أدب الرعب والعام

بئر الأرواح

بقلم : يعقوب السفياني – اليمن السعيد
للتواصل : [email protected]

بئر الأرواح
كان هناك بئر زاخرة بالمياه تغذي سكان القرية .. لكنها أضحت مشؤومة !

في قرية صغيرة وفي القرن الرابع عشر ميلادي تقريباً في بلاد المغرب العربي حدثت قصة هي من أعجب القصص وأغربها على الإطلاق ..

كان هناك بئر زاخرة بالمياه تغذي سكان القرية بما يحتاجونه من المياة النقية ، و حدث ذات يوم أن ذهبت إحدى نساء القرية لأخذ الماء منها وبسبب تصدع بسيط على حافة البئر تعثرت المرأة وسقطت في البئر غارقة بين مياهها العذبة بعد أن قاومت فترة وجيزة دون فائدة ، لتضحى جثة عائمة فوق سطح ماء هذه البئر ..

وما هي إلا فترة قليلة حتى جاءت بعض النسوة إلى البئر بغرض أخذ الماء منها ، فشاهدن المرأة الميتة في البئر وهنا بدأ صراخهن بقوة مستنجدات برجال كانوا يعملون في حقل ذرة قريب من البئر ، وتمت النجدة وإخراج المرأة منه ، وتأكد الجميع من وفاتها .. كانت أماً لستة أطفال .

***

لم تكد تمر أسابيع قليلة على تلك الحادثة حتى جرت حادثة أخرى أكثر فزعاً من ذي قبل ، هذه المرة عثر على ثلاثة أطفال بين عمر العاشرة والسابعة وهم يطفون فوق سطح ماء هذه البئر المشؤومة ، وأجسادهم تشع ازرقاقاً كما هو حال الميت غرقاً ، مشهد غريب ومفزع ، فمن الأمور المستبعدة أن يسقط ثلاثة أطفال مرة واحدة في البئر ، وإذا كانت هناك حادثة تعثر وسقوط مشابهة لحالة المرأة كان يجب أن يموت طفل واحد على الأقل أو طفلان لكن ليس ثلاثة ! 

في الأمر شيء غريب ومريب لا نعرف ما هو بالضبط .. هكذا تكلم شيخ القرية وكبيرها أمام سكان القرية محذراً إياهم من ترك أطفالهم لوحدهم قرب هذه البئر ، وأخذ الحيطة والحذر عند الاقتراب منها ، وشدد على ضرورة عدم الذهاب بشكل فردي لجلب الماء ، بل على شكل جماعات تفادياً لحصول حادثة مؤلمة أخرى .

مضت أيام قليلة حتى حدث شيء غريب أذهل سكان القرية وأطلق نظريات عديدة حول البئر ، منها أن البئر مسكونة من الجن ، وهناك من يقول أن البئر تعيش فيها أرواح الغارقين ، وهناك أيضاً من قال أن البئر ملعونة وأن الشيطان الشرير يسكنها ، وكثير من النظريات التي أطلقها سكان القرية بعد أن حدث شيء عجيب للغاية ، وهو أنه في ذات يوم وبينما كان مجموعة من رجال القرية ذاهبين صوب البئر عازمين على إصلاح حافتها ورصها بالصخور القوية تفادياً لحوادث السقوط فيها ، إذ بهم يسمعون صراخاً شديداً يصدر من جوفها ، بدا و كأنه صراخ طفل ، ولكنه كان قوياً إلى درجة أن من في القرية أنفسهم سمعوه ، وجعلهم يهرولون مسرعين نحو البئر ليجدوا الرجال الذين كانوا حوله وهم مرميين في الأرض و قد أغمي عليهم .

***

نقل الرجال الخمسة إلى القرية وهم لا يبدون أي حركة ، وبدأ جلدهم يزرق ، فذهب أهل القرية مسرعين إلى مشعوذ مشهور يعيش في كوخه العتيق في أعلى قمة جبل ، يطلبون منه الإسراع للكشف عن ماهية الشيء الذي أصاب رجال القرية الخمسة ، وعند وصوله و قراءة بعض تعاويذه الغريبة بدأ لونهم الطبيعي يعود ، واستيقظوا مذعورين بشكل كبير يصفون ما سمعوه وشاهدوه في البئر .. حيث قالوا أن المرأة والأطفال الثلاثة الذين غرقوا في القرية ظهروا داخل البئر وهم يرتدون قمصاناً بيضاء يصرخون بشكل مهول .

ما الذي يحدث ؟ هل هناك لعنة أصابت البئر ؟ هل أرواح من ماتوا في هذه البئر سكنوها ؟ السؤال الأهم .. هل نستطيع جلب الماء منها بعد هذه الحادثة التي لم تعرفها قريتنا طوال قرون من الزمن ؟
كانت هذه الاسئلة التي وجهها شيخ القرية للمشعوذ المشهور الذي رد : 
– الامر يحتاج لوقت حتى أعرف ما الذي تواجهونه ، إنه أمر غريب لم أواجه مثله طوال سنوت عمري التسعين

حدث شيخ القرية كل السكان أن الذهاب لجلب الماء من البئر يشكل خطراً كبيراً ، و أن هذه البئر ملعونة بأرواح الموتى ، وأن على سكان القرية البحث عن مصدر آخر للمياه يكون بديلاً عن البئر حتى يحل لغزها .

شكل الأمر أزمة مائية حادة لسكان القرية الذين لم يجدوا مناصاً غير الآبار البعيدة للغاية عن قريتهم لإنقاذ أهلها من جفاف لا يبقي ولا يذر .
لكن الوضع لم يستمر على ما هو ، حيث سمع صراخ مشابه للسابق يصدر من تلك البئر لكن هذه المرة لم يكن الصراخ هو ما صدر عنها فحسب بل انطلق منها دخان كثيف و تصاعد نحو السماء ، دخان قاتم بشدة أبصره كل من في القرية ، ظل يتصاعد لدقائق عدة ثم ما لبث أن توقف و توقف معه الصوت .

***

تصاعدت أزمة البئر وبدأت أشياء غريبة بالحدوث ، منها يباس محاصيل زراعية كثيرة في مناطق الزراعة التابعة للقرية ، حوادث نفوق جماعية في صفوف المواشي و الحيونات التي يربيها أهل القرية ، لم يعد بالإمكان السكوت عن الأمر أكثر ، لذلك توجه شيخ القرية مع بعض الرجال صوب كوخ الساحر طالبين منه الإسراع في الكشف عن ماهية الشيء الذي يواجهونه ، ليفاجئهم بقوله أن ما يحدث هو غضب أرواح الغارقين في تلك البئر ، أما سبب غضبهم و نقمتهم هذه فليس بالإمكان التنبوء به أو التحدث عنه سوى قول أن تلك الارواح لم تمت في البئر بشكل طبيعي وإنما كان هناك من أغرقها وقتلها عنوة ، لا شك أنه من أفراد القرية .. هكذا قال المشعوذ لهم .

عاد شيخ القرية ورفاقه إلى قريتهم المسكينة ونادوا على أهلها أن يجتمعوا لأمر غاية في الأهمية .
اجتمع الناس ينتظرون ماذا سيقول شيخ القرية الحكيم ، فأتى الشيخ و بادر بالقول :
– يا أهل قريتنا الأحباء ، إن الأزمة التي تمر بها قريتنا وجملة الحوادث المرعبة التي صادفناها في هذه الفترة والتي مصدرها تلك البئر المشؤومة كلها ترجع لسبب واحد هو غضب الأرواح الغارقة فيها ، و التي أغرقت بفعل مجرم من سكان هذه القرية ، لا نعلم من هو لكنه أحدكم بالتأكيد ، لن تنتهي أزمتنا إلا بمعرفته و الاقتصاص للأرواح المظلومة منه قبل أن يطال قريتنا غضبها الشامل الذي لا نعرف متى سيحدث لكن من المؤكد أنه قريب الحدوث .

فزع الناس من كلمة شيخ القرية وأسرع الكل في البحث والتقصي عن الهوية المحتملة للمجرم ، المرأة التي غرقت في البئر والأطفال الثلاثة من قتلهم ولماذا ؟ تساءل الجميع و تعجب ..

***

وذات ليلة دق باب بيت الشيخ رجل من أهل القرية الذي قال للشيخ أنه بإمكانه كشف الفاعل خلال ثلاثة أيام شريطة إحضار ما يحتاجه ، وافق شيخ القرية على ذلك واعداً إياه بتلبية كافة طلباته .

كان ما طلبه الرجل هو أن يجمع الشيخ كل سكان القرية إلى جانب البئر ، كلهم دون استثناء ، تردد الشيخ في تلبية طلبه خوفاً من أن يصيب أهل القرية شيء لكنه في النهاية اقتنع بالأمر وتحدث إليهم عن الأمر ، فوافقوا على ذلك واجتمع الكل بجانب البئر ..

جاء الرجل الذي وعد بكشف الفاعل وهو يحمل قدر صغير وكتاب وبعض الأعشاب والمساحيق الغريبة ، وأوقد ناراً تحت القدر ، والناس يشاهدون ما يقوم به ، أضاف بعض المساحيق وتمتم ببعض الكلمات غير المفهومة وهو يقراء الكتاب ، وسرعان ما انطلقت صرخة مفزعة من البئر ، شعر أهل القرية بالخوف الشديد .. 

تكلم الرجل بأعلى صوته قائلاً :
– ليأتيني كل أفراد القرية واحداً تلو الآخر ، فإني سوف أرش بعض القطرات مما يحويه القدر ، فمن لم تصبه بحرقة في جلده فهو بريء ومن أصابته فإنه المجرم .

تدافع الناس واحداً تلو الآخر ، والرجل يرش دون حدوث شيء ، حتى تقدم رجل طويل القامة وهو يتعرق بشدة ، وما إن رش الماء عليه حتى صرخ من حرقة ما أصاب جلده ، عندها قفز رجال القرية يمسكونه ويضربونه وانهالت عليه الشتائم واللعنات وهو لا ينبس بكلمة والدموع تنهار من عينيه .

استسفر شيخ القرية منه عن سبب جريمته وهو صامت ،ثم عرف أنه لا يستطيع الكلام أي كان “أخرساً” ، تشاور الشيخ مع أهل القرية الذين سرعان ما أشاروا عليه برمي الرجل في البئر فهو قاتل ، أكد رأي أهل القرية الرجل الذي وعد بكشف المجرم وأردف قائلاً :
– ويلكم .. لم يبقَ إلا ساعات قليلة على انفجار غضب الأرواح الذي سيبيدكم .

أسرعوا في تنفيد العملية وسط حضور الأهالي جميعهم ، وقذف الرجل في البئر .. مرت لحظات معدودات حتى دوى صراخ مهول وخرج الرجل الأخرس من فوهة البئر وهو ينطلق كالريح إلى الرجل الذي رمى عليه القطرات الحارقة وهو يجذبه إلى البئر يريد أن يرميه ، وما إن حاول أهل القرية منعه حتى انطلقت أصوات مختلفة من الرجل الأخرس ..أصوات أطفال وامرأة تحدثهم أن القاتل هو الرجل نفسه الذي افترى على هذا المسكين .

شعر الكل بالصدمة مما جرى ، أيعقل أن القاتل هو هذا الرجل ؟!
هنا أشار شيخ القرية على أهلها أن يتركوا الأخرس وشأنه ، فالقاتل الآن مكشوف وحان لهذا العذاب أن ينتهي وتنام أرواح المظلومين بسلام .

هنا نحدث المجرم الذي قال بأنه قتل المرأة والأطفال ورماهم في البئر لأجل أغراض سحرية ، لكنه لم ينجح .

قُذِف في البئر و هو يصرخ ، وسمعت صرخته الأخيرة ، وانتهى لغز بئر الأرواح العجيب .. وعاد الناس لأخذ الماء منها .

” لا بد لأرواح المظلومين أن تعود لتقتص من ظالميها “
 

تاريخ النشر : 2017-07-02

guest
24 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى