أدب الرعب والعام

بنات الذِبل

بقلم : عطعوط – اليمن

يشع من وجهيهما نور ساطع كأنه شعاع نجم سهيل
يشع من وجهيهما نور ساطع كأنه شعاع نجم سهيل

في غابر الأزمان كان هناك بنتان ، الأولى زهية ، بهية ، أسمها قمر ، لم يُخلق أحد بحسنها من البشر ، والأخرى بشعة ، دميمة ، أسمها حجر ، لم يخلق أقبح منها فيمن تقدم أو تأخر ، كانت قمر تكبر حجر بعامين 

عم البلاد وباء لم يتيسر له دواء ، فكثر البلاء والموت والفناء ، فماتت الأمهات والإباء و بقي على قيد الحياة الأبناء ، بقيت قمر وحجر يتيمتان ،
لا أم و لا أب ولا أخوان ، تربيتا على صدقت المتصدقين ، تجوبان الذبل والشوارع وحقول الفلاحين والمزارع ، حفظتا كلمتان باللحن و الرنين
ترددانها على الأبواب في كل حين.
لله يا محسنين.
لله يا محسنين.

تباتان في العراء و تنتعلان الحفاء و ترتديان الممزق المخزق المحرق في القمامة منذق.
تغتسلن في موسم المطر ، من صفر إلى صفر.
فرائحة نتنهن تسبق رؤية صورهن.

شبين فبرز جمال قمر و ظهرت بشاعة حجر ، فكانت حجر تخدم قمر ، تطرق الأبواب تسأل الأكل و من الأشجار تجني الثمر ، و على أبواب السلطان ذاقين الذل والهوان ، يأتوهن من الأكل ما فضل ، يضعوه على حواف الشوارع و الذبل ، فتسبقهن اليه القطط والكلاب و يحط عليه البعوض والذباب ، ممنوعات من الكلام أو ردود السلام ، كأنهن مخلوقات من غير الأنام ، فلا عرس يحضرن ولا ميت يبكين ، و لا مع النساء تجلسان و لا بيوت تدخلان ، فلا يسمح لهن بالاقتراب من بنات الأصول و لا التزين والتطيب و الاكتحال و قرع الدفوف و دق الطبول.

فعُرفن ببنات الذبل ، تعتريهن جميع العلل ، فلا أحد من الرعية والغجر يفكر في خطبة قمر أو الزواج من حجر.

أصيبت حجر بالخمول و الملل ، فلم تدور في الشوارع والذبل ، درجت قمر يعتري وجهها خجل وجبينها وجل.
عسكري من عساكر السلطان خرج فرأى قمر تجلس على أحد الدرج ، فضج وهج : أين الخدم ، أين العبيد ، أين الحشم ، أنتم همل ، أنتم دنق ، من منكم منح القذارة حق الجلوس على الدرج ؟.

ركلها الخدم و زجرها العبيد وسحبها الحشم ، فمُزقت ثيابها المُمزقة وجرحت أقدامها و بالدم نزفت وسالت.
عادة حجر وبحجرها بعض الرطب لترى قمر مغمورة و دمائها تقطر من السواعد والرُكب ،
حزنت حجر حزن شديد على قمر.
قالت حجر : أختي قمر ، لمن أشتكي ، فهل تعي هذا الشجر ؟ نحن مبتورين الأهل ، مكسورين من الحياة ، مدحورين ، لا ناصر لنا و لا معين.
سأطرق كل وادي و سهل ، سأبحث لنا عن أهل ،
أبقي هنا يا قمر منتظرة سآتي بأهل يجهل جاهلهم الجهل ، و يحلب عاقلهم الفحل ، صغيرهم نطاط و كبيرهم مطاط ، أولهم سيل و أخرهم ليل ، يخر لهم جاه السلطان وتصغي لهم بإنصات الأذان ، يجلدوا من جلدك و يسحبوا من سحبك ويسيلوا دم من أسال دمك.
امسحي دمعك من خدك وانتظري وعدي الذي وعدتك.

استغربت قمر من حديث حجر وقالت : يا حجر ، هذا كلام خارج عن طاقة البشر
، فلا تزيديني ضجر على ضجر.

نهضت حجر وقالت : يا قمر الوداع ، لا بد أن أجعلك تأمري  أن يكن أمرك مسموعاً مطاع.

إن عدت و إلا أعلمي أن جسدي قد أكلته  السباع.
مشت حجر أرض تغدي و أرض تبدي و أرض تصلي بها على روح النبي ، فلمحت دار على شكل كاف في وادي مترامي الأطراف ، تسوم حوله الخيل ، وعلى جانبه مجرى سيل.
و على جوانب الوادي ترعى الأغنام في الهضاب والآكام ، وقطيع من الأبقار مربط في جذوع الأشجار.

قالت حجر: هذا هو المختار فنعم الأهل و نعم الدار.
تقدمت بخطى هساسة وأذان لماسه و أعين غمازة.
تُلقى على البساتين النظرات و ترشف الماء العذب من الشلالات ، وصلت باب الدار منشرحة مستبشرة مرحة ، طرقت الباب بخفة و وقفت على الشفة ، فهي لطرق الأبواب ذات مدى ، فلم تجد صدى ولم يجيبها أحد ، فقررت دخول الدار وتقصي الأخبار ، فتحت الباب و دخلت ، فجالت و دارت في الدرج والممرات ، فسمعت أصوات أنين وآهات تنبعث من أحدى الحجرات ، اقتربت من باب الحجرة بخطوة و نادت بعبارتها بقوة :
لله يا محسنين.
لله يا محسنين.
زادت الآهات مصحوبة بالأنين.

دفعت حجر الباب بحذر ، ففُتح محدثاً صوت على الجدار بعد أن أستقر ، فنادى من تحت الغطاء بصوت متهدج وهو يتغرغر : يا معتوق هل عادت من المرعى البقر ؟.
أسرع إلي بالحليب فأنا أشعر بروحي تحتضر.
دنت حجر وجلست بجانب الفراش و قالت : أنا عابرة سبيل ، بعد أن كشفت عن وجهه الغطاء والشاش ، لم يكاد أن ينطق مما أصاب شفتيه من رجفان وارتعاش.
شايب في أخر أيامه ، هد المرض جسمه وعظامه.
أحضرت له كوب ماء أسقته بعناء ، ففتح عينيه و أشار بأصبعه إلى السماء.
فقال : لا يوجد أحد يعطيك ، فخذي من الطعام ما يكفيك.
قالت: أدام المولى عزك و أطال عمرك و رفع شرك و باهلك أسرك ، لماذا أنت على الفراش وحيد.

تتبع الآهات بالتناهيد : أين الأبناء والأحفاد ، أين الزوجة و فلذات الأكباد.
– أليس لك غائب تنتظره ؟.
بعد أن تحشرج قال : بلى ، لدي من الأبناء عشرة
، و لدوا أزواج مباركة ، مكرمة ، مطهرة ، أكبرهم عتيق و معتوق ، يليهم رزيق و مرزوق ، ثم سعد و مسعود ، ومساعد وسعيد ، و أخرهم عُمر وعمار.
كلهم أخيار صالحين فالحين ، في البُكر صاحين ، إلى الحقول  متجهين.
بعد الظهر يعودون مع زوجاتهم إلى فراشهم يخلدون بعد أن يتغدون ، رحم الله أمهم كانت ولادة على المشقات معتادة .

فارقتها الحياة ، ففارقتني السعادة.
قالت حجر : هل لك إخوان وأخوات وبنات كباقي الأسر؟.
قال : لا أخ لي و لا أخوات ، ولم يرزقني الله ببنت من البنات ؟.
حفظت حجر كل الخبر فوسوست  وتجمعت في رأسها عدة أفكار ، زين لها شيطانها قتل البشر ، بلمح البصر كتمت على أنفاسه ، تأكدت من موته فرقدت بجواره ، غطت رأسها و رأسه باللحاف ، وتذكرت ما مرت به من السنين العجاف ، بعد الظهر عاد الأولاد من العمل كالمعتاد ، دخلوا البيت مع النساء و الأحفاد ، فأحكمت حجر على رأسها الغطاء ، و زادت من الأنين و أجهشت بالبكاء ، و نادت من تحت الغطاء مقلدة صوت أبيهم المقتول :

يا عتيق يا معتوق ، هل عدتم من حصد الحقول ؟.
أجاب عتيق : نعم يا أبي ، سنحضر لك الطعام في الحال.
قالت حجر مقلدة صوت أبيهم المحتضر : يا عتيق أجمع أخوتك يأتوا إلي الأن قبل فوات الأوان .

اجتمع الجميع حوله مفزوعين ، جلس بعضهم والبقية واقفين ، منصتين إليه ناظرين ، أن وكح و سعل ثم سأل : هل حضر أخوتك يا عتيق ؟.
أجابوا : نعم ، الكل جوارك.
أكشف عن وجهك غطاءك ؟.
تحشرج و قال : استنشاق الهواء يزيد من شدة السعال فيصبح النطق بالكلام محال.
سأوصيكم من تحت اللحاف ، فلا يتعرض صدري للفحات الهواء الجاف.
احس بضيق في صدري و ثقل في رأسي ، و تنمل و وخز في أطرافي ، فربما يكن هذا النهار هو أخر أيام حياتي.

أعلموا يا أبنائي وأحفادي أنه قد حان الموعد المنتظر ، و ليس بمقدوري أن أتقدم أو أتأخر ،
و لا بد من إخباركم بأمر  قمر وحجر .
تبادل الجميع نظرات التعجب والاستغراب !.
نطقت ألسنتهم بتلعثم : قمر حجر: حجر قمر : قمر حجر !.
ثم قالوا : أكمل لعل عقلك من رأسك فر…
توجع وآن وقال : كان لي زوجة زمان قبل أمكم في بلاد السلطان ، خلفت منها بنتين ، ذات يوم عدت فشاهدتها تتبادل القبلات والأحضان مع غلام من غلمان السلطان ، فاستللت سيفي من غمده و قتلت الاثنين ، تركت البنتين و فريت تارك الأهل والأوطان ، كنت قد أسميتهما قمر وحجر ، أحداهما درة من الدرر والأخرى بشعة المنظر .

بقي هذا الأمر طي الكتمان إلى أن آن الأوان ، زوروا قمر وحجر في أسرع الأوقات ، كي ألتقي بهن قبل الممات ، اذهبوا الأن لتناول الأكل والشراب ، أدعو المولى أن يذلل لكم الصعاب و يحني أمامكم الرؤوس و يخضع لكم الرقاب.

دعوني أهجع ولنومي أرجع ، فقلبي أصبحت دقاته أسرع.

خرج الأولاد و إلى المائدة انصرفوا ، وبالأكل والشرب اشتغلوا و شُغلوا.
استغلت الفرصة حجر فتسللت وخرجت من الدار بدون حس و لا خبر ، بعد أن تركت المقتول مغطى ، وعلى الفراش مسجى.

أكمل الأولاد طعام الغداء فذهب بعضهم للقيلولة والرقاد بينما عتيق إلى أبيه ، عاد حاملاً إليه بعض الزاد ، نادى عتيق : أبي أتيتك بعسل النحل ولحم الفحل ، اصحى يا أبي قبل أن يبرد الأكل في يدي.

و لكن لا حياة لمن تنادي ، وضع عتيق ما في يديه ثم آزال الغطاء عن وجه أبيه بإصبعيه ، فرآه فاتح فاه ، ملقي على قفاه .
فصاح : وا آبتاه ، يا اخوتاه هذا أبي قد فارق الحياة.
هرعوا إليه مسرعين فزعين ، فغسلوه وكفنوه وحنطوه بعد أن بكوه و نعوه ، و بعد أن تشاوروا عقدوا العزم وقرروا إرسال وفد في البكر كي يخبروا ويحضروا أختيهما قمر وحجر ، في منتصف الليل إلى قمر وصلت حجر ، أخبرتها بما جرى وقالت : ابشري يا قمر ، ستزينين بالجواهر الغالية و ترتدين الجديد وتخلعين الثياب البالية.
صارت لنا عشيرة و بلدة و ديرة من الإخوان عشرة ملجمة خيولهم منمرة.
لهم خدم و حشم و رعيان أبقار وغنم ، ضياعهم واسعة و ديارهم شاهقة.
لم تستوعب قمر ما نطقته حجر ، فمنعت حجر قمر من قول كيف ؟ و هددتها بحد السيف.
واخفت عنها قتلها لمحتضر على فراش الموت .
في اليوم التالي قبل الظهر ، ظهر غبار مثار على مشارف الديار ، فظنه السلطان غزو وثار ، فجهز العساكر و أعلن الاستنفار ، ثم ارسل من يأتي اليه بالأخبار ، عاد الرسول و أخبر السلطان بقدوم خمسة فرسان يزعمون أنهم إخوة قمر وحجر ، و أنهم مدججين بآلة الحرب والنزال.

عجبٌ السلطان وقال : عد اليهم و أبلغهم بالبقاء حتى يتم لهم الإذن بدخول الديار.
جمع السلطان الجواري والخدم وما لدى السلطانة من الوصائف و الشرائف.
أمر الجميع بالذهاب لإحضار قمر وحجر والبحث عنهن في الشوارع والذبل.
تفاجأت قمر وحجر بحضور السلطانة والخدم والجواري والحشم و بعض مساعدي السلطان وأعوانه ! التصقت قمر بظهر حجر و قالت: ماذا جنينا و أي عدوان عليكم اعتدينا ؟.
قالت السلطانة : مولاي السلطان يطلبكما للمثول في مجلسه ومقامه.
امتنعتا عن المشي المعتاد فاقتادوهما اقتياد ، فعهد السلطان إلى السلطانة و وصائفها بالإشراف على غُسل وتنظيف قمر وحجر ، و تزيينهما بثياب القصور و تواحف الدور.

فظهرت قمر في أبهى الصور ، فبهت جمالها من حضر ، وردية الخدين ، عسلية العينين ، كُلثومية الشفتين ، ملتوية الحاجبين ، جبين ساطع و أنف لامع ، مخملية الجعود ، مدورة الخدود ، عنقاء ، هيفاء ، واسعة المنكبين ، بارزة الصدر ، مسلبعة الأيدي ، طويلة الساقين ، اذا ابتسمت أضاءت ، و إن ضحكت أشرقت ، فازدادت الحلي جمالاً عندما وُضعت على صدرها ، و برزت حجر في أبشع منظر ، ذات وجه قاتم ، مستطيل ، و أنياب بارزة تشبه أنياب الفيل ، خدودها منموشة ، وشفتيها منفوشة ، جبينها جبين قُنفد ، و أنفها أنف غُرورلاء ،
جتماء ، فحماء ، لا فرق بين أمامها والقفاء ، إن ابتسمت اخافت ، وإن ضحكت أرعبت ، ذهب جمال الحُلي عندما وُضعت على صدرها.

رمق السلطان بعينيه قمر فزاغ و تاه عن ناظريه البصر ، ثم التفت إلى حجر فأُصيبت عيناه بالعمش و قصر النظر.

ارسل الرسول إلى الفرسان بالأذن بالدخول ،
دخل الفرسان محمشين و بالسلاح مدججين ، وقف الجميع مبجلين ، فانحنوا معظمين ، فانحنى السلطان مع المنحنين.
قال السلطان: إن أخواتكم لدينا معززات مكرمات
، في رغد عيش وطيب إقامة.
فاخبروهم بمفارقة والدهم للحياة و حضور قمر وحجر لإلقاء نظرة وتشييع الجنازة.
أظهرت قمر وحجر الحزن الشديد و ضرب الخدود وندش الشعر والجعود ، أمر السلطان أبنه ربيع بمرافقة قمر وحجر والمشاركة في الدفن والتشييع.
 مر الوفد وسط الديار ، وقمر وحجر على هودجان
، يتقدمهما فُرسان وخلفهما فُرسان ، وقفت النساء على الأبواب والشرفات ، فقد هالهن ما شاهدين وكيف تبدلت أحوال بنات الذبل !.
من حافيات عاريات إلى كاسيات منتعلات.
من مطلبات شحاتات إلى مانحات معطيات.
سبق الخبر فاصطف الجميع لاستقبال قمر وحجر ، دخلتا الدار فكشفن عن وجههن الخمار ، فخرت قمر وحجر على صدر الميت نائحات لخدودهن لاطمات : وا أبتاه  كنت لنا خير معين على غدر الزمان وجور السنين.

تقدم الأخوة ومن شعرهن شدوهن من فوق الميت رفعوهن ، تم دفن الميت في الميعاد و أُقيمت مراسيم الحداد ، ثم عادت قمر و حجر مع ربيع إلى قصر السلطان ، خصص لهن جناح تقوم على خدمتهن عدد من الجواري الملاح.

و بعد آجل حضر عتيق مستعجل وطلب حضور قمر وحجر لحل خلاف بين الأخوة حول الميراث حصل.
و أتفق الجميع أن تكون قمر هي صاحبة الكلمة
في تقسيم الميراث ، فهي الأخت الكبيرة وتكون لها الخيرة ،فكانت الدار لها تكبيرة.
و قسمت الضياع والمواشي والخيول وتركت حجر بدون وكيرة ، فاغتاظت حجر من قسمة قمر ، أحست قمر بضجر حجر فتنازلت قمر عن نصيبها في الدار لحجر ، شاع الخبر و أنتشر عن حب ربيع لقمر ، بلغ ذلك مسامع السلطان فسُر وطاب ،
فبعث بالهدايا وأرسل الخُطاب.

تعالت قمر و تمالت و زانت حبها وقالت : ليأتي سلطان الزمان ويطلبني من الإخوان.
من باب قمر عاد الخُطاب حاملين إلى السلطان الجواب ، غضب السلطان و عض شفتيه وكشر ، فابدأ ندمه وتحسر على ما سار لقمر من قبل خدمه والعسكر.
فنادى قائد حرسه غدر و أمره بتجهيز الخيل و العسكر ، مشى موكب السلطان في مشهد مهيب مرتقب ، من رآه هاله و تعجب ، وتسأل عن وجهته والمطلب.

على جانبي الطريق اصطف الإخوان ، وعلى المناهل وقفت النسوان ، و من المرتفعات والتلال أطل الرعيان ، و على باب قمر دقت الدفوف و دبكت الخيل و رقصت السيوف.

أُقيمت الولائم و وُزعت الدعوات والعزائم ، كان حفل غير مألوف ، تقاطر اليه آلاف الضيوف ، ذُبحت الذبائح من البهائم والإبل والعجول ، غلت القدور فعمت البهجة والسرور.

دخل السلطان الدار بعد أن فُرش تحت قدميه المسار ، فكانت قمر في صدر المجلس واقفه أمامه كالبدر في تمامه.

بعد التحية والسلام جلس السلطان جوار قمر بكل أدب واحترام ، تقدمت حجر بعد أن استأذنت قمر
فقالت : عليك أيها السلطان أن تُسمِعنا اعتذارك عما جرى لقمر من حرسك في دارك.

نادى السلطان قائد حرسه غدر ، وبعد أن حضر أمره أن يعتذر لقمر ، لبى غدر و نفذ ما طلب منه السلطان وآمر.

قال السلطان : يا قمر حدث أمر مريع لأبني ربيع ،
فهو ممتنع عن الأكل منذ عدة أسابيع ، فقد كان ضحوك مرح قبل أن يتكدر.
فابلغني غدر أن حب قمر أصاب ربيع بالنكد والضجر ، فها أنا في عقر دارك اطلب من عشيرتك و أخوانك بأن تكوني زوجة لأبني ربيع الهالك ، ساد الصمت و كبشت الوجوه بالعرق.

قالت قمر: إلى إخوتي فوضت أمري وعبرهم تكون موافقتي و رفضي.
نظر بعضهم إلى بعض بتغاضي.
فقالوا: تركنا الخيرة لك فقد خيرناك فأختاري.
ابتسمت قمر وقالت: اختار عقلي ربيع وقلبي لأمره مطيع.
هلل الحاضرين بالفرح والمرح .
طلب السلطان من عشيرة قمر والإخوان تحديد مهر قمر للاعيان.

قالوا: ليس لنا كلمة فوق كلام قمر ،
وإليها يعود المبتدأ والخبر.
قالت قمر بترحاب : سوف أحدد مهري عند وصولي عتبة الباب .
اعتلى السلطان جواده متجهاً نحو بلاده وتبعه كبار قواده.
بُشر ربيع ففطر من صيامه و أكل طعامه ، زُفت قمر ترافقها حجر ، وعلى الطريق تزاحمت العباد وصهلت الجياد ، دنت الأغصان لتظل قمر فلامست هودجها الزهور وأوراق الشجر.

كان عُرس مشهود لم يُرى مثله منذ عهود.
وعلى باب قصر السلطان كانت المفاجأة ! طلبت قمر من العبد الخطام ، فأخذته و ربطته على السنام ، فتوقف الجمل و كثر الزحام.
قالت قمر : سأخذ بثأري قبل أن أدخل داري.
قال السلطان : ألم تقبلي العذر من غدر ، فما الذي جرى وحصل ؟.
قالت قمر: عليك أن تذبح عن كل جلدة وقعت على ظهري جمل ! وعن كل ركلة وقعت على خصري وعِل ! وعن كل قطرة دم سالت من جسدي عجِل !.
نزل السلطان من جواده ، خفق قلبه و ارتعشت أطرافه ، تلون وجهه وتحجر كما تتلون الحرباء في الصحراء وبين أوراق الشجر ، خضر وصفر ثم أكفهر ، فأمر غدر أن يحضر من جلد و ركل و يسفك دمه بين أيدي قمر.
فنزلت حجر من جوار قمر و في قبضة يدها حزمة من أغصان الساج ، و في قبضتها الأخرى عدد من كرستال الزجاج..
فقالت : أنا عديت الجلدات بعدد أغصان الساج ،
و أحصيت الركلات بعدد كريستال الزجاج.
فعد الأغصان في الحال واحضر مقابلها جمال ،
وعد الكريستال و أحضر مقابل كل كريستالة وعِل.
توسل السلطان واستعان بالحكماء والوجهاء و الأسياد والشيوخ والنقباء.

أصرت قمر على ثأرها والهجر ، أخذت حجر من السنام الخطام ، وعلى عجل أدارت رأس الجمل.

و قالت: فلتشهدوا يا من حضر ، إن ربيع لم يستطيع دفع مهر قمر.
ضج الجميع و هاج و رأوا أن عودة هودج العريس من باب الدار عار ما بعده عار ، وسيكون السلطان موسوم بالذل وضيع مهان على مر الأزمان.
حكم الحكماء والأسياد والأشراف بأن يكن مهر قمر بالإنصاف ، و أن تُنصب خيمة تنزل فيها بالأطراف لعدة أيام حتى يتم فيها إحضار مهر قمر.
أبدت قمر موافقتها ، فنُصبت الخيمة و نزلت فيها ، و تقاطرت النساء إليها ، و استمر الفرح أيام بلياليها ، ومُنع ربيع من الدخول أو الوصول اليها.

بعد تنصيف العدد ، بلغت الجمال ثلاثون ، والوعول خمسون ، والعجول سبعون.
حمل ربيع رمحه وسيفه وانطلق بخيله ، لف وطاف الجبال والوديان والأشراف ، فعاد بنمر وبخمسون وعِل ، وعاد غدر وعسكره بثلاثون جمل وسبعون عجل.
نُحرت الجمال على الأبواب ، وذُبحت الوعول والعجول وعُلقت على الأخشاب ، فُدمت السكاكين و أكل الفقراء والمساكين ، حضرت الذئاب وشبعت الكلاب .
سالت الدماء ، غمرت الشوارع والأبواب ، من الجلود صُنعت الخيام والثياب ، وكان للجان من الدم والجماجم والعظام ما كان ، فأكنوا لقمر بالود والعرفان ، فكانوا لطلبها ملبيين و لأمرها مطيعين.

انهمر المطر وجرت السيول ، فغسل الشوارع والطرقات ، طاب الوقت وحان موعد زفة العرسان ، فمُد البساط ومر عليه العرسان من الخيمة إلى قصر السلطان.
فكان ربيع يمشي يمين قمر وخلفه غدر ، بينما قمر تمشي شمال ربيع وخلفها حجر.
فكان الظلام خلف العرسان ملاصق كالليل.
بينما يشع من وجهيهما نور ساطع كأنه شعاع نجم سهيل.
 
فقال قائل:
اعتزت بنات الذبل ، بعد الحقارة والقذارة ، عِزة مقام  وأناقة حمام ، سعد ربيع بقمر وطاب الأنس والسمر.
كان السلطان قد أفلس و أصيب بالطفر ، أنفق كل خزائنه في سبيل جلب مهر قمر ، فاشتد مرضه و زاد سخطه ، فخرج للصيد مع حاشيته ، فعادوا إلى القصر يحملون جثته ، بعد أن هجمت عليه أفعى فلدغته.
تُوّج ربيع سلطان و قمر سلطانه.
كانت قمر صاحبة ذات عليا ، ففوق حسنها وجمالها عُرفت بالنبل والأخلاق و نبذها للدنيا.
فخصصت يوم في الأسبوع لإطعام الفقراء والمعدمين.
و يوم تدور فيه و تزور بيوت المساكين ، فتقضي حاجت المحتاجين.
فخفضت الخراج والجبايات على الفلاحين ، فغُزرت الأمطار ونمت المراعي وسمنت المواشي ، و تباركت الثمار ، و زادت المحاصيل في الحضر والبوادي.
فكانت قمر لربيع حصن منيع لا تطاله الأيادي و لا تصل اليه الأعادي.
 
أحست حجر بضيق النفس ، فهي من بنى و أسس ، فلم تحظى من السلطانة قمر بشيء يُحس ويُلمس ، فبعد أن كانت خدامة أصبحت لقمر جارية وبس .
رأتها قمر على الممر منطوية بأحزانها مكتوية ، فزادها الغضب قتامة على قتامة ، فكانت مظلمه كالليل في تمامه.
قالت قمر: ابشري يا حجر ، سوف تتزوجين بأحد البشر.
قالت حجر: هذا أمر مُحال ، فلن يرتضي بالزواج بي أحد من الرجال.
قالت قمر: دعي العبوس المنتكس.
فتزيني وتطيبي وتذوقي طعم العسل قبل البلس.
سأزوجك يوم غدٍ أول قارعٍ للجرس.
 
و في الصباح الباكر حضر غدر مع بعض العساكر ، فقرع الجرس وطرق الباب طرق متحمد شاكر.
فبادرت قمر ففتحت الباب المسكر فشاهدت غدر يقف كالليث الغظنفر.
قال : أريد سيوف و رماح سأذهب لمطاردة اللصوص في هذا الصباح.
سُرت قمر لِما رأته في غدر من بشاعة المنظر ،
فرأته نسخة طبق الأصل من حجر.
فقالت : سبحان من خلق فصور .
عجب غدر من هذا الخبر وتغرغر ، كان قد أحس و شعر أن قمر من منظره تسخر.
فبادرته قمر بالسؤال: كم لديك من البنين ؟.
ضحك غدر وقال : مولاتي السلطانة هل اعتبر هذا منك إهانة ؟ كيف يكن لرجل مثلي أولاد ، لم ترغب به زوجاً أمرأة من العباد.
تبسمت وقالت : عندي لك زوجة توازيك في الأضراس والأجناس و تضاهيك في المقاس.
استدعت حجر و أوقفتها جوار غدر ، فكانا كالغيلان في مترس.
فقالت : يا غدر هذه هي حجر أم البنين التي تنتظرك من سنين.
أقامت قمر حفل عرس ، فزوجتها برئيس الحرس.

أوشى غدر إلى حجر بقتل ربيع و قمر ، فبادرت حجر و قتلت زوجها في الغلس و أخفت جثته بالتعاون مع بعض العسس ، أخبرت حجر قمر بما حدث و أن حبها لقمر يفوق كل البشر ، و أنها سبق و أن قتلت الشايب المحتضر في سبيل عز قمر.
خشيت قمر أفعال حجر و ما هي عليه من إقدام و سوابق إجرام ، فقررت إبعادها عن الديار والخيام.

في أحد الأيام كثر على باب قمر الزحام ، فلمحت فيهم مارق جلده حارق ، فارع الهامه ، لحمه تحت عظامه.
فاستدعته في الحال ، فدخل من دون الرجال .
فاعترف لقمر بأنه من أصحاب الولائم و أنه هو الذي جمع العظام والجماجم ونقلها من باب قصر السلطان إلى حيد القائم ،  و أنه لخدمتها قادم.
قالت : عليك بحجر ، تزوج بها و أبعدها عن القصر و حضور الولائم.
فتزوجها جني مارد في الشواهق شارد ، ظهر لها بصورة بشر ، فتقدم إلى قمر و طلب منها خطبة حجر.
أُقيم حفل العُرس بالنهار ، و في المساء خطفها و طار.
حط بها الرحال في غابة  كثيرة الأشباح ، شديدة الرياح.
قالت حجر: تقدم إلي لأرى من تكون أيها الملعون.
إن كنت خارق من الخوارق ، فأنا حجر علي تنكسر الزُبر والمطارق.
قال: أنا خادم من خُدام قمر ، وأنا من بحياته لخدمتها نذر ، وقد امرتني أن أكبح جماحك من أذيتك للبشر.

عليك من الحين والساعة أن تكوني طائعة لأمري.
لتتجنبي غضبي وتحظي باحترامي وتقديري.
تمعنت حجر و فهمت فحوى الخبر ، فأدركت أن حياتها في خطر ، فساغت و راغت و أبدت السمع والطاعة ، فتنقلت معه في الكهوف ، فكان المستحيل لديها أمر مألوف ، فأكلت معه العظام و براز الطيور والحمام ، فعزمت معه العزائم وخاضت إلى جانبه الملاحم ، فأستأمنها و أعتقد أنها قد أقلعت عن المعاصي والآثام .
سألته حجر : ما هو الشيء الذي تهابونه وتخشون معه الهلاك ؟.
كي أتجنبه ، فقد بت أعشقك و أهواك.
 
قال: ملح الرمال و زعل الماعز والغزال ،
والشهاب المتساقطة في بداية صفر و نهاية شوال
، و شعاع الشمس قبل الزوال.
والجنابي والنصال المسقولة ، والسيوف المعبولة
، والدبي المجوفة المقفولة ، و طرق النحاس في الخلاء ، والبيوت المهجورة ، و تلاوة القرآن والزبور والإنجيل ، و صحف إبراهيم و موسى المنشورة.
قالت : حدثني عن أهلك و أين ساكنين ؟ وكم يبلغ عمرك من السنيين ؟.
قال : أهلي ساكنين في خرائب الكفار ، بعضهم حراس للكنوز و بعض منهم عُمار ، في عز شبابي  أبلغ من العمر ألفي سنه و خمسة عشر نهار ، وهكذا عاشت حجر بعيدة عن البشر.
أما قمر فقد أرسلت إلى إخوتها العشرة ، فحضروا و ضموا مُلكهم لمُلك ربيع ، فصاروا من ضمن وزراه وعسكره ، فعاشت قمر مرغوبة من الرعية محبوبة ، كلمتها مسموعة و رايتها مرفوعة ، دان لها بالطاعة الإنسان و خدمها الجان فسبحت و سجدت للواحد الديان.
عاد المارد الشارد بحجر إلى قمر و قال : أعلمي يا قمر أن حجر طرقت أبواب الخير و فتحته على مصراعيه ، و أقلعت عن الشر و أغلقت أبوابه ، فعادت إليك تائبة و من الذنوب مستغفرة.
سُرت قمر بعودة حجر ، فأطلعت عتيق وإخوانه على كل الحكاية والخبر.
فقالوا: لا ضير على حجر فأبانا كان للموت يحتضر ، فلم يكن هناك من الموت مفر سوى  يتقدم يوم أو يتأخر.
فالتم شمل الأسر وعانقت حجر قمر ، و من عاش خبر.
أنتهى…. 
 

تاريخ النشر : 2020-08-21

الفهد

اليمن . للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
24 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى