أدب الرعب والعام

بــــلا عـــنـــوان.. (الجزء الأول)

بقلم : جمال -سوريا

للتواصل : [email protected]

-1-

وقف بُعيد حفنة من الناس في الشارع يشاركهم بدهشة مراقبة الكرات الملونة المتطايرة في الهواء ، ارتسمت على وجهه ابتسامة لا ارادية وقد سرحت عيناه بحركات يد الرجل السريعة والمتقنة والتي بدت أنها لا يمكن ان تخطئ أبداً . كانت الحفنة البشرية في ساحة “دوليان الاكبر” والتي وقفت تراقب العرض الذي يقدمه ذلك الرجل تزداد شيئاً فشيئاً حتى بدت تسد المشهد المثير عن عيناه وبات لا يلحظ من الرجل ذي الزي المزركش بألوان مختلطة متداخلة سوى كراته تتعاقب بانتظام فوق رؤوس ذلك الجمهور . تململ في مكانه لبرهة قبل ان يلقي نظرة خاطفة على الساعة في يده والتي بدا أنه يمتلكها منذ زمن بسبب عدة نقرات على جلد الساعة فنّدت حداثتها . كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة إلا نيّف، وبينما لاحظ ازدياد الحشد من حوله بشكل واضح منذ ساعة من انتظاره في تلك النقطة ، ابتلع انفاسه باستياء وقد اغمد يداه في جيبي سرواله هامساً لنفسه :
– ما كان عليَّ المجيئ مبكراً هكذا ..
– ” ما كان عليك المجيئ أصلاً “
جاءت هذه الجملة بشكل شبحي مرعب ورداً سريعاً على تمتمته المستاءة ، وما كان منه إلا ان استدار سريعاً لمعرفة مصدر هذا الرد الذي انطلق من خلفه .:
– “استطيع رؤيتها .. الهالة السيئة التي تحيط بك وتلفُّك من كل جانب “
سرعان ما اصطدم بتلك العبارة المتطيرة شؤماً فور استدارته نحوها والتقاء وجهه بوجهها ، ثم على عجلة قلَّصت الخطوة الوحيدة الفاصلة بينهما ، وقد صدر عن حركتها صوت طرطقة مصدره التمائم والقلائد التي أثقلت ثوبها المنسدل الطويل السمل .
سألها وقد ارتفع كلا حاجبيه دهشة واستغراباً:
-ما الذي تتحدثين عنه !
– “انت محظوظ أيها الشاب ، لابد وأن القدر أرسلني إليك لأحذِّرك .”
كانت الجدائل الدقيقة المتدلية من رأسها تهتز مع كل حركة تلوح بها بالتزامن مع الوشم البدائي جداً اسفل فمها والذي تألف من نقاط ثلاث عمودية فوق بعضها .
رد عليها باستنكار ظاهر :
-وعمَّ يدور هذا التحذير !.
رفعت راحتا يديها ناحية وجهه وقد ضمتهما سوية ثم أردفت مع ابتسامة ماكرة :
-“يجب عليك أولاً أن تضع عطاؤك هاهنا” . وأشارت له بحاجبيها نحو راحتيها .
ادرك في هذه اللحظة أنه يتعامل مع شابة غجرية محتالة ، إذ انه لطالما كان غير مؤمن بالنبوءات و التنبؤات وهذه التراهات الغبية السخيفة حسب زعمه :
-هكذا إذن ، أنا لا اهتم ، إنه لمن السفالة أن تقحمي الناس في مخاوف وشكوك لأجل ان تمرري احتيالك السخيف هذا .
ارتدت الغجرية عن مكان وقوفها وقد تجهم وجهها وساده عبرات واثقة ثم أردفت :
“- عليك ألا تشكك في ما يقوله طالعك إنــ…
لكن تلك الجملة التي أرادتها والتي بدت أنها اعتادت على ترديدها لم تكتمل فقد قاطعها مباغتاً :
-يالَ هذا الدجل الرخيص ، من الافضل أن تغربي عن وجهي هنا و الآن .
بدا لها حاسما جدا بقوله الأخير ،ولكنها لم تتأثر بتلك المقاطعة إذا بدت أنها اعتادت أيضاً على سماع مثل هذه العبارات المتهجمة وما كان منها الا ان انصرفت مبتعدة عن ناظره الذي استمر بملاحقة فلولها بخطوات سريعة قبل أن تتوقف فجأة . كانت قد تردد لثانية قبل أن تستدير بوجهها إليه من جديد وتردف له وقد اشارت بيدها نحوه :
“-لا تنسَ أني حذرتك ، ستتذكر هذا ، أراك مرة اخرى وقد فــ….
دوى في تلك اللحظة نوبة مستمرة من التصفيق الحار ممتزجاً بصيحات وصفارات مبتهجة ، كان الرجل صاحب العرض قد أنهى عرضه وانحنى للحشد الذي انفجر مصفقاً له ، مما ادى لجلبة وضوضاء ابتلعت الكلمات الاخيرة للعرافة التي توارت غير آبهة بين ذلك الحشد .
لبرهة ظنَّ أن طيفاً من الراحة قد لفَّ جوارحه إذ انتزعت عنه تلك اللصاقة المزعجة والمحتالة أيضاً وأخذ يتساءل عن سبب وجود عرافة دجالة في مثل هذا المكان، لكن تلك الراحة كانت محض راحة آنية ، فقد دلف إلى قلبه هاجس اشعل فتيل الارق فيه وسرعان ما تدفّقت التساؤلات لسبب لم يستطع فهمه تقضُّ ثباته وتدعوه للحاق بها :
“لا تكن سخيفاً إنها محض دجّالة … هيا من المؤكد أنها لم تبتعد … ما الذي قالته تلك اللعينة … ولماذا قد اهتم … لكن..”
احتد الصد و الرد في رأسه وخطى نحو اللحاق بها خطوة مترددة بقلبه قبل أن تطاوعه قدماه وهاهما تتحركان اخيراً
-‘جان إلى أين أنت ذاهب ؟!’ ّ.

وأحس بيد تمسك قميصه وتجذبه بحنو وخفة للخالف لتكبح أي خطوة اضافية له .
على عكس المرة الأولى كان يعلم جيداً صاحب الصوت الذي يناديه وتلك اليد التي جذبته ، فاستدار من فوره وقد امتلأت عيناه بضياء أبهج وجهه . :
-لورا..لورا.. أتيتِ اخيراً ، لقد قتلني الانتظار .
وبدون أن ترد على عبارته الملهوفة ، ارتمت لورا بين ذراعيه .
جعل ذلك العناق جان ينحني بجسده الخلف حينما تلقفها ، لكن لم يبد الامر شيئاً جديداً او غريباً فقد اعتاد على ذلك الانحناء بعد كل معانقة لها ، لطالما كانت تلقي بنفسها بسذاجة واندفاع نحوه ولم يعهدها أقلعت ولو لمرة عن فعلها هذا ،
خاطبته بينما كانت لا تزال بين ذراعيه :
-وصلت مبكراً كعادتك صحيح .،؟
أرهفه سماع صوتها فجعل نبضاته تتبعثر وكأنما يريد قلبه أن يخرج عن صدره ليضم رأسها المستند إليه .
أجاب وقد فرغا من عناقهما والتقى وجهه بوجهها :
-باكرا جدا ، ابكر من أي وقت مضى . اخبريني لورا هل انتِ مستعدة ؟
-ما الذي تسأل عنه يا ابله ، هذا مؤكد .

-2-
قبل سبعة عشر يوما..
كانت ليلة ربيعية وديعة وكانت الازهار في حديقة سكن الطلبة تتمايل مع نسمات إبريلية عليلة فتبدوا وكأنهما تؤديان رقصة ” سلو” بتناغم وانتظام دقيق في أمسية رومانسية تقطر غراماً . تحت شجرة “اللبلاب ” في تلك الحديقة جلس جان متربصاً بنفسه مطلقاً بصره من خلال الأنوار الخافتة المبعثرة على طول الطريق المؤدي إليها . كان القمر ليلتها بدراً مكتملاً جعل جان يشعر بمزيد من الطمأنينة إذ ساعده ضياه على رؤية الأطياف البعيدة الساكنة المتبعثرة هنا وهناك. اسند ظهره باتجاه جذع الشجرة وأطلق تنهيدة خفيفة بينما تسلل ذلك الضياء على قسمات وجهه :
“-ما كان علي المجيئ مبكراً هكذا .”
انكشف عن وجهه قسمات ريفية هادئة ، حاجبان كثيفان مهذبان ، ومحاجر سكنت فيها عينان لوزيتان واسعتان تحتضنهما رموش كستنائية طويلة ، تمتد على كلتا وجنتاه الحنطيتان ذات البروز العلوي الطفيف لحية خفيفة متصلة بشاربين خفيفين وخال قبع وسط جسر انفه النوبي كعلامة فارقة . اعتدل في جلوسه مجذوب الانتباه وقد شدَّ ناظريه طيف مجهول ينسل من بعيد مما دفعه ليتأكد من جدوى اختباءه … و مع اقتراب ذلك الطيف شيئاً فشيئاً أخذت أنوار الحديقة الخافتة تبدد غموضه حتى لاحت له لورا بوضوح .

على مدار ثلاثة سنوات أدمنها فيها طُبعت في تلافيفه هيئتها وصفاتها ، عرفها منذ اليوم الأول ، تلك الفتاة المرحة البشوشة والتي لا تكاد البسمة تعرف لشفاهها الوردية الممتلئة مفارقة ، تلك الشفاه التي اضفت رونقاً خاصّاً على وجهها البيضوي ذو الملامح الناعمة بعينين ناعستين وحاجبين دقيقين مع انف مستقيم مدبب ، إضافة لقوام لم يعرف إفراطا ولا تفريطاً ، ومع ذلك لطالما استطاعت ابهاره في كل لقاء يتجدد بينهما .
-تست ..تست
-تست …تست ….تست
آلت تلك الشيفرة التي اتفقا عليها منذ انتظمت مواعيدهما إلى طمأنتها ان كل شيء بخير ، دائما ما كانت فعالة خاصة المقابلات التي تجري تحت جناح الليل . ثلاث “تستات” للورا تستبين من خلالها عن وجوده ومكانه ، يعقبها رد سريع من جان “بتستتين” يبادلها بهما التأكيد والطمأنة . همس جان وهو يلوح بيده حذراً:
-(لورا ..لورا.. انا هنا ) .
هرولت لورا ناحيته بحذر وخفة وجلست بجانبه وقد قطفت إحدى ورقات اللبلابة ثم أطلقت زفيرا مستمراً ومالت برأسها نحو كتفه :
-آمل أن خروجي من بناء السكن لم يثر ريبة أحد ، لكن يبدوا انك علمت بالأمر صحيح ؟
-ولماذا قد استدعيك في هذا الوقت وهذا المكان ان لم اكن قد علمت ! ما هذا القرار المفاجئ لورا !
(ردت باستياء) :
-اوه جان وما كان يدريني ان الفتيات شريكاتي في السكن سيقررن السفر غداً ، لقد قررن بشكل مفاجئ وسريع .
-وستسافرين صباح الغد أنتِ أيضاً !
-عزيزي جان أنت تعلم أنّ بعد غد هو أول الشهر وبقائي وحيدة يعني أنني سأضطر لدفع الاشتراك وحدي وهذا عبئ علي ، لذا انا مضطرة للمغادرة معهن ، بصراحة انا سعيدة لأنك علمت بالأمر .
-وماذا لو لم أعلم !
-كنت سأترك لك مكتوباً .. استمع ، انا وانت لم يعد لنا سبب للبقاء هنا ، كان من المفترض أن تعي هذا الامر منذ الاسبوع الماضي في حفل التخرج فحتى لو لن اسافر يوم غد ، سنضطر لتسليم الغرفة نهاية الشهر القادم .
اعتدل جان في جلسته مما أدى إلى انزلاق رأس لورا وأردف متأملاً في السماء :
-يا إلهي ، لقد مرت هذه السنين الثلاث سريعاً كأنها ومضة ،رغم أني أردتها أن تطول ها هي تنقضي ..بالمناسبة ، هل فكرتِ كيف ستتقبلين فكرة وجود زوج امك في المنزل !
-قالت لي امي انه شخص جيد ، بكل الاحوال يجب ان اعتاد على هذا ، وجوده اصبح أمراً واقعاً . هذه ليست مشكلتي بل المشكلة أني اخشى الا ..
صمتت لورا وقد شعرت ان تتمة كلامها قد وصل الى جان بينما لم يعقب بدوره على ما قالته بتلوّع وحسرة ، وبين صمتين ساد شوط من السكون اخذ فيه كليهما يتبادلان النظرات المتقطّعة ، ومع استمرار دوران عجلة ذلك الصمت احست لورا بكلام مستتر خلف شفتا حبيبها فقررت ثقب تلك العجلة ووضعت يدها فوق يد جان وأعادت رأسها إلى كتفه ثم همست له بنبرة اكثر تلوعاً : -أيها الاحمق هل تعتقد أن الأمر سهل علي ، حتى اللحظة لم استطع معرفة الطريقة التي ستجعلني احتمل اللا اقابلك في يومي ، هذا شاق جداً بالنسبة لي بل إنه يكاد يخنقني ، بين بلدتي وقريتك اميال طويلة كيف سنتجاوز كل هذا !
طأطأ جان رأسه ثم سحب يده من تحت يد لورا ، كان قد بدا انه تردد في الكلام قبل ان يردف بنبرة خجولة :
-أنا لن أعود للقرية ، لا مكان لهذا العلم الذي تعلمته هناك ، تحت الابقار وخلف الخيول ، سأذهب لمدينة الأنوار كنت قد قررت هذا منذ مدّة ولكن لم اجد فرصة لإخبارك بالأمر .
همست لورا وقد اعتدلت في جلستها :
-مدينة الأنوار دفعة واحدة ! ، حسناً ماذا عني إذن ؟ ، ماهي خطتك لي !
لم يجب جان على سؤال لورا وطأطئ رأسه ليحي لها بعدم امتلاكه لإجابة ابدا ..
كررت لورا سؤالها ولكن هذه المرة بنبرة قلقة مضطربة
-جان ! ، أين أنا من خطتك المستقبلية هذه ؟
ومع استمرار صمت جان بدت ملامح لورا تختنق شيئاً فشيئاً ، فانتبجت اوداجها وبهتت عيونها ، لقد شعرت انّ الأرض بما رحبت اخذت تضيق عليها وتعتصر فؤادها ، كانت قد قبضت بشدة على ورقة اللبلاب بيدها قبل أن تتهيأ للوقوف مما جعل الورقة تُسحق بين أصابعها عندما أردفت بكلمات متأرجحة :
-حسناً ، يبدو أني فهمت كل ما تريد قوله بصمتك هذا ، عليَّ الذهاب لقد تأخرت بالفعل .
صدرت خنّة عنيفة من أنف جان وقد فشل في كتم ضحكة مدوية ، لتخرج بعدها رغما عنه :
-ياه …لورا أرى تلألأً في مقلتاكِ ، هل أنتِ على وشك البكاء ! ، لقد كنت أمزح وحسب ، حسناً لم اكذب بشأن ذهابي لمدينة الأنوار لكنك ستكونين معي ، لقد كنت أنوي ترك الأمر كمفاجأة للقاء لاحق .
جفلت لورا للحظة وهي تطالع وجه جان حتى فهمت أنها وقعت في شرك مزحته ، لتنهال عليه بعدها بعدة ضربات من قبضتها بالكاد قد احس بها ، ثم اردفت بغضب مصطنع يبطنه ضحكه قلبية كبيرة :
-ايها الوغد ، وهل بدا عليَّ الاهتمام ، انا اعلم أنك قد وصلت بالفعل لقاع محيطي ، انت بكاملك غارق بي ، ستنتحر مئة الف مرة قبل ان تفكر في تركي .
اراد جان الاستمرار في مزحته تلك لأقصى حد ، لكنه وبكل الأحوال تراجع عن فكرته عندما رأى محبوبته قاب قوسين أو أدنى من البكاء ، ولم يعقب على قولها الاخير لأنه لا يستطيع إنكار ولو حرف واحد مما قالته له إنها محقة تماماً كشمس في وضح ظهر النهار .
– إذن ستذهبين معي صحيح !
-انا لم أفهم شيئاً حتى اللحظة ، مدينة الانوار ليست مجرد كلمة ! ، ان العيش فيها هو حلم وأمثالنا يصعب عليهما تحمل المنفقات هناك .
-بصراحة .. هناك أمر عني لم اخبركِ به بعد . لكن والدي هو من ارسل لي تلك الدعوة ..

ردت لورا مشدوهة :
-والدك ! ،لكن أليس والدك متوفى، جان !

-3-
قبل عشرة أعوام ..
“انتهى الدرس أيها الطُلاب ، أراكم في الغد “
رد الجميع بصوت واحد : ‘”شكراً استاذ ‘شراود’ “
لطالما أحبه ، بل منذ اليوم الأول أدرك أن الأستاذ الجديد لقريته التعيسة النائية لن يكون كما سبقه .
-جان أما زلت هنا بني !
-اممم استاذ شراود هلّي بالبقاء معك مدة أطول .

جان صاحب الخمسة عشرة عاماً وظّف نفسه آنذاك بالدليل الشخصي للأستاذ الوافد الجديد وبنهاية المطاف اعتاد السيد ”ويليام شراود ‘” على وجود جان الدائم في حياته اليومية ، صباحاً حينما يحضر له الحليب و البيض الطازجة واثناء فترة الدوام المدرسي ومساءاً حينما يجلس بجانبه عند البيانو يستمع لعزفه ، ورغم أنه كان عزفاً نشازاً إلا أن التلميذ الصغير لطالما كان منبهراً بما يرى ويسمع . كان السيد شراود حينها في منتصف الأربعينيات إلا أنه حظي بهيئة خمسينية لا يمكن لمن لا يعرفه أن يتنبأ بغيرها ، أما جان يتيم الأب فقد أدرك أن الأبوة لا تنحصر برباط الدم ، بل يمكن أن تكون وثاقة روحية تماماً كما آل به الحال مع استاذه السيد شراود الذي جعل من نفسه أباً له بكل ما تحمله الكلمة من معنى وقد تقمص الطفل الصغير دور الابن بكل براءة وصدق .
لايزال جان يذكر اليوم الذي غادر فيه استاذه القرية ، كان وحيداً تماماً ينقل أغراضه من منزله بجوار المدرسة إلى العربة دون أن أن يساعده أحد من طلبته من أبناء القرية ، عدا جان المفجوع على رحيله ، لقد بقي بجانبه حتى اللحظة الأخيرة عندما توارت العربة أمام ناظريه في الأفق .
“بني العزيز جان ، شكرا لك ، انا لن أنساك أبدا ، يوما ما ستخرج من حدود هذه القرية ، وعندها ستجدني دائماً إلى جانبك .. الى اللقاء ..
***************** ***************** ******************
-وهل سيذكرك يعد كل هذه السنين ؟
-لقد كنا نتراسل دائماً ، منذ ذلك الحين وحتى امس ، اخبرني أن اقصد مدينة الانوار للعمل في مدرسته ، إنها المدرسة الأولى هناك هذا لا يصدق . وبالطبع كنت قد عرجت على ذكرك ولم يمانع بقدومك . امسكي ..
ارسل جان يده باتجاه لورا معطياً إياها قصاصة ورقية ، التقطتها واخذت تحملق بها بعناية مستغلة ضياء القمر قبل أن تسأل :
-عنوان ؟
-بالضبط ، في هذا المكان سنتقابل بعد سبعة عشر يوماً ،سيكون في المدرسة شواغر الى ذلك الحين .
-وهل ستظن أن أمي وزوجها سيسمحان لي بهذه الرحلة ؟
-اعتمد عليكِ في هذا .
ترجلت لورا على قدميها واخذت تنفض ثيابها بشرود وعشوائية :
-سأغاد الان لقد تأخرت بالفعل .
استدارت لور هامة بالرحيل بينما سألها جان مستجدياً :
-ستأتين ؟
ردت بدون أن تلتفت :
-العمل كمدرِّسة في المدرسة الأولى وفي مدينة الأنوار وما أنا إلا طالبة قد تخرجت حديثاً من كلية الآداب !
اراك بعد سبعة عشر يوماً يا احمق .
ارتسمت على وجه جان ابتسامة منتصرة وقد قبض راحتي يديه وبرقت عيناه ..
-آه جان قبل أن انسى ..
-……
-إذا كررت مزحتك السخيفة تلك مرة أخرى سأقتلك .
-4-
انتصب كل من جان ولورا جنباً إلى جنب أمام بناء المدرسة ذو الطوابق الثلاث ، كان هذا البناء بطرازه القديم-الحديث بالنسبة لكليهما وهراً مهيباً ، حتى انه بدا لهما اكثر مهابة من بناء كلية الاداب . جاور البناء فندق كبير ذو طلاء أزرق ونوافذ حديثة قابلة للسحب ، كانت عبارة “فندق باراديس ” قد نحتت بشكل نافر فوق بابه الواسع . بينما كان جان مأخوذاً بكلا البنائين المتجاورين سارحاً بعد نوافذ غرف الفندق الكثيرة ، أومأت لورا بحاجبيها مشيرة إلى قلق يساورها ثم أردفت :

-أنا متوترة بعض الشيء ، أولا هذه المدينة لم أشاهد مثلها في حياتي ، إنها حتى أكثر حداثة وازدحام من الشائعات التي سمعتها عنها ، وثانيا ً هل حقاً السيد شراود يمتلك كل هذا البناء !ّ
حك جان رأسه راداً :
-بعد كل شيء هذه المدينة هي العاصمة الفكرية للبلاد ، إنها حتى أكثر جاذبية من العاصمة نفسها ، لا تنسي ان القصر الملكي يقبع فيها ، ثم… انا اثق بوالدي رغم أنني لم أره طيلة عشر سنين مضت إلا من خلال الاسطر بيننا.
*********************************
انتصبت الانسة “مادلين أمام العناق الحار الصاخب بين السيد المدير وهذا الشاب الزائر ، والتي لم تعهد أنها رأت وجهه أو وجه الآنسة الشابة التي ترافقه من قبل ، ولم يبد لمادلين أنهما ذوا مكانة أو منصب ، لكنها فكرت سريعاً أن السيد شراود لا يجيد التملق والمحاباة حتى ولو كانا من هيئة التفتيش الملكية ذاتها .
أردف جان وقد وضع راحتي يده على أكتاف السيد أمامه بنبرة مغبوطة وعينان دامعتان :
-يكاد لساني يعجز عن النطق ، لقد مضى وقت طويل … إنه عقد من الزمن ، إنني في غاية السعادة بلقائك مجدداً أبي .
زادت حيرة الانسة مادلين عند سماعها لكلمة ‘ابي’ فهي لم تعهد ان للسيد شراود عائلة طيلة الخمس سنوات التي قضتها معه في هذه المدرسة كنائب له .
كانت لورا على هامش هذا اللقاء ، تقف جانباً على استحياء كما لو أنها بيدق أسود في معسكر القطع البيضاء ، لم تكن مهتمة لأمر اللقاء الودي الحار والتي شبهته في نفسها بلقاء شجرة مع جذورها ، بقدر ما كانت تخطط للكلمات التي ستتفوه بها عندما ينتهي هذا اللقاء ويعرفها جان لهما، ومن جهة اخرى كانت قد اخذت على عاتقها حالة من النفور من مصافحة هذا العجوز أمامها ، بالنسبة لما رأته كان السيد شراود عجوزا فيه شيء من الدمامة كما كانت تفكر ، وقد عزت دمامته إلى تجاعيد مبالغ بها في وجهه وبظهر راحتي يده ، وهذا ما جعل عروقاً بارزة تتشعب جلية الى أن تستتر تحت قميصه، اضافة الى ذلك فقد كان اجش الصوت قصير القامة ،مخلط الشعر بين بياض وما بقي من السواد منه ، علاوة على أنفه المفلطح تحت عيون غارت في محاجرها .
انتقل جان بيده الى مصافحة الانسة بجانب المدير وترافقت تلك المصافحة مع صرير صوت السيد شراود معرفاٍ:
-الآنسة ‘مادلين فولدن ” نائب المدير .
بدت نائب المدير لجان انثى قد تخطت عقدها الثالث ، لكنها كانت صارخة بالأنوثة ، إلى حد رهيب ، فبينما لم تحمل جمالاً خارقاً ، إلا أن ملامحها الجذّابة بوجه ناضج وقوام ممتلئ منسكب يتكامل مع طيف الكحل حول عيناها المسحوبتين وانفها المدبب مع فم ذو شفاه رفوفية اكتست بطيف من احمر الشفاه ، تجبر الناسك الزاهد على النظر إليها .
ساور لورا شيء من عدم الارتياح لطول المصافحة بينهما لتصطنع سعلة حولت الأنظار إليها :
-المعذرة سيد شراود انسة مادلين لم اعرفكما ، لورا دايمند زميلة لي ، سبق وأن حدّثتك عنها في مراسلتنا الاخيرة .
علت قهقهة شراود والتي كانت بالنسبة إلى لورا اشبه بخنخنة خنزير بري ، ثم مد يده مصافحاً إياها .
-5-
جلس كل من جان ولورا في غرفة اعتلى بابها من الخارج عبارة “غرفة الإدارة ” أما على المكتب أمامهما انتصبت يافطة خشبية صغيرة نقش عليها :

(المدير ويليام شراود) ، أردا كليهما مناقشة هذه الغرابة التي يعيشانها حتى لو ببضع كلمات لكن كليهما آثر التزام الصمت ، الشيء الوحيد المسموع في غرفة الإدارة كان تكّات الساعة وصوت همهمتها بين فينة وأخرى ، ولمّا انصب اهتمامهما على الباب حتى يفتح ويلج إليهما شخص ما ، دخلت مادلين موصدة الباب خلفها وتدرجت بمشية خيلاء مع ابتسامة طفيفة ثم جلست بجانب جان ، وبينما بدأت بمحادثة تقصّدت فيها على عدم إشراك لورا بها ، شعرت تلك الاخيرة بشيء من الامتعاض ونوع من الغيرة ، لكنها سرعان ما ضحكت على نفسها ، إذ من الواضح وضوح الشمس الفارق السني بينهما ، بيد أنها جزمت أن نائب المدير لم تستلطف وجودها .. :
-مضى وقت طويل لم نحظى فيه بأستاذ شاب في مدرستنا ، إنه أمر مثير للاهتمام أن نرى شيئا من التغيير ..بالمناسبة انتما مرتبطان صحيح ؟
احمر وجه جان عند سماعه سؤال مادلين وبدا الارتباك جليّاً على

فمه ، لقد فكر بمئة الف فكرة خلال ثانية عن إجابته ولكنّه في النهاية قرر الاجابة بالنفي قبل أن تخيب لورا مساعيه :
-اجل نحن كذلك ، اننا مخطوبان .
ردت مادلين بسرعة فائقة :
-لكني لا أرى أي خاتم في يدكِ أو يده .
اردف جان وهو يحك خلف اذنه :
-كانت تقصد اننا على وشك الخطوبة ، اننا الان حبيبان .
أكدت لورا بنظرات قوية على قول جان بينما ظهر على وجه مادلين علامات سخرية :
-سعيدة لأجلكما ، لكن الافضل أن يبقى الامر سراً عن السيد ويليام وحتى عن باقِ الكادر .
نظر كل من لورا وجان الى بعضهما ثم إلى مادلين التي استأنفت :
-إنه يبغض أي علاقة غير رسمية ، ولا يجامل في هذا ، فتواجد خليلان من الاساتذة في المدرسة يضر بسمعتها كما تعلمان .
انتقع وجه لورا احمرارا وخجلا واحست أنها سقطت من بناء شاهق على أرض زرعت بالدبابيس والدم يخرج من جسدها نفرة فنفرة .
أما جان فقد حاول تصحيح اعتقاد مادلين الخاطئ فقال بارتباك شديد :
-لا لا انسة مادلين نحن لسنا ….
وصمت لأنه لم يعرف بماذا يكمل حديثه ، كيف سيستطيع القول ان علاقته بلورا هي علاقة روحية قلبية لم تدنّس بعد بالشهوات لكن افكاره انقطعت وقد سمع لورا تجيب بنبرة مندفعة مغتاظة :
-إننا حبيبان ولسنا خليلان ، حب عذري .
ردت مادلين بمكر قبل أن يدخل السيد شراود :
-لا داع للانفعال ، اصدقك انسة لورا …

-6-
خرج جان تتبعه لورا بأمارات من الدهشة والاستغراب والاستياء ، لم يكن بمقدورهما بعد فهم الأمر بشكل واضح ولكن الان كل ما عليهما فعله هو الافتراق

يتبع…

جمال

مهندس نظم قدرة كهربائية وكاتب ومعلق صوتي - للتواصل عبر البريد الالكتروني : [email protected] عبر تلغرام ؛ https://t.me/Jamsyr ايضاً من خلال صفحتي على فيسبوك أو انستغرام ادناه :
guest
16 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى