أدب الرعب والعام

انتقام من نوع آخر

بقلم : ايناس عادل مهنا – من دمشق مقيمة في اسطنبول
للتواصل : [email protected]

يتخفون بأقنعةٍ بيضاءُ شاحبة ، أطاحوا زوجتي أرضاً ليمزقوا أطرافها بغتةً بمنشارٍ كهربائي
يتخفون بأقنعةٍ بيضاءُ شاحبة ، أطاحوا زوجتي أرضاً ليمزقوا أطرافها بغتةً بمنشارٍ كهربائي

 

سيدي… 

هل تعرفُ شيئاً عن أحلام اليقظة ، تلك الحالة التي ينسلُ فيها الإنسان قبل وإبان رُقاده ليخلط بها بين عالمين …العالم الحقيقي وعالم الأحلام والأوهام حيث تختلط عليك الأمور وتتشابك اﻷحداث لترى نفسك مضطجعٌ على سريرك لكنك تسمع أصواتاً بعقلك ….أصواتًا تصرخ …وأخرى تضحك ، أصواتاً تناديك بأعلى صوتها وتخلق حوارات معك . تغازل زوجتك الرقيقة ، تتسامرانِ بانسجام لكنك بذات الوقت تتصارع مع غيلان البحار وتنصت لسيمفونية الشخير لمن ينامُ بجانبك !! لكن ما من أحدٍ بجانبك -مرئيٌ على الأقل-
هاأنذا أراكَ يا جعفر …تحدقُ فيّ باسماً وتهز رأسك بين فينةٍ وأخرى . وبذات الوقت أرى فوقي سماءً صافية …السحب البيضاء تتبختر لتحجب اشعة الشمس تارةً ، وتارةً أخرى ظلك عليّ هو من يحجبها.

هل أنا نائم ؟ أم هل هذا هو الانتقال الذي حدثتني عنه ؟ وإن كان كذلك لما لاأزال أسمع صوت أنفاسك أمامي كحشرجةِ حمارٍ مختنق ! .

كيف قبلتُ أن تحقنني بعقارك العجيب والذي قررت ولغبائي أن أكونَ أول مغفلٍ يجربه! لستُ أدري لعل حياتي المملة هي السبب.
شعرتُ بأني اتجزأ إلى بلايين الذرات وسبحتُ فجأةً بين المجرات لأغادرُ عالمك السخيف الى عالمٍ بهيٍ مشرقٍ كما وعدتني.

توقفت كل أحاسيسي المادية فجأةً وكأن أحدهم قام بمسحها .حين فتحتُ عيني ورمشت بهما أكثر من مرة لأرى السماء الأرجوانية فوقي! لكن الجو من حولي لم يكن صافياً أبداً 

ورأيت ما يحصل ,أصواتُ رصاصٍ بكل مكان,انفجارات تحدث وصراخ نساءٍ يشتد وأنا أشعر بدوارٍ رهيبٍ جداً ، كنت مستلقياً على ظهري فوق ترابٍ فيروزي اللون رخوي الملمس

تلفت حولي بذعرٍ لأرى جثث هنا وهناك وأعضاء بشرية ممزقة ، ونساءُ تحترق حية، ومجموعة رجالٍ يطلقون عليهن النار بعشوائية صائحين: الانتقام الانتقام! هل أنا بكابوس ؟ هل هذا هو عالم المثاليات الذي وعدتني به يا مخادع ؟ هرولت أحاول الهرب لكن إلى أين ؟ فكل ما حولي نيرانٌ ودخانٌ أسود يتصاعد إلى الجو ليعكر صفو السماء المعكرة أساساً ، لا الأرضُ كأرضنا ولا السماء كما عهدتها، ووسط الفوضى تلقيتُ رصاصةً شعرت بها تخترق صدري ،ارتددت إلى الوراء على إثرها ورأيت دمائي تتناثر كشلالٍ من النبيذ الأحمر وأظلمت في عيني الدنيا .

وعدت أسبح في الفضاء من جديد وعادت الشهب تتسابق بسرعة الضوء من حولي لتحرقني خوفًا وهلعاً حتى همد كل شيءٍ تماماً وسمعت صوتها العذب يناديني: 
– افتح عينيك وكلمني .

فتحت عيناي مرة أخرى لأرى زوجتي الرقيقة تتلمس وجهي بيديها الناعمتين، حدثتني بصوتٍ خفيضٍ مرتبك : هيا انهض إنهم هنا .
نظرتُ لها بغباءٍ شديد أتساءل ( بهذه السرعة ؟) .

فتحت عيناها على اتساعهما وكأنها لا تصدق أني لا أصدق أنهم هنا !! لكن مهلاً من هم؟ و لسوء حظي لم افهم إلا وقد اقتحم المنزل رجالٌ غريبوا السحنة ، يتخفون بأقنعةٍ بيضاءُ شاحبة ويتسربلون بأرديةٍ حمراء فاقعة، أطاحوا زوجتي أرضاً ليمزقوا أطرافها بغتةً بمنشارٍ كهربائي ..صرخت الحبيبةُ حتى تقطعت حبالها الصوتية قبل تتقطع هي وتُعبأ بصندوقٍ أبيض ، وتقطعت أنفاسي رعباً وهلعاً وحزناً عليها.

ضربني أحدهم بكعب بندقيته واجترني خارجاً.
المئاتُ منهم….يحملون مئات الصناديق !

السماء الأرجوانية فوقي وعباءاتهم الحمراء مع الأرض الرملية الزرقاء , منظرٌ مهيبٌ غريبٌ يا جعفر.

مكبلٌ بالاصفاد أمشي وأتلفت حولي بخوف كأيّ أسير مصيره مجهول ,كأسيرٍ لا يعرف إن كان سيقطع ويمزق جسده لأشلاء كزوجته أم سيبقى جثة كاملة متصلة ببعضها …كأسيرٍ يعرف وموقن أنهم يقتادونه للتعذيب ولكن لا يعرف إلى أي مدى سينكلون به فعندما تكون أسيراً لمجانين جميع الخيارات تكون مفتوحة أمامك.

وصلتُ لسيارةٍ كبيرة حشروني فيها مع مجموعةِ رجال. روائح عرقهم مختلطة بروائح أخرى أشد عفناً وقرفًا ، الجميع يلتصقون ببعضهم البعض وكأننا في علبة سردين ، ارتجاج السيارة التي تسير على الأرض الوعرة كانت كافية لتشقلب أمعاء بعضهم فيتقيؤون ولك أن تتخيل اختلاط الروائح ماذا يفعل بنا .ومرت ساعاتٌ لم اقدر على احتسابها حتى توقفت علبة السردين عن المسير وترجلنا ,لاح لنا ذلك المبنى ذا اللون الأصفر الفاقع ولا أعلم لما انتابتني قشعريرةٌ جعلت شعر جسدي ينتصبُ كقطةٍ مذعورة .

ارتجافةٌ تراقصت بأطرافي وهم يقتادوننا إلى تلك البوابة العريضة الخضراء وأتساءل ماذا تخفي خلفها ،ولكني أبصرتُ الحقيفة من أولِ صرخةٍ سمعتها عندما دلفنا إلى الداخل .
صراخٌ وشتائم تصدع بأقذر الصفات والكلمات ..ويعقبونها بكلمة (الخيانة) أصواتُ بكاء وعويل لنساءٍ ورجال …نعم يا جعفر هنا يبكي الرجال يصرخون ولو تركوا لهم أيدي سيلطمون وجوههم كالنساء الثكالى ولكن في هذه الارضُ يا جعفر …الرجالُ هم الثكالى

وبعد أن ألبسوني قميصاً يحمل الرقم (تسعون) احتجزوني بغرفةٍ ضيقة بها نافذة واحدةٌ صغيرةٌ جدًا تكاد لا تدخل ضوءاً لأرى ما حولي وكأنني في غياهب تابوتٍ خانق ولكن التابوت لأرحم مليون مرة من المكان الذي أنا فيه حالياً .. رائحةُ هذا المكان فتاكة شعرت بها تخترق جهازي التنفسي وكأن مائة وخمسون ألف ظربان يشاركني المبيت بها . تجاهلتُ الرائحة قدر المستطاع وتذكرت ما مررت به في طريقي، الجدرانُ العتيقة المهترئة .
الممرات الضيفة والمتشابكة التي يغلب عليها اللون الرمادي الأخضر المتعفن ورائحة العطن والرطوبة القاتلة وغير هذا أصوات الصراخ التي لا تهدأ إلا لتزيدك هلعاً .. 
كل تلك الأشياء كانت كفيلة بتدميرِ عقلك إن كنت مكاني وصدقني لا أبالغ في هذا .

أنت تسمع طيلة حياتك عن جنة الأرض ,فهل سمعت يوماً عن جهنم الارض !؟ أنا وبكل ما أوتيت من قوة وبملئ حنجرتي أصرخ و أقولها لك ياجعفر -أنا في جهنم الارض-
أرى الآن عيونك المتلهفة لمعرفة التفاصيل وأكاد ألتمس فضولك القاتل الذي سيدمرك وسيدمر البشرية إن بقي على هذا الحال, حسناً لايهم الآن لسنا بمسألة مناقشة فضولك هنا، لذا افتح آذانك و اصغي جيداً لما سأقول : 

انحصرت أحلامي حالياً في أن أهرب من هنا فقط ….من هذا المكان أياً كان اسمه …معسكر ..معتقل …مسلخ …حاولتُ أن أصرخ لتنتشلني من هذا الكابوس أو التجربة ، لكنكَ قلت لي سابقاً مفعول العقار أقوى من أن تخلصني منه بسهولة !.
المهم عندي كان أن أهرب قبل أن أمزق الى أشلاءٍ كزوجتي الحبيبة، ولا أبالغ يا سيدي فإن هذا المعسكر أو المعتقل أشد وأقوى وأعنف من أي معتقلٍ آخر قد تتصوره.
إن مصطلح (معسكر التعذيب) ليس بمصطلحٍ جديد عليك أليس كذلك .ألفت هذه الكلمة لدرجة أنك لم ترتعد عند سماعها وكأنني أقول لك بأني ذهبت في نزهة !! 
بل ونتفنن أنت وبني جنسك في تداولها ووجودها بكل بقعةٍ بهذا العالم الموحش والمريض أو بذاك العالم على حدِ سواء، فببدو أن جميعَ العوالمِ متشابهةً بشناعتها ولا وجودَ لعالمِ المثاليات!

صديقي هل سمعت من قبل عن الوحدة( 731 )؟
إن سمعت بها من قبل هذا يسهل علي الكثير لأحكيه لك لكن إن لم تسمع …فأنت مجبر على الاستماع إلي لأنها وعلى ما يبدو النسخة المطابقةُ لذلك المعسكر الجهنمي .
أنت مجبرٌ على أن تعيش تلك التجربة التي خضتها هنا والذي شاءت الأقدار أن أدخل إليه فقط لأحكي لك ، لأشرح لك جزءاً بسيطاً جدا من معاناتي بداخله فهل أنت مستعدٌ لهذا ؟..
لكن قبل البدء خذ نفساً عميقاً ،اجعله يملأ رئتيك حتى النهاية ثم اطرحه بهدوء وروية يا مخادع..
هيا اغمض عينيك وتخيل كل لحظة عشتها أنا,كل دقيقة مرعبةٍ ومخيفةٍ مرت علي هنا ,سأنقل لك بعضا من تفاصيلها ،لكني لست مسؤولا عن تلك الكوابيس التي ستهاجمك ليلاً فأنت من ورطتني بهذا وعليك أن تسمع. فإن كنت مستعداً لتسمع، فاجلس الآن واسمع، آه يبدو أنني كررت كلمة اسمع كثيراً ؟حسناً لا تهتم تعرف إني أثرثر كثيراً.

******

صباحاً أو مساءً لستُ أدري…فالظلمة الخانقة كانت هي المسيطرةُ على المكان ,فُتِحت زنزانتي لأكتشف باباً آخر غير الذي دخلته ولم أعرف مكانه بسبب الظلام المدلهم ، تشجعتُ وعبرته لأخطو عبر رواقٍ تتواثب فيه الألوان كمهرجٍ أحمق. وصرتُ فجأةً بمنتصف قاعةٍ ضخمة ناصعة البياض يقف أمام حوائطها الرجال ذوي العباءات الحمراء يحركون أيديهم صارخين بجنون.. يرتلون كلمة -الانتقام- ويرددونها . أصواتهم تعلو تارةً وتنخفضُ تارة أخرى لتختفي . جفلت بمكاني أحدق فيهم قبل أن أهرول إلى الأمام ,أركض وأركض ولم تنتهي القاعة إلاّ بعد أن خررت على ركبتيّ تعباً فسقط أمامي صندوقٌ أبيض …كان يتضمن الرقم تسعين كرقمي تماماً , صمت الجميع وتقدموا بهدوءٍ مني، ورفع أحدهم الغطاء ليظهر رأسُ زوجتي العزيزة وابتسامتها البلهاء مازالت مرتسمةً على وجهها المقطوع . أشحت بنظري وكدت أن أتقيأ لولا أن دفعني أحدهم بعنفٍ لأسقط أمام الصندوق وأخرجَ قطعةً من الجسد وأقحمها بفمي! 
بصقتها باشمئزازٍ وتراجعتُ زحفاً الى الوراء .تلاحقت أنفاسي .تشقلبت أمعائي للمرة الثانية لكنه عاد من جديد يجبرني على الأكل، تحت تهديد السلاح تخيل يا جعفر يجبرني على أكل زوجتي ! 

اختنق الدمع في عيني وأنا أحاول أن ألوك قطعة اللحم المرّ كالعلقم واستشعرُ طعمَ الدماء ,صرتُ ألوكها باكياً فهاجمتني ذكرياتنا معاً….الحلوةُ والمرة، تزايدت الصور وتلاحقت أمام عيني سنواتٌ قضيناها سوياً، لكن مهلاً تلك ليست ذكرياتي ! 
بل ذكرياتُ زوجتي …من الطفولة إلى الشباب ، ومن معها الآن في شقتنا لم يكن أنا !..لم أستطع رؤية وجهه لكن من يلبس هذا القميص القبيح ليس أنا حتماً!!
شهقتُ هلعاً ورميتُ قطعةَ اللحم احدق فيهم … بجزع .. بارتباكٍ وخوف ، وعلى الرغم من رغبتي الملحة في التقيؤ إلا أن فضولي بمعرفة هذا اللعين فاقت اشمئزازي ,رجعتُ أزحف لألتقط قطعة اللحم وألوكها بسرعةٍ ليظهر هذا المسخ ,لتظهر تلك الخائنه معه..أنهيت القطعة التي بين يدي وهرولت متحمساً هذه المرة أختطفُ قطعةً أخرى وأخرى من الصندوق لأشهد خيانتها, أمزقها بأسناني وألوكُ لحمها بنحيب الانتقام، يخالط الدماء التي تسيل مغرقةً جسدي، ورأيتُ ما لم أكن أتوقعه حتى في كابوسي اللعين هذا حتى انتهى الصندوق وحينها فقط…
طرقَ أحدهم يرتدي زي قاضٍ بمطرقته صائحاً: 
– هذا جزاءُ الخائنِ بعالمنا أيها الغربب, وكلٌ يحاسب على قدر خيانته.

وسلمني منشاراً كهربائياً!

******

فتحتُ عيناي لأراكَ أمامي يا جعفر, تطالعني باستغراب ، نهضتُ بصعوبةٍ متجاهلاً سؤالك عن التجربة لأرى المنشار يتموضع بكل غباءٍ على طاولتك ، التقطه بغير وعيٍ وهرولتُ إلى منزلي بقدمين كالهلام . فتحتُ الباب بهدوء شديدٍ متجهاً إلى غرفتي , لأسمع زوجتي الخائنة تحادثه على الهاتف.
وحينها تطلعتُ فيها بابتسامةِ انتقام ، وشغلتُ المنشار !

*****

تمت بحمد الله

ملاحظة .. القصة منشورة لنفس الكاتبة في موقع آخر 

تاريخ النشر : 2019-04-29

guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى