أدب الرعب والعام

الوجه الآخر للعالم – داخل زمن تحكمه النازية

بقلم : تقي الدين – الجزائر
للتواصل : [email protected]

شعار النازية كان يستلقي على أوربا كلها باستثناء إيطاليا ، كما امتد ليشمل النصف الشرقي من أمريكا
شعار النازية كان يستلقي على أوربا كلها باستثناء إيطاليا ، كما امتد ليشمل النصف الشرقي من أمريكا

 

قبل البدء أود التنويه إلى أن هذا واحد فقط من السيناريوهات العديدة التي يمكن أن تُطرح على طاولة التاريخ الموازي .

هدوء الليل ، صوت الوابل المخيف و الظلام خلف ذلك الكهف ، كلها عوامل جعلته يتوقف للحظة و مصباح الزيت الصغير يتأرجح بين يديه ، كان الشخص الوحيد الشجاع كفاية ليتسلق ذلك الجبل الملعون ، لكنه الآن يقف على حافة التردد ، صوت رخيم من خلف الظلام تردد صداه فجعله يتراجع فزعاً :

– اقترب أيها الباحث … فلا عودة لك بعد كل ما قطعت.

خطوة بخطوة دلف الكهف لتنير مجموعة شموع اشتعل فتيلها على حين غرة طريقه ، فوق صخرة صغيرة جلس شاب يافع ، أسمر البشرة ، بشوش الوجه ، تغطي ذقنه لحية خفيفة سوداء يحدق له ، تداخلت مشاعر الباحث فهل هو في حضرة إنسان أم ملاك كما قيل له ، أراد أن يتحدث لكن الشاب قاطعه :

– أنا أعلم ماهية بحثك ، لقد جئت هذا المدخل لترى العالم الذي أتيتُ منه ، عالم مظلم تريد أن تكتشفه و تغوص فيه ، لكني لا أفهم لماذا تريد ذلك ؟ .

تسارعت أنفاسه و انعقد لسانه ، كاد أن يقرص نفسه فقط ليقتنع أنه لا يعيش حلماً و دفع بنفسه للقول :

– شغف قاتل لكتابة رواية دقيقة عنه .

– إذاً المال هو ما تبحث عنه ؟.

– لا ، بل المعرفة .

نهض الشاب من مكانه و سأل :

– ما اسمك ؟.

فرد ضيفه بصعوبة :

– جب …. جبران.

– حسناً جبران ، يمكنك دعوتي بالناسك في رحلتنا هذه ، لكن علي أن أحذرك أن قفزاتنا ستكون سريعة و مفاجئة و عليك أن تكون مستعداً لتأخذ كم المعلومات ذلك على عاتقك .

هز الباحث رأسه بخفة موافقاً.

مد الناسك يده ببطء و أضاف :

– أمسك يدي و دعنا نبدأ ، لا مجال للتراجع الآن . فكر الباحث في سره قبل تلامس يده يد الشاب و تسحبه في لحظة بعيداً عن ذلك المكان .

***

شعر كأن العالم يدور من حوله و هو ينظر غير مصدق لشوارع مدينة نيويورك أسفله ، حركة السيارات ، ملابس رسمية أنيقة فوق جسد كل فرد و مباني طويلة كهذا الذي وقف على سطحه تحيط به ، صوب نظره للناسك و قد ومض بريق من التساؤل في عينيه فأجابه و قد لاحظ ارتباكه :

– 13 من ديسمبر عام 1931 ، أنت تنظر الآن للشارع الخامس ، و سيارة الأجرة التي توقفت تواً بمحاذاة الرصيف تقل وينستون تشيرتشل لاجتماع مع زميله بيرنارد بروك .

نظر الباحث لأسفل فلمح رئيس الوزراء بنفسه يعدل قبعة الهومبورغ التي لا تفارق رأسه و هو يقطع الشارع ، للحظة شرد و هو يمعن النظر لكن الشاب انتشله قائلاً :

– بالطبع في عالمك سينجو السيد تشيرتشل من حادث المرور الذي سيقع له بعد أن يرتكب خطأ ساذجاً ألا و هو النظر للاتجاه المخالف للشارع ، بحكم العادة فحركة الطرق في بريطانيا تسير عكس الحركة هنا ، سيُصاب بكسور في الأضلاع ، يعاني من صعوبة في التنفس و إصابة في القدم ستجعله يستند على عكازه لوقت طويل ، لكن هنا …

انقطعت كلمات الشاب على وقع صرير عجلات قوي وصل صوته لهما فنظر جبران مرة أخرى لأسفل فقط ليُصعق بمنظر تشيرتشل مستلقياً على الأرض دون حراك و مُحاطاً بمجموعة مارة متفاجئين من الحادث .

أكمل الشاب حديثه كأنه لم يتوقف :

– ذلك الوزير الحكيم يموت و هكذا يحدث الشرخ الذي سيغير وجه العالم كما تعرفه .

***

مد الشاب يده مجدداً و قد أمسكها الباحث على مضض فصورة تشيرتشل ستظل عالقة في ذهنه للأبد إذ أنه كان واحداً من شخصياته السياسية المفضلة ، و في لحظة وجد نفسه يقف أمام قصر وستمنستر الذي تجمع حوله مئات المتظاهرين الغاضبين و في خضم تلك الفوضى لمح لافتة كُتب عليها

” لا نريد وود “.

استدار للشاب متسائلاً بفضول :

– وود ؟.

فرد قائلا بابتسامة سقطت بغرابة على ذلك الوضع المأساوي :

– 24 من ماي 1940 ، إدوارد وود أو كما يُسمى عند مواليه لورد هاليفاكس هو من خلف تشيرتشل كرئيس وزراء و قد تم تعيينه رسمياً قبل حوالي أسبوعين ، و منذ ذلك الحين و المظاهرات مشتعلة خاصةً بعد ما احتل الألمان كلاً من بلجيكا ، هولندا و فرنسا – و لما كل هذا الغضب ؟ أضاف الباحث سؤالاً آخر ليتلقى إجابته بسرعة :

– وود ليس محبوباً لدى حزب العمال البريطاني فهم يعتقدون أنه يبحث عن السلم في وقت الحرب ، و ثق بي حين أقول لك أن الوضع في الداخل أسوأ ، إنها فوضى حقيقية و لا يوجد شخص قوي ليوحد الصفوف .

فجأة دوى صوت انفجار قوي أصمت تلك المظاهرة الصغيرة و جعل الحضور يستدير ليشهد الكارثة التي توقعها ، سحابة دخان سوداء ضخمة عقدت في الأفق و بدا كما لو أن انفجاراً حصل قرب الساحل ، اجتاحت طائرات اللوفتفافه (1) المجال الجوي و وصل صدى مراوحها حتى جدران العاصمة ، فبدأ الهلع و تفرق الجمع كالخراف يركضون في كل اتجاه ، و من وسطهم انبثقت صرخة شفقة :

– لقد وصل النازيون !.

سار الشاب بهدوء كأنه في عالم آخر و تبعه من الخلف الباحث بخطوات متسارعة ، وضع الناسك يده في جيبه كأنه دليل سياحي و قال ملاحظاً ملامح الخوف على وجه الباحث :

– لا داعي للهلع ، سنغادر قريباً ، لكني أردتك أن ترى البوادر الأولى لاجتياح إنجلترا من طرف النازيين .

توقف جبران عن المشي قائلاً بإرتباك :

– اجتياح كامل ؟.

أجاب الشاب :

– نعم يا صديقي ، دعني آخذك لمكان أكثر سوداوية لعله ينير طريقك .

***

كل ما رأته عيناه هو الموت ، جثث جامدة مترامية ، غربان تحوم فوقها و الغبار المتناثر من المنازل المدمرة وصل لأنفه فاختلطت رائحته برائحة العفن المتصاعدة تلك الأجساد الميتة ، كان الأمر أشبه بلوحة تصور معركة رومانية قديمة ، و حتى منظر الغروب الممتزج بصوت البحر الهادئ خلفه لم يستطع إخماد فوضى أفكاره ، بفضاضة ركل الشاب خوذة من على رأس أحد الجنود وقال :

– القوات البريطانية انهمكت بمحاربة الألمانيين الذين هجموا على حين غرة تاركة بعثتها هنا إضافة للقوات الفرنسية كالغزلان للأسود ، القوات الجوية الألمانية لم توقف القصف بل و دعمت هجومها بقوات أرضية ، لا توجد معركة دنكيرك بل إبادة دنكيرك ، و بعد هذه المجزرة يستقيل الضعيف وود من السلطة تاركاً بريطانيا في مستنقع موحل .

بلع جبران ريقه بصعوبة مشمئزاً من بشاعة المنظر و قال :

– و هل كان الجنود البريطانيون لقمة سائغة ؟.

سار الناسك باتجاه البحر لعل المنظر يعدل مزاجه :

– بين موت تشيرشتل و استقالة وود شعروا أن حكومتهم تخلت عنهم فكانت مقاومتهم أشبه بمعركة بين جنود بالأسلحة و جنود بالعصي .

جاوره جبران في الوقفة قائلاً :

– إذاً لقد ازدادت قوته أضعافاً بعدما سيطر على موارد بريطانيا و مستعمراتها ؟ .

رفع الناسك بصره للسماء بحزن :

– ذلك صحيح كلياً … حسناً ، لنعد للعاصمة لندن .

***

أول ما سمعه عند الوصول هناك هو صوت الرصاص ممتزج بضحكات الجنود الألمان ، لقد استمتعوا بالقتل و التنكيل منذ أن حطوا في الساحل الجنوبي لبريطانيا و حتى العاصمة لندن ، من خلف أحد أبواب ذلك الشارع الفارغ برز رجل خائف يدفع بلطف ابنه الصغير بكلتا يديه و خلفهما خرج جنديان نازيان ، حاول الرجل أن يعانق فلذة كبده مودعاً إياه لكنه تلقى رصاصة في ظهره أردته قتيلاً ، ركل الجندي الثاني الفتى فراح يركض جاعلاً من نفسه هدفا يتدربان عليه ، لم تصبه الرصاصة الأولى لكن الثانية استقرت في مؤخر رأسه فرمته على الأرض بقوة و أوقفت حركته ، المخيف في الأمر أنهما وجدا في ذلك بهجة سقيمة جعلتهما يضحكان ملئ شدقيهما ، بخفة سحب الشاب الباحث لزقاق ضيق خلفهما و همس في أذنه :

– لا تقم بأي حركة مفاجئة .

أقترب هدير المحركات تدريجياً حتى اتضح مصدره أخيراً ، موكب من عشر شاحنات محملة بالأسرى من رجال و نساء و أطفال ، لكن حتى صوت المحركات القوي لم يستطع أن يقف أمام صدى الانفجارات التي صدحت من جميع الاتجاهات فجعلت الناسك يوضح سببها :

– لقد استقر هتلر في قصر باكينجهام و تحقق حلمه أخيراً بامتلاكه لبريطانيا ، لكن هوسه المتنامي يفرض عليه أن يدمر كل ما له علاقة بالحضارة الإنجليزية من متاحف و تماثيل ، و لا يتوقف عند هذا الحد فتلك الشاحنات التي مرت أمامنا قبل لحظة محملة بأبرياء ذنبهم الوحيد أنهم لا يطابقون مواصفات العرق الآري النقي الذي يستحوذ على تفكير الفوهرر .

اكتفى الباحث بالصمت مستوعباً كم المعلومات الذي سمعه ثم نطق :

– و هل سيأخذونهم لمعسكر أوشفيتز ؟.

– ذلك واحد من معسكراتهم العديدة ، رد الناسك ثم أدلف :

– لنأخذ في جولة هناك.

انتفض الباحث من قرفصته و قال :

– و لما نفعل شيئاً كذلك ؟.

فتقدم منه الشاب مطمئنا إياه :

– لا تقلق ، فإن لم أكن مخطئاً فإن المكان سيكون شبه فارغ حين نحط هناك .

– و لما الذهاب إذاً ؟.

– حسناً … معك حق ، سنذهب إلى مكان غير ذلك إذاً.

***

أصدرت قدماه صدى قوياً و قد وطئتا على أرضية حديدية ، و ما إن رفع رأسه حتى تجمد مكانه كتمثال أثري في متحف ، لم يصدق عيناه و هو يحدق لتشكيلة جنود بدروع ضخمة سوداء كانت أشبه له بمنظر النمل وسط القرية ، فقط نقط سوداء متقاربة لا تكاد تميز بينها ، رفع بصره لأعلى فشعر أن سقف المستودع الحديدي معلق في السماء و أصابه ذلك المشهد بدوار خفيف ، ربت الناسك على كتفه و هدأه قائلاً :

– لا تجزع ، فهم لا يتحركون إلا بأمر من شخص واحد فقط .

و أشار بيده لمكتب صغير عند الزاوية بدا لهما بعيداً ، خرج منه رجل متوسط الطول ، له ملامح ودية بشكل غريب رغم أنه يرتدي ملابس الإس الإس الرمادية ، سحب من جيبه زوج نظارات وضع نهايته بعناية خلف أذنيه و وقف ينظر بفخر لمجموعة الزومبي الخاصة به .

هنريك هايملر … بالطبع ، همس الباحث و هو يهز برأسه ففي كل كتاب قرأه قط يوجد ذكر لهذا الوحش ، إنه أعتى رجال الدولة لدى هتلر و أكثرهم شراسة .

ضحك الشاب ثم قال : تكاد لا تصدق ذلك ، لكن تجارب هذا المختل نجحت و ها قد كّون جيشاً من الرجال الخارقين سيذيقون المر للعالم.

رد جبران بسخرية :

– ربما ذلك صحيح ، لكن هذه ثلة مقارنة بالجيش الأحمر.

سارع الناسك للخارج دون أن يقول كلمة و لحق خلفه جبران ليجد نفسه يقف وسط مجموعة من أكثر من خمسين مستودعاً مثل ذلك الذي كان فيه يحيطون به من كل جانب ، تصلبت ركبتاه و هو ينظر للشاب يسخر منه قائلاً :

– سيُدحر جيشك الأحمر في أسبوع … هيا لنبتعد من هذا المنظر المخيف .

***

صوت الأمواج تنكسر و ملمس الرمال الناعم تحت قدميه ، وجد نفسه في شاطئ فارغ رمى الناسك نفسه فوقه و قال بخيبة :

– هذه لحظة تؤثر في حقاً ، ففي عالمك كان ليكون هذا المكان الآن مكتظاً بقوارب تحمل جنوداً مستعدين للعبور ليلحقوا الهزيمة بالألمان و كان الأفق ليكون مغطى بسفن و مدمرات الحلفاء ، منظر مهيب ألهم كتاباً و صانعي أفلام ليعيدوا تمثيله من شده تأثيره على التاريخ البشري ، أما هنا فلا وجود للإنزال في شاطئ أوماها ، لا وجود لاجتياح نورماندي و اليوم دال مجرد خرافة لم و لن ترى النور .

– و كيف ذلك ؟.

– الأمريكيون لم يردوا على أية هجوم من اليابانيين بحكم كونها حليفاً للألمان و المساس بها يعني تدمير أمريكا كلياً ، لذا فإن بيرل هاربر كان مجرد بداية لهجمات أخرى مدعومة من النازيين و الفاشيين مما فرض على الولايات المتحدة عقد هدنة مع أوربا بملامحها الجديدة ، و بالحديث عن أمريكا …

***

غابات إيرلندا النقية و هوائها العذب ، قال الناسك و هو يأخذ نفساً عميقا باسترخاء ، فردت الطيور التي اعتلت أغصان الأشجار فوقهما بأجنحتها مبتعدة و انكسر الهدوء بصوت صاخب جعل الباحث يوسع دائرة نظره ليلمح صاروخا ضخما يرتقي عالياً ليعانق السماء الرمادية فسأل بقلق :

– ما الذي ينوون فعله الآن ؟.

رد الشاب :

– ذلك صاروخ في 12 العابر للقارات ، و قد تم تزويده بأضخم رأس نووي عرفته البشرية …

قاطعه جبران قائلاً :

– لا وجود لهيروشيما و لا ناغازاكي.

– لا ، لم يحدث ذلك قط ، فالألمان كانوا السباقين لصنع القنبلة و بعد لحظات لن يكون هناك وجود لنصف الساحل الشرقي من الولايات المتحدة .

صمت الباحث لوهلة ثم قال :

– إذاً لا يوجد مقاومة من الأمريكيين ؟.

ضّيق الناسك عينيه و رد :

– ذلك غير صحيح كلياً ، لقد قاوموا بشراسة لكن القوات اليابانية هجمت بعنف من الجهة الغربية مباشرة بعد أن رست سفن الألمان في ما تبقى من الجهة الشرقية مما دفع بالمقاومة الأمريكية لأن تنحصر في خط ضيق في الوسط يمتد من تكساس جنوباً وصولاً لداكوتا الشمالية .

– و كيف حرّك كل تلك السفن ؟.

– حرّك قواته التي استقرت في مصر بحكمها مستعمرة بريطانية للشرق الأوسط و استولى على حقول النفط … ببساطة ، ضف إلى ذلك الموارد الباطنية لكلاً من الجزائر و ليبيا المندستان تحت ضل إيطاليا .

شرد جبران هنيهة و أحس كأنه سيُجن فكل الطرق تيسرت للألمان بطريقة لم يتوقعها ، فمد الناسك يده مثل كل مرة :

– حسناً ، على الرحلة أن تستمر .

***

صرخات فرح ، موسيقى صاخبة ، بالونات تملأ السماء و شوارع اجتاحتها أجساد أولئك الذين فرحوا بانتهاء الحرب ، تقدم رجل مترنح من الناسك و قدم له زجاجة جعة أخذها دون تردد ثم ناولها للباحث قائلاً :

– لا بد أنك ظمأن .

أخذ جبران الزجاجة و رماها بعيداً بلامبالاة ثم سأل:

– هل انتهت الحرب ؟.

– نعم … 27 ديسمبر 1952 م هو تاريخ لن ينساه الألمان بعد عيد ميلاد الفوهرر بالطبع ، و علي أن أقول أنهم يغتنمون كل لحظة من وقتهم ، فلن ترى هذا الكم من الشبان المخمورين في شوارع برلين.

تموجت جبهة الباحث و هو يسأل متعجباً :

– حقاً ؟.

– بالتأكيد ، فالقيادة تريد شعباً واعياً و منضبطاً لأقصى الحدود ، و مع ساعات العمل المبكرة فإنهم لن يتخلصوا من آثار الثمالة مع الوقت .

– ساعات عمل مبكرة ؟.

– لأكون صريحاً فإن الشعب الألماني لن يكون أسعد الشعوب ، فالتوسع بشكل متسارع سيفرض عليهم العمل لساعات كثيرة لتغطية البيانات و الإحصاءات من كل الطرق التجارية الجديدة ، حساب تكاليف إعادة بناء المستعمرات بأسلوب يطابق رؤية القيادة و غيرها من الأمور التقنية المعقدة .

مد جبران يده ليوقفه قائلاً :

– إعادة بناء المستعمرات ؟.

فأجاب الناسك :

– حسناً ، سآخذك في جولة صغيرة لترى بعينك ثم ننطلق لأحد محطاتنا الأخيرة .

***

أحاطت بهما منازل مبنية على الطراز الكندي من كلا الجانبين ، بباحات أمامية مغطاة بالعشب و طريق عريض معبد ، لاحظ الناسك أن جبران يستمتع بما يراه فصدمه قائلاً :

– العام 2025 م و هذه هي منطقة القصبة ، في العاصمة الجزائرية .

ببطء هز الباحث رأسه :

– ماذا ؟ هذا مستحيل ! لقد كانت هناك أدراج و أقواس ، كيف تمكن ….

قاطعه الناسك :

– سُوّيت بالأرض تماماً كأنها لم تكن مثل أي منطقة أخرى فيها أي نوع من التراث سواء هنا أو في دولة أخرى … استراتيجية بسيطة ، نمحي التاريخ و نبني منازل للمعمرين في نفس الوقت .

همس جبران :

– إنها عملية محو تامة .

وصلت كلماته لمسامع الناسك فقال :

– أعتبرهم محظوظين لأنهم لا زالو يملكون الاسم ، فدول مثل العراق و مصر مُحيت أسمائها و معالمها تماماً لما لها من شهرة و تأثير في التاريخ .

– و لما قد يفعل شيئاً كهذا ؟.

– سترى !.

***

رنين جرس قوي تردد صداه وسط ساحة مدرسة صغيرة و ما هي إلا لحظات حتى امتلأت بتلاميذ يرتدون ملابس موحدة سوداء بربطات عنق و بناطيل بالنسبة للذكور ، و تنانير قصيرة مع جوارب طويلة بالنسبة للإناث ، لاحظ الباحث فتى متنمراً يدفع بلؤم طفلة بشعر أسود قصير فسقط من بين يديها كتاب أحمر صغير كُتب عليه بلون أسود واضح ” كفاحي “.

ضحك الباحث بتهكم فقد درس سطوره بعمق و يعلم أن ما كتبه هو خليط من أحداث حياته إضافة لنظرياته النازية مجتمعين بين دفتي كتاب واحد ، لاحظ الناسك موقفه فقال :

– نعم … مذكرات هتلر هي الكتاب المقدس الآن و يتم تدريسها للأطفال منذ الطور الابتدائي ، فالمدرسة في هذا الحاضر المظلم هي أكثر من مجرد طور دراسي بل قاعدة صلبة يبنى عليها تاريخ مزيف .

– و كيف ذلك ؟.

– الحياة قبل الحرب كانت فوضوية ، مظلمة و مأساوية و كل تلك الحضارات التي حدثتك عنها قبل لحظة غير موجودة في ذاكرة هؤلاء الأطفال ، فتاريخهم يبدأ من يوم ميلاد أدولف هتلر مخلص العالم الذي يعتبرونه هدية الله للأرض ، عيد ميلاده بالنسبة لهم يساوي المولد النبوي بالنسبة للمسلمين و الكريستماس بالنسبة للمسيحيين ، و هو اليوم الوحيد الذي يسمح فيه بالشرب حتى الثمالة .

أوقفه جبران قائلاً بسخرية :

– يا لهم من نبلاء !.

فأكمل الشاب حديثه :

– بالتأكيد … فحصيلة الحرب المقدرة ب 300 مليون قتيل ما هي إلا ثمن قليل لإرساء قواعد جاء بها الله عن طريق هذا المبعوث .

– قواعد ؟.

– نعم … قواعد يا صديقي ، صارمة جداً ! ، فالأجناس الأخرى قد مُحيت تماماً من الخريطة النازية و هذا لأنها أقل مكانة ، الأفراد المصابون بإعاقة يتم تصفيتهم في مراكز سرية فهم عالة على المجتمع و فائض لا يستفاد منه ، الشذوذ ، الإجهاض ، المخدرات ، الدعوة لتمرد بأي شكل من الأشكال و حتى انتقاد شكل أحد المباني أو معارضة قرار بسيط كلها تؤدي للإعدام .

هز الباحث برأسه متسائلاً :

– و كيف يمكنهم الوصول للجميع ؟.

قاده الناسك عبر باب خلفي يوصل مباشرة لأحد شوارع وسط مدينة برلين و أول ما رآه كان شبكة المترو المعقدة المعلقة فوقه بقطارات لا تتوقف عن الحركة ، تتبع مسيرة أحدها فوجدها تتوقف عند أضخم مبنى وقعت عيناه عليه بقبة تساوي حجم البيت الأبيض و عليها نحت شعار نازية هائل يجذب البصر من على بعد كيلومترات ، بدت له كلمات الناسك بعيدة لكنه استطاع أن يركز معه مرة أخرى .

– الإنترنت ، أو نسختهم منها مراقبة من طرف الحكومة طوال اليوم كل يوم ، لا وجود لمواقع التواصل الاجتماعي و وسيلتهم الوحيدة للترفيه عبارة عن نسخة شبيهة باليوتيوب تبث أفلام بروباغاندا طوال الوقت .

من السماء انبثق صوت أنثوي قوي جعل الباحث يقفز في مكانه فوضّح له الشاب قائلاً :

– و أيضاً خطابات بروباغندا تُبث باللغة الألمانية المبجلة من مكبرات صوت ضخمة مرتين يومياً ، عبارة عن جمل مقفاة تمجد القيادة النازية الحكيمة .

– و على كم استحوذت هذه القيادة الحكيمة تحديداً ؟ ، سأل جبران .

ففرقع الشاب أصابعه قائلاً :

– لدي المكان المناسب لذلك .

***

دون أن يشعر وجد نفسه وسط غرفة واسعة ، محاطاً بشاشات ضخمة من كل صوب ، لم يخفي ارتباكه بل و راح يتحرك في المكان باحثاً عن إجابة ، من خلف أحد الشاشات المثبتة في الأرض برز شاب بشعر بني طويل و لحية كثيفة يعدل قبعة بيسبول رمادية فجعل جبران يتراجع بحذر ، اقترب منه الشاب و حدق للناسك مطولاً ثم قال :

– سيفي بالغرض.

ضحك الناسك ساخراً من خوف جبران و قال :

– إنه ليس هنا للتجنيد يا مارك ، الفتى يريد أن يتعلم.

نظر جبران بخفة للناسك و سأل :

– التجنيد ؟.

– نعم ، هذه هي حركة المقاومة الوحيدة داخل القطر النازي ، إنهم ينظمون هجمات إلكترونية في محاولة لفضح جرائم النظام لعل ضمير الأفراد يستيقظ من سباته .

– دعني أريك ، قال مارك و هو يسير ناحية جهاز كمبيوتر قديم ، بسرعة طبع بضع حروف على لوحة المفاتيح فظهرت خريطة عالم ضخمة ، شعار النازية كان يستلقي على أوربا كلها باستثناء إيطاليا ، كما امتد ليشمل النصف الشرقي من أمريكا و معظم دول الشرق الأوسط ، بينما أخذت الإمبراطورية اليابانية ما تبقى من آسيا بالإضافة للجزء الغربي من أمريكا ، أما الفاشيون فقد حصلوا على أصغر حصة و التي تمثلت في شمال إفريقيا .

استدار جبران و سأل :

– و ماذا حدث للنصف الآخر من إفريقيا ؟.

ضغط مارك على زر في اللوحة فظهرت صورة أرض بور لا ملامح للحياة عليها و قال :

– هذا هو النصف الثاني من إفريقيا ، حقل تجارب نووي جاهز بأفراد كانوا يمارسون حياتهم اليومية و هذا ليحصلوا على أعلى دقة ممكنة من النتائج .

جحظت عينا جبران و هو يسأل :

– هل فجروا فيهم قنبلة دون علمهم ؟.

– نعم … ملايين الأرواح من ُصفيت في لحظات ، و يزداد الوضع سوءاً يا صديقي فهؤلاء ارتاحوا من حياة لا أمل فيها ، أما هؤلاء …

تغيرت الصورة فأضحت تظهر مجموعة فلاحين بملابس رثة و قبعات متسخة يحملون صناديق مما بدا كأنه طماطم و خلفهم رجل بملابس رسمية سوداء يحمل بين يديه سوطاً ، أكمل مارك حديثه :

– العرب المتبقون أصبحوا عرقاً خاصاً ، يعيش فقط ليخدم السامين ، أنشأت لهم مراكز إنتاج محددة بنساء يعاملون كالعبيد أو أقل ، يلقحون اصطناعياً ليلدوا ما يطلق عليه ” اللقطاء ” ، مجموعة من البائسين بهدف وحيد في الحياة و هو الخدمة حتى الموت .

صورة أخرى أظهرت ملعب برلين الأولمبي و قد ازداد عدد مدرجاته و على شاشة العرض الضخمة نتيجة المباراة النهائية

” ألمانيا 04 – الو.م.أ 02 “.

وكزه الناسك قائلا بسخرية :

رفه عن نفسك بقليل من الرياضة ، هذه صورة من بطولة كأس العالم للعام الماضي ، إنها تُقام هنا كل أربع أعوام ، ثلاث مباريات تشارك فيها الأقاليم الأربعة …

خفت الضوء لوهلة و انقطع التيار قبل أن يعود مجدداً ، انهمك مارك في شاشة حاسوبه و هو يتمتم بشتائم ثم قال :

– هذه آخر صورة.

لم تكن معالمها واضحة جيداً ، لكن جبران استطاع التقاط ما أظهرته ، مجموعة علماء بمآزر بيضاء يخرجون مما بدا كأنه منشأة صغيرة ، قرّب مارك الصورة قليلاً لعلها تتضح و قال :

– علماء ألمان ، يعملون على مشروع ” إعادة إحياء الفوهرر ” السري و بحسب معلوماتنا فجهودهم لحد الآن لم تكلل بالنجاح .

– هؤلاء الناس مجانين ، همس جبران.

تحرك الناسك في المكان و قال برزانة عاقداً يديه خلفه كأستاذ :

– هنا تنتهي رحلتنا … لا داعي للتنقل للأقاليم الأخرى فبعد بضعة أعوام سيغدر بها الوحش النازي و يلتهمها لتصبح نسخة طبق الأصل من برلين بهياكل عملاقة و شبكة قطارات سخيفة ، و سيزول مصطلح اختلاف الأجناس نهائياً .

استدار جبران لمارك و قال بلطف :

– شكراً على كل ما قدمته .

ثم أمسك بيد الناسك ليعود بين صخور الكهف ، أخذ نفساً عميقاً و صدرت من فمه ضحكة لم يفهم مبتغاها ، استند على ركبتيه و قد أحس كأنه سيُغمى عليه مما رآه ثم قال :

– الآن فهمت لما لا يأتي أحد هنا .

عاود الناسك جلوسه فوق الصخرة كما كان و قال :

– آمل أنك وجدت في هذه الرحلة مغزى يجعلك تقدر العالم الذي تعيش فيه .

حمل جبران مصباحه و قد وجده كما تركه ثم قال :

– العالم مكان سيء في كل زمن .

– العالم لم يكن سيئاً قط بل الناس هم من ينشرون السوء فيه .

استدار جبران لمخرج الكهف مستعداً للمغادرة و قال :

– ربما كلمات روايتي من رحم هذه التجربة ستقنعهم أن يكونوا أفضل .

 

النهاية …

ملاحظة : اللوفتفافه : القوات الجوية الألمانية ، تأسست في 26 فيفري 1935 و تم حلها مع وفاة أدولف هتلر .

مصادر :

https://m.youtube.com/watch?v=8qTVMu8JeW8

 

 

 

تاريخ النشر : 2020-06-23

تقي الدين

الجزائر
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى