثرياء غير شخصيته تماماً.

لم يخفي أسفه على حال والده و رد : أنت محقة ، رغم أننا لم نجبره على ذلك فإننا كنا نحن من نتلقى اللوم.
ثم سحب منها الصورة التي أظهرته واقفاً بانضباط ظريف أمام والده الذي رسم على وجهه ابتسامة لا تظهر من تحت لحيته الكثيفة
أحاطته والدته بيدها و سألت : لمن ذلك الكتاب ؟.
فأجاب و هو يقلبه بين يديه : سأعطيه لوالد أمل ليهديه لها.
هزت رأسها قائلة : لقد كان من كتبه المفضلة.
– نعم ، أنا أعلم ذلك.

ضغطت على كتفه كأنه سيسقط من جرف و قالت : عدني أنك لن تحذو حذو والدك و تجعل الأثرياء في ذلك الحي السخيف يتحكمون بك بمالهم .
– ذلك واحد من أخطائه الكثيرة ، لا تقلقي … لن أفعل ذلك .
 
***
 
على مكتب الأستاذ سليم صفع ياسين الدفتر الذي ينزف فيه بقلمه فأحدث صدى خفيفاً رددته جدران القسم الفارغة.
– أنا في المسابقة ، قال بحماس.
نظر الأستاذ للكتاب ثم لياسين و قال : على الرسمة أن تكون أكبر بقليل من هذا ، لأنهم سيعلقون أفضل عمل في لوحة الإعلانات وسط الساحة.
بدهاء حول الأمر لصالحه بقوله : ذلك ممتاز ، يمكنهم أن يلصقوا كل الرسومات ببعضها البعض لتشكل لوحة واحدة ، و الآن إن تأذن لي هل يمكنني أن أفوت حصتك هذه ؟.
– و لم ذلك ؟ ، سأل الأستاذ مرتبكاً فطمأنه ياسين : حفلة صديق عزيز … لا أريد أن أفوتها.

حمل أستاذه الدفتر دون أن يشيح ببصره عنه و قال : بالطبع ! استمتع بوقتك.
هرول مباشرة لباب بيتها كساعي بريد سقطت منه رسالة و طرق الباب بلطف دون أن يخفي الحماس من على وجهه ، ازداد توتره خشية أن يقول شيئاً غبياً حالما يراها و تقلصت لحظات الزمن في عينيه حين عرج الباب ببطء كستارة مسرح قبل أن ينتهي أخيراً ذلك الانتظار القاتل برؤيته لها في طلعة جعلته يفغر فاهه متعجباً ، رامية على جسدها بفستان أسود أنيق زاده رونقاً حذاء أبيض كالعاج ، عقد لسانه و أغلقت حتى مخارج الحروف في فمه ليتكلم صوت عقله قائلاً :

” ما سلبت الأيام السوداء شيئاً من جمال وجهك و بياض روحك “.
لاحظت أمل توتره بل و خافت على حاله فأنهت نوبة الذعر التي اعترت جسده بقولها : لا تقل كلمة … فقد كانت فكرة أبي.
ضحك بصدق أكثر مما فعل يوما و رد : عيد ميلاد سعيد.
دفعت بعجلاتها نحوه قائلة بحزم : إنه يومي المميز و أريد النزول لأستنشق بعض الهواء إن لم يكن لديك مانع ؟.
– بالطبع … بالطبع.
دفعها بحذر عبر السلالم و سار بها من ظلام المجمع لنور الشارع فغطت عينيها حالما لفحتها أشعة الشمس ، قطع طريقا صغيراً يأخذ إلى تلة بارتفاع متواضع و ثبت كرسيها على القمة ثم رمى نفسه على الحصى بجانبها و سأل : هل أتيت هنا قبلاً ؟.
فأجابت بينما استلقت عيناها على المنظر : مرة واحدة قبل رحيل أمي … و أنت ؟.
بخفة ضم ركبتيه و قال : اعتدت أن آتي هنا في كل مرة أتخاصم مع أبي و أدخن بسذاجة معتقداً أنني سأحدث فرقاً في حياتي.

وجهت بصرها نحوه و قالت : لم تفكر قط في الفضفضة لأحد ما ؟.
– ليس حقاً … لا أظن أن هناك أحداً يفهم.
نظرت له مطولاً كأنها رأت فيه فصلاً من رواية تعشقها ثم قالت :  حقاً ! جربني ؟.
أخذ نفساً عميقا ثم استرسل بالكلام : ينظر الناس إلي كأنني مجنون فقط لأنني لا أعيش في الفانتازيا التي خلقوها لأنفسهم ، حتى أنهم يخافونني أحياناً … “.
شجعته أمل على المواصلة : نعم ؟.

– و الحقيقة هي أنني أخافهم بقدر ما يخافونني ، أنظر لهم فأراهم يبتسمون و متقبلين حياتهم في تلك الحفرة حتى أنهم يطلقون النكات على نكد معيشتهم ، و أفكر هل أنا مخطئ لأنني أريد أن آخذ درباً غير الذي يأخذونه ؟.
ابتسمت أمل سعيدة لأنه أفرغ ما في صدره ، ثم قالت : هذا أكثر كلام منطقي سمعته يوماً … لكن أظن أنه من الصعب أن تغير نظرتهم للحياة ، فعندما تمضي وقتاً طويلاً في المستنقع يصبح النقاء جريمة .

– نعم … لكن لما دخلوا المستنقع في المقام الأول ؟.
– لأن شخصاً أقنعهم بتقديس الفقر كفضيلة و أقنعهم أن الحياة العادية التي من المفترض أن يعيشها أي شخص جريمة.
رمى بصخرة كانت تحت يده في الأفق و سألها كنوع من الإطراء : هل فكرت يوماً في تأليف كتاب ؟.
– فكرت في القيام بالكثير من الأشياء ، لكن عندما يكون لحياتك وقت محدد عليك أن تعيد ترتيب أولوياتك ، ربما لو وُلدت في الجهة الأخرى لكان الوضع مغايراً .
لاحظ أنها اجتازت خط التعاسة فأنهى المحادثة قائلاً : نعم … أتعرفين ماذا ؟ لنستمتع فقط بالمنظر.

بين ضوء الغروب البرتقالي و وشاح الليل الأسود جلسا في صمت غريب يحدقان للفضاء و رغم أنها كانت جلسة بسيطة فوق تلة يكسوها الحصى فإنه شعر بالسلام بل وغاص فيه عميقاً بشرود قبل أن تنتشله أمل قائلة :
– كان هذا لطيفاً !.

نفض الغبار من على يديه لئلا يوسخ قبضتي كرسيها ثم قال ممازحاً و هو يدفعها ببطء : لم تكن حفلة سيئة.
ردت بمثل سخريته : نعم … بين هدية أبي و المنظر سأقول أنها أفضل حفلة حصلت عليها.
دخل المجمع بإحساس انقباض غريب يزداد داخل صدره و من بعيد كان يمكنه أن يرى والدها واقفاً أسفل الأدراج.
– هل استمتعت بوقتك ؟ ، سألها مبتسماً.
فأجابت باختصار : نعم .
أحاطت يديها بعنقه بينما كان يحملها و خلفهما كمش ياسين الكرسي ، برفق أسنده على مدخل بيتها و قال : أحظيا بليلة سعيدة ، فصاحت لتغطي على صوت والدها الخافت : ليلة سعيدة بيكاسو .
 
كانت واحدة من تلك الليالي ، أين يضج رأسك بأفكار ظننت أنها مدفونة و يغلب ذلك الجواب السوداوي منك على بياض عقلك ، كان يتقلب يميناً ثم يعود شمالاً ، يعدل وسادته ، ينفض غطاءه أملاً في جرعة نوم يعتبرها كهدية تنسيه صدمات الواقع ، و مع بزوغ فجر يوم جديد استسلمت أهدابه لوحش النوم ، لكن صرخة صدحت من الخارج و تردد صداها حتى داخل غرفته قضت مضجعه و انتفض من مكانه قبل أن يسمعها مرة أخرى ، بدا له كأن أحداً ينادي باسمه فهرول خارجاً و اتضحت له الكلمات المبهمة.

– لقد ماتت أمل يا ياسين … لقد ماتت أمل.
صرخ باسمه هو تحديداً رغم أنه أيقظ المجمع كله ، فأنيرت الأضواء من كل جانب ، نزل حافي القدمين فرأى السيد أنور ينتحب على الأرض الباردة و الباب خلفه مفتوح على مصراعيه ، سار في الرواق ببطء و دلف غرفتها ، كانت مستلقية بنفس الفستان الأسود ، جامدة و حسب ، أرادها أن تتحرك ، أن تنطق لكنها بدت له سعيدة و مطمئنة ، أنها تركت قبضة الحياة القاسية ، أراد البكاء أو الركض أو الصراخ لكنه لم يستطع و اكتفى بعناق أمه بقوة و صوت عقله يقول و هو ينظر لتلك الرؤوس الباحثة عن إجابة لما يحصل.
– لقد رحلت أمل ، و الآن ترونها .

كانت لها جنازة مهيبة لم تراها ، و سقطت عليها دموع لم تكن لتصدقها لو كانت حية ، لم يعرف لم هم يتساءلون عن مرضها في حين أنهم لا يستطيعون ضمان غداء لليوم الموالي ، هل كانوا ينوون مساعدتها ؟ … بالطبع لا ! فقد غادروا مباشرة بعد دفنها و بقي وحده جالساً بمحاذاة قبرها  مصدوماً ، فبالأمس مثل هذا الوقت كانت جالسة معه ، فكر في سره و هو غائص في الحداد لعله يخفف عن نفسه ألم فراقها : أمل لم ترحل بل خطفها الموت بعيداً عن قسوة الحياة .
 
***
 
مرت أيام على جنازتها و الجرح في قلبه يزداد كل مرة يمر جنب باب بيتها ليجد العصفور وحيداً يزقزق على دار فارغة فيتخيلها جالسة على كرسيها ، أحياناً ينسى أنها لم تعد بين الأحياء فيقف منتظراً قبل أن يتذكر رحيلها و في أحد تلك الوقفات المؤلمة وجد والدها في حال يجعلك تظن أنه هرب من بين سطور آلان بو ، يجلس على العتبة كأنه ينتظر ضيفاً ، بسخاء مغلف بالحداد قدم له ذلك القفص الذي اتسخت جوانبه قائلاً : لو كان لها وقت لتترك وصية لأرادتك أن تحظى أنت بهذا .

أخذ بضع خطوات عبر السلالم ثم جلس و العصفور بجانبه ، وحيداً ليس فقط في الجلسة بل في الحياة ، انفجر بالدموع دون خجل أو كبت ، صرخ بقوة كبيرة وصلت حتى جدران منزله فجعلت أمه تنزل لتواسيه بحضن دافئ ، بكى من الحزن ، بكى لأنه لم يجد إجابة لسؤال مر جلبته رياح الحداد : من يحدد أنه يجب أن نعيش هكذا و نموت هكذا ؟ بدون أمل ، بدون عدالة ؟.

أيام فارغة ، أحاديث فارغة ، و مواساة فارغة كانت كل ما أختبره تلك الأيام ، أراد الابتعاد و أحاط نفسه بغطاء آخر من العزلة أملاً في أن تخفيه عن العيان ، لكن الكلمات تقول عكس ذلك ، كل الحديث كان عن الفتى اليتيم الذي وجد الراحة مع فتاة تحتضر ، ساذج كان يعلم بوجود لغم في نهاية الحقل لكنه ساره حتى النهاية و ما أمل في أن يكون هدية وداع متأخرة لها تبخر لحظة وقوف أستاذه جنبه بعد نهاية حصته قائلاً : قد يكون الأمر سخيفاً ، لكن فتاة من حي قطن فازت بالمسابقة بعدما رسمت لوحة ملونة من زيارتها لمخيم .

سقط في جب أسود و تلاشت تلك الكلمات بعيداً ، انتفض من مكانه تاركاً أستاذه يتحدث للحائط لكنه أوقفه قائلاً بحزم : السيد غنيم منظم المسابقة ، يريد رؤيتك.
استدار له ياسين قائلاً : بدون إهانة سيد سليم لكنني لست مهتماً.
عقد الأستاذ يديه و قال : إنه يصر.
استدار مغادراً ، فأوقفه السيد سليم مرة أخرى مستفسراً : ألن تستعيد دفترك ؟.
فأجابه دون أن ينظر له : احتفظ به.

سار بين الأجساد و كل الأعين مسلطة عليه كرجل هرب من القبر ، و لأول مرة في حياته أخذ المنعطف الأيسر من المفترق بدلاً من الأيمن و سار شارعاً واسعاً بالعشب على أرصفته و الإسفلت فوق طريقه و ما زاد المكان بذخاً نافورة ضخمة توسطت الحي فقسمته لجزأين ، كان المكان خالياً ما عدا السيد غنيم واقفاً عند مدخل أحد الفيلات يرتدي بدلة سوداء رسمية مرفقاً إياها بغرابة بحذاء رياضي أسود ، تقدم من ياسين و مد يده ليصافحه فتجاهله قائلاً :
– ماذا تريد ؟.

رد الرجل بابتسامة من تحت شاربه الكثيف : لقد أعجبت بما قمت به ، أنا متأكد أنك مستاء من النتيجة.
نظر له مطولاً بعين الغضب وقال : نتيجة محددة مسبقاً لا تعتبر فوزاً.
– أنا أتفهم غضبك ، لكن العمل الفائز كان أكثر بهجة و يبعث على الانشراح.
– كل منا يرسم واقعه.
أدعى غنيم أنه لم يسمع تلك الكلمات و رد : على كل … لقد استدعيتك لأقول لك أنني تأثرت حقاً لما سمعت بقصة صديقتك و أتمنى أن أخلد ذكراها.
أجاب ياسين متهكماً : ذلك باد على وجهك ، و كيف تنوي فعل ذلك بالتحديد ؟.
– أبني فضيل لديه موهبة استثنائية في الكتابة و سيساعده كثيراً لو أعطيته بضع معلومات عن صديقتك.

– يساعده … مما يعني أنه بدأ الكتابة دون إذن من والدها !.
أكثر ضحكة مزيفة صدرت من فمه و قال : لنكن صريحين سيد شريف ، لا نحتاج ذلك حقاً بحكم أننا نسير القارب.
– حسناً … و هل استدعيتني هنا متوقعاً أنني سأقبل مساعدة أبنك ؟.
– أملت ذلك نعم.
حاكى ياسين ضحكته ساخراً منه و قال : سيغرق القارب قريباً.
تلك الكلمات الساخرة جعلت ابتسامة الرجل تختفي خلف خوفه و اضطرته للسؤال : و ماذا تعني بذلك ؟.
رد ياسين مغادراً : شكرا على تضييع وقتي .

متشبعا بالغضب اختفى مرة أخرى داخل غرفته ، القفص كان موضوعاً على نافذته ففتح بابه دون تفكير ليفرد الكناري بجناحيه مبتعداً ، تصلب على شاكلته و كأنه يختزن المنظر في رأسه ثم سحب ورقة ضخمة كانت له معها خطط أخرى و ثبتها على الحائط ليغوص في عقلية الرسام لديه .

على يمينها رسم القفص و في خلفيتها الجبل بقمته المسننة و على يسارها سقف فيلا من حي قطن أما في المنتصف فقد وثق ذلك العصفور بدقة تجعلك تحسب عدد الريشات التي غطت جسده ، ثم جلس يحدق فيها ليلة كاملة دون أن يتحرك حتى هبت نسمات الصباح الأولى لليوم التالي فأستل من صندوق عدته مطرقة و مسامير وضعهم داخل حقيبته ثم كور تلك الورقة و سار بها في يده كفارس يحمل سيفاً .

 وقف وسط ساحة ثانويته و قد اختفت همهة التلاميذ خلفه و استخلفت بتحديق غريب ، نظر لتلك الرسمة الغريبة بألوانها الفاقعة ثم سحب عدته و طرق بأول مسمار على حافة ورقته قبل أن يفردها مستعداً لدق مسمار آخر ، لكن يد الحارس سحبته بعيداً فسقطت مطرقته على الأرض و انبثقت الصرخات من فمه و هو يصارع الأيدي التي قيدته :
– ألم تملوا من كونكم دوماً في المركز الثاني ، ألم تتعبوا من كونكم دمى يتحكم فيها ، أتريدون أن تسيروا على نهج آبائكم للأبد ؟.

لم تبقى المطرقة على الأرض طويلاً إذ حملها أحد الفتية الآخرين من حي كسير و أنهمك في إنهاء ما بدأ به ياسين تحت حماية من الفتية الآخرين الذين أشتعل فيهم فتيل الغيرة على أبن حيهم ، فهموا بالصياح و تراشق الشتائم مع الجميع و تحولت ساحة الثانوية الهادئة لفوضى كانوا فيها هم الأبطال ، و اختبأ أثرياء حي قطن خوفاً من سخط ظل مكبوتاً لسنوات ، أبتسم ياسين و هو يرى أن رسمته البلقاء قد غطت الألوان التي كانت ورائها ، و ما زاد نار التمرد لدى فتية حيه و جعل صياحهم يعلو فوق كل صوت كلمة ” الحرية ” مكتوبة بخط عريض أسفل لوحته ، أدرك في تلك اللحظة أن وفاة أمل كانت الهدية التي لم يردها لكنها الهدية التي احتاجها ، أخيراً شعر بأن التغيير ممكن و هو على بعد خطوة واحدة ، بعنف نهر الحارس الذي قيد حركته و أطاح به بلكمة قوية ثم تمتم بسعادة و هو ينظر لشرارة الثورة التي أحدثها : ها هي هديتك يا أمل .
 
النهاية …
 

تاريخ النشر : 2020-06-10

تقي الدين

الجزائر
guest
11 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى