أدب الرعب والعام

المضي قُدُماً

بقلم : نبيل بن عيسى يحيى – الجزائر

أنه لشيء صعب أن تفقدي عائلتك بتلك الطريقة البشعة
أنه لشيء صعب أن تفقدي عائلتك بتلك الطريقة البشعة

 
عرج الباب فظهر من خلفه المحقق “راي” مرة أخرى بمعطفه البني الطويل و وشاحه الأسود حاملاً في يده اليمنى كأس ضخمة مملوءة بالقهوة و في يده الأخرى كان يحمل ملف القضية.

قال وهو يجلس إلى الطاولة موجها كلامه نحو الشخص المقابل له والتي كانت تبدو فتاة مراهقة يمكن القول أن عمرها لا يتجاوز السابعة عشر ربيعاً : حسناً “ماري”، لقد قمت بما طلبته مني و أعطيتك وقتاً للتفكير، والان … هل أنتِ مستعدة للإجابة عن أسئلتي ؟.

اكتفت “ماري” بالصمت بينما أشاحت بوجهها الذي يبدو عليه أثار البكاء بعيداً ، عندها تناول “راي” ملف القضية فأخذ يقلّب أوراقه باهتمام واضح ثم وجّه نظره مجدداً نحو “ماري” و أردف : أتفهم حالتك يا بنيتي … أنه لشيء صعب أن تفقدي عائلتك بتلك الطريقة البشعة ، لذلك أريدك أن تعلمي أنكِ لستي وحدك في هذا الأمر ، جميع أهل البلدة معك لذا لا تفكري و لو لوهلة أنك ستمرين بهذا بمفردك ، أما بخصوص القاتل فنحن نقترب من تحديد مكانه أكثر من أي وقت مضى ، وأعدك بأن العدالة ستأخذ مجراها مثل كل مرة وسترينه بأم عينيك مكبلاً منقاداً إلى عربة الشرطة.

قالت “ماري” و نظرها لا يزال مثبتاً إلى الأرض : حسنا … ما الذي تريد معرفته ؟.
.”راي”: أخبريني بكل ما تعرفينه بدون نسيان أي تفصيل بدءاً بعلاقتك بالجاني.
قالت وهي تمسح دموعها : حسناً ، لا مشكلة.
 
***
 
بدأت القصة مع بداية العام الدراسي الجديد، حيث كنت حينها أنا وصديقتي المقربة “سارة” متحمسات جداً للعودة إلى المدرسة بعد غياب طويل ، خصوصاً بعدما سمعنا من أحد صديقاتنا أن صبي جديد سينضم إلى فصلنا و قد أتى من المدينة للعيش هنا مع جده بعد انفصال والديه ، وعندما رأيناه لأول مرة في الفصل تأكدت الشائعات التي تقول بانه وسيم جداً فكانت أنظار جميع الفتيات عليه ، إلا أنه لم يكن كما تخيلته ، أعني لقد كان وسيماً لكن ملابسه وتصرفاته بدت لي غريبة بعض الشيء.

 قال “راي” باهتمام: غريبة ، كيف ؟ وضحي من فضلكِ ؟.
قالت ماري : أعني انه كان يرتدي جاكيت وسراويل سوداء مدببة معظم الوقت فكان يبدو وكأنه ينتمي إلى عصابة ما أو شيء من هذا القبيل ، أما تصرفاته ، لا أعرف كيف أصفها لك ، نعم لقد كان يبدو وكأنه يمثل أعنى أن تصرفاته كانت تبدو و كأنها مدروسة ، حتى حديثه فكان يبدو وكأنه تدرب عليه ، باختصار كان ذلك أبعد ما يكون عن العفوية.
هل شككت في ذلك الحين أنه يخفي شيء ما ؟ أخذ “راي” رشفة من كوب قهوته ثم أكمل .
قالت “ماري” : بالطبع فعلت ، إضافة إلى ذلك لقد كان محبوبا جداً و مثالياً جداً ، حقاً أزعجني ذلك وشعرت بأن هنالك شيء خاطئ.

قال “راي”: حسناً ، أخبريني الأن كيف بدأت علاقتكما ؟.
“ماري”: أتعلم … لقد تفاجأت حقاً عندما أتى للتحدث إلي بعد المدرسة و دعاني لشرب القهوة. أعني أنني كنت قد لاحظت نظراته لي في الفصل لكنني لم أتخيل أن يصل الأمر إلى هذا الحد . و هكذا بدانا نتواعد حتى وصل بنا الأمر إلى تبادل القبلات في كل لقاء ، قلت حينها أنني كنت مخطئة بشأنه فهو رومنسي حقاً و أنه ألطف مما يبدو ، حقاً كنت أعيش أفضل أيام حياتي فكنت أشعر بنظرات الغيرة من الفتيات الأخريات حتى من صديقتي المقربة “سارة” !.

قال “راي” وهو يتفحص أوراقه من جديد : أشعر أن لصديقتك “سارة” دور أكبر مما ذكرته في القصة ، لا تنسي أن أصغر التفاصيل مهمة فلا تتناهي عن ذكرها.
قالت “ماري” مترددة : حسناً ، لقد حاولت أن تفرق بيننا عدة مرات لكنه كان في كل مرة يتشبث بي أكثر فأكثر مما جعلها تحقد علي أكثر فأكثر و بسببه انتهت صداقتي معها.
قال “راي” موجها نظره نحوها: هل كانت لصديقك أية أفكار عنيفة أو تكلم عن أي شيء غريب مثير للشك ؟.

“ماري”: حسناً … لقد كان يعشق أفلام الرعب والقتل حتى أنه يملك سلاح رشاش في منزله ، و قد طلب مني أكثر من مرة أن أرافقه إلى الغابة لكي أصوره و هو يطلق النار على الأشجار.
أمعن “راي” النظر في عينيها ثم قال: لكننا فتشنا كل ركن في منزله ولم نجد أي كاميرا أو فيديوهات من هذا النوع.
قالت “ماري” بارتباك: لا بد أنه أخفاها في مكان ما ، أنا متأكدة من ذلك.
قال “راي”: حسناً… أريدك الأن أن تروي لي ما رأيته يوم حدوث الجريمة بالتفصيل ؟.
بقيت “ماري” صامتة لدقيقة كاملة قبل أن تجيب: احتاج لوقت بمفردي.
قال راي و هو يستعد للنهوض : لا مشكلة.
 
***
 
توجه المحقق راي نحو مكتبه ليجد رئيس قسم التحقيقات “هارولد سويتمان” جالساً على الكرسي أمام المكتب.
“هارولد”: أي جديد “راي” ؟.
قال ” راي ” و هو يجلس على كرسيه : ليس بالكثير ، لكننا نحرز تقدماً نوعاً ما يا رئيس.
قال “هارولد” وهو يشعل سيجارة : تباً … مسكينة تلك الفتاة ، لقد رات بعينيها جثث عائلتها غارقة في الدماء ، تخيل المنظر فقط لهو شيء مرعب بحق.

خيّم الصمت طويلاً ثم قال “راي”: قلنا أن دافع الجريمة هو المال أليس كذلك ؟ هز “هارولد” رأسه ثم أردف “راي”: لكن لماذا ترك حي الأغنياء الذي يبعد ثمانمائة متر عن حي جده  و قام بمجزرة في حق آل “تومسون” من أجل ألفين وخمسمائة دولار فقط ، رغم أنه كان في علاقة مع ابنتهما والتي روت لي أنهما كانا متحابان جداً.
قال “هارولد”: لم لا تسال جده أو والديه ؟.

لا تخبرني فقط أنه مر على الجريمة يومان كاملان وهما لم يعلما بعد !.
قال “راي”: يؤسفني أن أخبرك أنهم لحد الساعة لا يعلمان ما حدث … حاولت الوصول اليهما لكن كل ما اعرفه هو أنهما في سويسرا منذ شهر.
ظننت أن زواجهما انتهى ، قال “هارولد”.
قال “راي”: انتهى بالفعل ، لكنهما لا يزالان زملاء في نفس الشركة ، لذا فقد نالا ترقية وانتقلا للعمل في أحد الفروع التي تم أنشاءها حديثاً في العاصمة السويسرية ليتركا أبنهما في هذه الحالة الحرجة.

و نعم الوالدان… ماذا عن جده ؟ ، سئل “هارولد” باهتمام.
رد “راي”: لقد كان عنيداً جداً فهو لم يدعني ادخل لمنزله حتى أتيت له بمذكرة تفتيش ، إضافة إلى ذلك فهو لم ينبس ببنت شفة… اكتفى فقط بالجلوس فوق كرسيه الهزاز والنظر إلى صورة حفيده طوال الوقت ، أشعر بالشفقة عليه فقد كانا مقربين جداً.
قال “هارولد” بسخرية: ذلك العجوز… لطالما كان “غاري باركر” عنيداً وحساساً في نفس الوقت.

قال “راي”: عذراً يا رئيس علي أن أواصل جلستي مع “ماري تومسون” الأن.
بالتأكيد لا مشكلة.
 
***
 
عاد المحقق راي مجدداً إلى غرفة الاستجواب ليجد ماري على نفس الحالة التي تركها عليها عندما غادر الغرفة منذ قليل.
هل أنتِ مستعدة الأن ؟.
قالت “ماري”: أظن ذلك… نعم.
“راي”: أبدئي متى أردتِ ، خذي وقتك.
حسناً ، كما ذكرت من قبل كنا نتواعد… فكان كل مساء بعد المدرسة يرافقني إلى منزلي ونقضي بقية اليوم معاً في غرفتي ، و والداي بطبيعة الحال لم يعجبهما أمر علاقتنا و قضائه للوقت معي في الغرفة لوحدنا ، فكان دائماً ما ينتهي الأمر بالشجار بينه وبين أبي ، حتى وصل الأمر إلى عراك بالأيدي وينتهي بي الحال معاقبة كالعادة.

قال “راي”: عذراً على المقاطعة ، لكن عندما سئلت عمتك “جين” عن طبيعة علاقتك مع والديك أخبرتني أنك كنتِ دائمة الشجار معهم و في أغلب الأحيان بدون سبب ، و ذلك فقط لأنك كنتِ تغارين من شقيقك الأصغر “جوني تومسون” الذي قُتل مع والديه قبل يومين.
قالت “ماري” بانزعاج واضح : ما الذي تحاول الوصول اليه بهذا القول هاه ؟ ، أعترف أنني كنت أغار من شقيقي “جوني” لأنه ينال دائماً كل الاهتمام ، لكنني لم أكن يوماً أي مشاعر سلبية نحوه هو أو والداي.

قال “راي” محاولاً تدارك الموضوع : أردت التأكد فقط و قد فعلت الأن ، إن لم تمانعي واصلي من فضلك.

بقيت تنظر للمحقق “راي” ثم وجهت نظرها نحو الأسفل وأكملت: بعد أن منع علي أبي الخروج و ملاقاته بدء يتسلل عبر النافذة إلى غرفتي كل ليلة ، بقينا على تلك الحال لمدة أسبوع حتى اكتشف أبي الأمر فاتصل بالشرطة هذه المرة ، ليقضي “كولسون” تلك الليلة في سجن البلدة مما جعل كرهه وحقده تجاه أبي يتضاعف ، بعد ذلك الحادث بأسبوع أخبرني بتلك الكلمات التي صُعقت عند سماعها ، أخبرني أنه يحبني جداً و أنني حب حياته و أنه يريدني أن أهرب معه لنعيش معاً بعيداً عن هذه البلدة القذرة ، رفضت عرضه رفضاً قاطعاً و أخبرته أنني لا أستطيع ترك عائلتي ، فخضنا نقاشاً حاداً انتهى بانفصالي عنه ، أتذكر أنه ترجاني أن لا اتركه ، لكنني لم استطع تحمل أي ثانية أخرى برفقته ، خصوصاً عندما اخبرني أنه يريدني أن أسرق مبلغاً معيناً من والداي كي نستعمله للهروب.

صمتت لبرهة ثم أكملت: أخر مرة رأيته فيها كانت عندما كنت عائدة من منزل عمتي ، و إذا بي أجد الباب مفتوحاً ، عندما دخلت وجدته واقفاً هناك حاملاً سلاحه بينما كان الجميع غارقاً في الدماء و…

أجهشت “ماري” بالبكاء بعد تذكرها لتلك التفاصيل البشعة ، فأخذ المحقق “راي” يربت على كتفها محاولاً تهدئتها.
لست مضطرة للمواصلة ، أظن أن هذا كاف…

قاطعته “ماري”: لا… لا بأس سأكمل… بعد رؤيتي لذلك المنظر رحت اركض بأقصى سرعتي في ذلك الوقت المتأخر من الليل ، و كلما كنت أسمع خطواته و هي تقترب مني كلما خفق قلبي أكثر وأكثر حتى ظننت أنه سيغمى علي ، لكن رغم ذلك واصلت الجري إلى أن وصلت إلى الغابة التي أنقذت حياتي فعلاً ، رحت اختبأت خلف أحد الأشجار ، فبحث عني طويلاً حتى سمع صوت سيارات الشرطة قادمة عندها فر هارباً مع المال المسروق.
قال “راي” ومشاعر الشفقة تغمره : شكراً جزيلا ، أظن أن هذا كاف ، أسف مجدداً لما حصل.

خرجت “ماري” من غرفة الاستجواب متوجه نحو غرفة الانتظار حيث وجدت عمتها “جين”، ليتعانق الاثنان و تشقا طريقهما خارجاً بين الصحفيين الذين تدافعوا للحصول على تصريح من إحداهما لكن دون جدوى.
خرج راي مسرعاً من الغرفة ليلاقي في طريقه رئيس قسم التحقيقات.
سأله “هارولد”: إلى أين أنت ذاهب في هذا الوقت ؟.
أجاب “راي”: إلى منزل “باركر”.
 
***
 
ها قد وصل وها هو ذا منزل آل “باركر” وعلى الشرفة كان “غاري” العجوز جالساً فوق كرسيه كعادته في هذا الوقت من المساء.
نزل راي من السيارة و توجه نحو “غاري” ملقياً عليه التحية.
كيف حالك يا “غاري” ؟.
اكتفى “غاري” بالصمت بينما أردف “راي”: يوم ممطر أخر هاه ؟.
هذه المرة نظر “غاري” نحو راي بدون أن يحرك رأسه و قال : ما الذي تريده مني هذه المرة ؟.

قال “راي”: أسمع “غاري” أعلم أنك لا تحبني ولا أظن أنك تحب أي شخص أخر ، لكن أريد منك أن تساعدني هذه المرة فقط ، حفيدك مفقود منذ يومان ألا تريد معرفة مكانه وسماع صوته من جديد … ألا تريد معرفة حقيقة ما حدث ، هنالك فتاة فقدت جميع أفراد عائلتها و هي تنتظر الأن تحقيق العدالة ألا تريد المساهمة في ذلك وإمساك القاتل ، حتى ولو كان هذا الأمر على حساب حفيدك .
“كولسون”…

وقف “غاري” عن كرسيه و توجه بخطوات بطيئة نحو باب المنزل بينما راح “راي” يتبعه بنظراته ،
فتح غاري باب المنزل و قال : تفضل.

دخل “راي” المنزل و جلس على أقرب أريكة بينما دلف “غاري” إلى أحد الغرف و عاد بعدها حاملاً ظرفاً ثم جلس على الأريكة المقابلة ل “راي” و قال وعينيه مثبتتان على الظرف الذي بين يديه : لطالما تعرض “كولسون” للتنمر في صغره ، ربما بسبب عفويته المفرطة و براءته و ضعف شخصيته ، كره نفسه كثيراً بسبب ذلك التنمر الذي تبعه طوال فترات حياته ، عندها اتجه إلى المخدرات التي كادت تودي بحياته مرة لذلك عاهدني بأنه لن يلمسها مجدداً ، فبدء بإصلاح نفسه ليصبح شخص أفضل و ذلك عن طريق التطوع للقيام بأعمال خيرية ،

كذلك كنت أراه من حين لآخر يكلم نفسه في المرآة ، أظنه كان يتدرب كيف يحاور الأخرين فهو لطالما كان منعزلاً لذا كان يحاول أن يبدو مثالياً في أعين الناس و أن يكون شخصاً أخر، لأن كونه نفسه لم يكن خياراً بالنسبة له ، بعدها حدث واحد قلب كل شيء راساً على عقب ، نعم ، لقد كان طلاق والديه ، أصابه اكتئاب حاد خصوصاً عندما أرسلوه هنا للعيش معي ، فقد شعر بأنهم تخلوا عنه ، عاد كذلك لتعاطي المخدرات والتي بسببها بدا بالسرقة ، فلم يكتفي بسرقتي بل وصل الأمر إلى التقرب من الفتيات واستغلالهم ليجلبوا له الأموال إلى أن وصل الأمر إلى نهايته قبل يومين ، بقيت اتصل بوالديه لكن لا احد يرد.

نظر “غاري” إلى المحقق “راي” بعينين دامعتين و قال : اعرف “كولسون” جيداً ، صحيح أنه مدمن لكنه ليس قاتلاً ، أعرف هذا جيداً ، إن حفيدي ليس بقاتل.
امسك “راي” بيد “غاري” العجوز و قال: لا بأس يا “غاري” لا بأس.
مد “غاري” يده ليعطي الظرف للمحقق “راي”.
قال “راي” ما الذي يوجد داخله ؟.
رد “غاري”: رسالة من “كولسون” مع عنوانه الحالي … أرسلها لي بالأمس.
كانت الرسالة كالاتي :

مرحباً جدي ، أنه أنا “كولسون”، أظنك سمعت بما فعلته لذا أنا أسف جداً لتشويهي لأسم العائلة و نزولي به إلى الحضيض ، لقد كنت أنانياً جداً و لا استحق جداً طيباً مثلك ، لطالما وقفت معي في الشدائد و أمنت بي في حين لم يفعل أحد ذلك حتى والداي ، أنت حقاً أفضل إنسان عرفته في حياتي.

أنا نادم جداً على ما اقترفته يداي فضميري يؤنبني في كل ثانية تمر ، لذلك قررت كتابة هذا الاعتراف لأروي كل ما حدث دون أي زيادة أو نقصان ، أولاً تعرفت على هذه الفتاة اسمها “ماري” تدرس معي في نفس الفصل ، جاءت للتكلم معي بعد المدرسة و دعتني لشرب القهوة معها ، وافقت على ذلك ، و شيئاً فشيئاً تطورت علاقتنا و بدأنا بالمواعدة ، صراحةً لم أكن لها أية مشاعر كنت أواعدها لأجل غرض أخر و الذي سأذكره الأن ، أتى ذلك اليوم الذي أخبرتها فيه أنني أدين لأحد الرجال الخطيرين بمبلغ معين و إن لم أسدده فلا أظن أنني سأكون بالجوار بعد الأن ،

طلبت منها أن تجلب لي مبلغ ألفين و خمسمائة دولار ، فقالت لي بأن والداها يكرهانها ومستحيل أن يعطوها هذا المبلغ ، و بقيت تروي لي مواقفاً مرت بها بسببهم و ظلت تلعنهم ، حينها قلت في نفسي بأن هذه الفتاة تكره والديها حقاً لذا لا أنكر أنني أردت استغلال هذا لصالحي و طلبت منها أن تفتح نافذة غرفتها و تتظاهر بالذهاب إلى منزل عمتها لكي يتسنى لي الدخول بسهولة وسرقة المال من المكان الذي أخبرتني أنهم يخفونهم هناك ، واتفقنا في الأخير أن ننفذ خطتنا في الغد.

عندما اقترب موعد تنفيذ الخطة كانت الساعة حوالي السابعة أو الثامنة مساءاً ، كنت واقفاً في الجهة المقابلة لمنزل “ماري” انتظر خروجها بحيث كانت تلك هي إشارة دخولي عبر النافذة ، بدت لي خطة مثالية بحيث أدخل أخذ المال ثم أخرج من نفس مكان دخولي ، و هكذا لن يقوموا بلوم “ماري” لأنها لم تكن هناك حتى تسرق المال لكنها ستُلام لأنها تركت النافذة مفتوحة.

خرجت “ماري” وها أنا ارتدي قناعي واضعاً يدي في جيبي لتفقد سلاحي، و أقر أن أسوء قرار اتخذته في حياتي هو إحضاري لذلك السلاح في المقام الأول ، تسلقت عبر الشجرة لأدخل عبر النافذة ، توجهت مباشرةً نحو غرفة نوم والديها ، كان الباب مفتوحاً وكان الجميع في الطابق السفلي يتناولون العشاء ، اتجهت نحو الخزانة حيث المال لأجد الفان وخمسمئة دولار بالضبط ، غريب جداً لكنني لم اشغل بالي كثيراً لظني بأن ماري من وضعتهم هنا لأجلي ، وضعت المال في جيبيي لأهم بالخروج حتى رأيت السيدة “بولي” تنظر إلي بوجه مصدوم ، أخرجت سلاحي و أشهرته عليها طالباً منها التزام الصمت وقدتها إلى الطابق السفلي حيث يوجد الجميع ،

عندما رأوني خضع الجميع عدا والدها الذي حاول أن يقاومني و ينتزع مني السلاح ، وعن غير قصد اطلقت عليه رصاصة استقرت في معدته ، بدأت زوجته بالبكاء والنواح بينما حاولت تضميد جراحه فيما اختبئ “جوني” الصغير تحت الطاولة غير مصدق لما يحدث ، حتى فُتح الباب و ظهرت “ماري” بعينين مصدومتين ، طلبت والدتها منها أن تهرب لكنها تنفست عميقاً ثم طلبت مني إنهاء الأمر تحت صدمة الجميع ، أما أنا فبقيت صامتاً مصدوماً من هول الموقف ، ثم أخذت السلاح من يدي واطلقت النار بدم بارد على والدها و والدتها رغم توسلاتهما ، ثم طلبت مني أن اتبعها ، لكن قبل خروجها تنبهت لشقيقها جوني ، أخبرتها أن نذهب ونتركه ، لكنها لم تستمع لي وقامت بإطلاق النار عليه بوحشية فيما ازداد خوفي منها أكثر لأنها مجنونة حقاً ،

أعطتني السلاح و طلبت مني أن نهرب معاً عبر الغابة ، لم أعرف ماذا افعل في ذلك الوقت فما كان أمامي من خيار سوى تنفيذ أوامرها ، رحنا نركض بين الأشجار في ذلك الظلام دون هدف أو وجهه إلى أن سمعنا صوت صافرات الشرطة ، عندها أخبرتني “ماري” أنها تعبت و ستلحق بي بينما أكملت أنا طريقي راكضاً بأقصى سرعة مبتعداً عن سيارات الشرطة التي توقفت في المكان الذي تركت ماري فيه.

أرجو أن يكون هذا الاعتراف مفيداً ، وأكرر مجدداً أنني نادم جداً على هذه الفعلة الشنيعة في حق عائلة بريئة ، تأكد أنه أثناء قراءتك لهذه الرسالة أنني لست بالجوار بعد الأن ، وداعاً يا جدي.

مع حبي ، “كولسون”.
 
***
 
صُدم المحقق “راي” مما قراءه في الرسالة ، و لكن و رغم تطابق المحتوى مع ما وجدته الشرطة إلا أنه لم يتم إثبات صحتها لعدم وجود الأدلة وتمت إدانة “كولسون” على أنه هو القاتل الوحيد وتم إغلاق القضية ، فيما اتبعت الشرطة عنوان المسكن المدون خلف الرسالة ليجدوا “كولسون باركر” مستلقياً في حوض استحمامه عارياً و ميتاً جراء جرعة زائدة من المخدرات ، و تم تسجيل الحادثة على أنها انتحار.

أما “ماري تومسون” فانتقلت للعيش مع عمتها “جين” في مدينة أخرى وبعيدة جداً عن بلدتهما لبدء حياة جديدة و نسيان الماضي ، فيما توفي العجوز “غاري باركر” بعد تلك الحادثة بأسبوع جراء سكتة قلبية عن عمر يناهز الثمانين عاماً.
 
***
جلس “راي” في مكتبه مثبتاً نظره على أوراق القضية بينما دخل الرئيس هارولد حاملاً كوبين من القهوة الساخنة.

قال “هارولد”: لقد أغلقت القضية و انتهى الأمر لماذا ما زلت شاغلاً عقلك بها ؟.
رد “راي”: لا يُفترض أن تنتهي القضية بهذه البساطة و بهذا الشكل ، كما أنني متأكد تماماً بأن هذه ليست العدالة التي وعدت بها “ماري تومسون” والعجوز “غاري”، أشعر بأن كل هذا خطئي ، كان علي فعل الأفضل.

قال “هارولد” مطمئناً : أنه ليس خطئ أحد ، فما حدث قد حدث ، كما أن هيئة المحلفين أوغاد فحتى لو كان هنالك دليل على صحة الرسالة ، فسيجدون طريقة لتبرئة الفتاة بحكم تعاطف الجميع معها.
اخذ “راي” رشفة من كوبه و قال : ربما معك حق ، لن نعرف أبداً من كان صادقاً لعدم وجود أي شاهد.
قال “هارولد”: ربما عليك أن ترتاح قليلاً ، لا شيء أفضل من المنزل يا رجل.
رد “راي”: هذا بالضبط ما كنت سأفعله ، إذاً أراك غداً في المكتب.
وداعاً.

ركب “راي” سيارته رباعية الدفع متوجها نحو منزله و هو يفكر في كلام رئيسه في العمل حول نسيان هذه القضية وتجاوز الأمر ، وهذا ما فعله “راي” لقد تجاوز الأمر مثلما فعل الجميع ، فالأفراط في التفكير لن يرجع أي شيء لسابق عهده ، وإنما علينا جميعاً في مرحلة ما من حياتنا تجاوز الأمر والمضي قدماً في الحياة.
النهاية……..

تاريخ النشر : 2020-09-21

guest
11 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى