أدب الرعب والعام

المحطة الأخيرة

بقلم : أبو زيد – الأردن
للتواصل : [email protected]

المحطة الأخيرة
كان قد قرر ألا يعود و أن تكون هذه هي محطته الأخيرة

كانت عيناه تراقبان عن كثب ، و ثمة اضطراب على طول المسافة المتشحة قليلاً بالسواد الداكن ، غير أن كل ذلك التمازج و التضارب داخل الحافلة المسرعة لم يمنعاه من التفكير بالطريقة الأمثل للتخلص من حياته و على الفور .

الجزء الأهم هو ذلك الغباش الواضح و انعدام السيطرة على وظائف جسده الملتصقة بالمقعد ، أثار كل ذلك في نفسه التشاؤم و أيقظت إذ ذاك في باطن العقل فكرة ما .. بعد لحظات تجلت أمامه مباشرة ممزوجةً بعدة أشكال و ربما ألوان مموهة و حادة لأبعد حد .. الفكرة هي أن يرمي بجسده من أعلى بناية يلتقطها من فوره ، من المستحيل النجاة بعد هذا السقوط و من العبث أن لا يكون الموت سريعاً كما يريد ، الأهم دون ألم أو إحساس بالألم .

أخرج علبة السجائر ، أشعل سيجارة و بدأ بالتهامها بين شفتيه مثل ذئب جائع ، أخذ يدقق النظر في البنايات على جهتي الطريق بينما تسير الحافلة في الزحام ببطء ممل ، أشبه بالبطء الذي اعترى ذهنه حين تذكر حادثة أخبره عنها صديق ، كانت قريبة جداً رغم أنه لم يفطن لها منذ زمن ..

ما حصل كان مخيفاً و محيراً في آن ، قيل له أن ذلك الشاب سقط عن الطابق الخامس و ارتطم جسده المتهاوي على أرضٍ صلبة .، نقل الشاب فوراً إلى المشفى رغم هول المنظر و استحالة أنه ما زال حياً .

لم يعلن عن وفاة الشاب ، و ظل هناك يصارع الموت في غيبوبة استمرت أربعة أشهر .. بعدها أفاق على كسورٍ نالت كل جسده تقريباً ، قبل أن يعود بعد سنتين من العلاج لممارسة حياته الطبيعية .. يقال بأن هذا الشاب وصف لأحدهم ما حصل ، و كان مما قال أن ماهية الألم الذي شعر به أثناء و عند سقوطه أشبه بالموت على فترات ، كأن باروداً مشتعلاً تغلغل في عروقه و مع دمه قبل أن يغمى عليه .

لحظة السقوط هي أصعب ما في الأمر .. حيث تشعر في جزء من الثانية بأن قنبلة موقوتة انفجرت في رأسك .

أعرض عن فكرة رمي جسده من أعلى ، تأوه هنيهة ثم أشعل سيجارة ثانية رغم استياء عجوز راحت تلوّح بيدها مرسلة نحوه سهاماً من نظرات حانقة حادّة – لم يكترث – ما يمّر به أخطر مما تعنيه إثارة حفيظة أحدهم تجاهه ..

نأى بنفسه بعيداً و راح يتجول بعينين باهتتين داخل السواد على مرمى بصره – صورة مغلقة تماماً – سقف يخترقه حبل غليظ ثم جسد يتدلى من الحبل و رأس ينحني للأمام .

تنفس الصعداء ، و استعد للنزول من الحافلة لشراء الحبل .. لم يكن من السهل التوقف رغم طلبه ذلك من السائق ، و طرقه على زجاج النافذة بشكل متتالٍ استرعى انتباه الركاب نحوه ، حتى أن أحدهم وجه إليه ملاحظة بضرورة الانتظار لحين الوصول للمكان المخصص .

انفجر غاضباً في وجه الرجل صاحب الاقتراح مقترحاً بدوره عليه الصمت و عدم التدخل فيما لا يعنيه .. انتهت المعركة سريعاً عندما اقترب منه رجل طاعن في السن ، ربت على كتفه و طلب منه الهدوء مع ابتسامة ضئيلة استجمعها على شفتيه كانت كفيلةً بارتخائه كلياً على المقعد المخصص له .

انتظر دقيقة كاملة ريثما يهدأ ، لم يكن جاهزاً تماماً لإعادة التفكير مجدداً بنفس الفكرة ، انحسر بنفسه في زاوية مظلمة و ذات الأخيلة و الألوان الممزوجة بالسواد .. كانت الحافلة شبه مسرعة و تدور حول نفسها على مفترق الطريق ، ثم ابتعدت قليلاً عن المحال التجارية و بدأت بالخروج للشارع الفرعي حيث الأبنية السكنية المترامية بعيداً ، و الفراغات الترابية الشاسعة بينها .

عزز ذلك من إصراره على الانتحار في هذا اليوم .. لماذا يبقي على جسدٍ واهنٍ ضعيفٍ بينما الروح القوية الدافعة تغط في موت عميق ؟ تناسلت الأفكار في حيّز ضيق من العبث مرور بصيص أمل فيه ، هي ذاتها الصور الداكنة و المتتابعة ، كيف انتهت حياته كلياً بفقدانه كل شيء في لحظة ! اللحظة التي تبناها للخروج من تهكمات الأهل و ازدراء الأقارب و تأفف الزوجة المستمر !!

أرسل نظره من خلال النافذة المشرعة للأبنية المواجهة له .. كانت تمر سريعاً كأنها تلوّح له بيدين اسمنتيتين راغبة بتوديعه عما قريب ، و ثمة عناق بدا واضحاً لحمامتين تتأرجحان على ظهر أحد الأعمدة ، عناق كأنه يفرض نفسه في حلقة سوداوية تسحّ حزناً و كبتاً لا شبيه لهما ، تذكر أشياء كثيرة رغم عزوف النفس عن ذلك ، ما أنجزه رغم قلة الحظ و تفاوت الإمكانيات ، عاد من شروده مجدداً عندما تهاوت دمعتان من عينيه الداميتين كانتا كفيلتين بتقصي مواطن الضعف و الهزيمة في قلبه .

هبط الليل سريعاً ، فاتفق الظلام الخارجي مع ظلام القلب لينشبا سوية أظفارهما في جسد مقعد تماماً وحركة بالكاد تجسّ بضعة أمتار ، فكر من جديد كيف سينهي حياته بلا أية مضاعفات أو شعور بالألم .. فماهية الألم الجائل في دواخله يجعله يستشعر تلك الحقيقة الغائبة .

أزاح جسده مستقيماً و جال بنظره بين الركاب .. بعضهم مسترخٍ تماماً كأنه يفكر في عناق حار مع زوجته ، و آخر يبدو عليه التوتر فهمّ بقضم أصابعه ، بينما شاب في مقتبل العمر يحاول التلصص بحذر نحو صدر فتاة جلست الى جواره و قد هاله الزغب النامي أسفل عنقها .. أخذ بذلك كله للحظة ، غير أنه استعاد ظلامه و طفق يبحث عن وسيلة ناجعة تنهي له كل ما في قلبه من حزن و عجز .

توقفت الحافلة ، نزلت منها الفتاة ثم تبعها الشاب .. غابا وسط الممرات الضيقة ، أدخل لقلبه هذا التصرف بعض الحيرة !! هل تستحق الحياة منا المحاولة !! سأل نفسه هذا السؤال ثم أسرع يبحث عن إجابة في اللحظة التي تحركت فيها الحافلة بضعة أمتار ، انتبه إذ ذاك لصوت العجلات تمخر الإسفلت ، أراد النزول و رمي نفسه تحتها ..

أعجبته الفكرة .. ثم ما لبث أن راعه هول المنظر ، كيف يكون حاله لو لم يمت في حينها !! كم من الساعات ستمر على جسده و هو تحت الإطارات و ثمة من يحاول تحرير قطع العظم المسحوقة أمام عينيه !! أخافته الفكرة ، فخفتت إرادته و قل عزمه ، ثم ترك لنفسه فرصة أن تسرح قليلاً مع فسحة الظلام بين أعمدة النور المتباعدة .

أرخى الليل سدوله و ما زالت جلبة المحرك تتكفل بالصمت الجاثم على الطريق .. و كل ما عليه الآن فعله هو البحث عن وسيلة أخيرة .. نعم أخيرة ، لقد أخذ على نفسه عهداً ألا يعود .. لن يستطيع مواجهة تلك النظرات الساخطة ، الإحساس بالفشل و ما يعنيه ذلك له و لمن حوله ، هنالك ينتظره صاحب البيت و أمر من المحكمة بطرده من الشقة ، و أربعة أفواه جائعة ، و زوجة تئن و لا تكفّ عن اللوم ، و أب و أم لا يكترثان سوى بترديد نفس الكلمة ..” فاشل ، هامل ” يا إلهي ما كل هذا الذي ينتظرني عند النزول من هذا الباب !!

هل سأتحمل كل ذلك و أواجهه بشجاعة كما قال لي بعضهم !! أية شجاعة هذه التي لا يصافحها ظل الأمل و لو من قريب !! أية حياة تنتظر من فقد عمله جرّاء خطأ اقترفه في عوز و إثر فاقة !! أليس ثمّة من يسامح على هذا الكوكب !! هل نزعت الرحمة من قلوب البشر !!

نعم سرقت .. و اعترفت بذلك و نلت عقابي و انتهى الأمر ، ندمت كثيراً و دفعت الثمن أكثر ، سلبت حريتي على طول خمس سنوات ، و تركت أقاسي مرارة السجن و فظاعته ، شعرت بالحرج و تكسرت مراراً أمام تعنيف الآخرين .. سقطت على نفسي كثيراً و أنا أهرب من نظرات من لم يعيروني يوماً أي اهتمام .. أين كان كل هؤلاء الساخطين عندما طلبت منهم بعض المال !! كلهم أشاحوا بوجوههم البغيضة بعيداً ، مرت نصف الساعة قبل أن ينخزه الرجل المسن و قد صار بجانبه .. نظر نحوه في اللحظة التي تدافعت الدموع على خده .. قال :

لقد شعرت بخطب ما في هذا الجسد الخائر ، في اللحظة التي أردت فيها النزول عنوة من الحافلة .. شعرت بأن ثمة شيء غريب تكفّل في هذا الشرود و الانقباض ، لقد سمعت ما خلته أنت همساً و كان صوتك يعلو و يعلو دون أن تعي ذلك !!

نعم هالني الأمر و أظنك تحتاج ليدٍ ما تمتد إليك .. لا شك أنك ضعيف و بحاجة ماسة للمساعدة ، خذ هذا المال فهو زائد عن حاجتي ، سدّ به جوع أطفالك و ادفع لصاحب الشقة ، و الباقي افتح به مشروعاً يضمن لك حياةً كريمةً .

لم ينبس ببنت شفة ، ظل محدقاً نحو المسن الذي اختفى ظله شيئاً فشيئاً كأنه ضباب يتلاشى .. في حين كان السائق و بعض الركاب ينظرون إليه نظرات ملؤها الشفقة و الحيرة .. نزل من الحافلة و ابتسامة ضئيلة تأتي و تذهب ، فليس ما يصدقه أبداً ..

ما هي إلا لحظات من نزوله حتى اختطفته عجلات الحافلة القادمة من الجهة المقابلة و قد أعلن عن وفاته في اللحظة .

تاريخ النشر : 2017-02-06

أبو زيد

الأردن
guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى