تجارب من واقع الحياة

بيت أم ملجأ ؟

بقلم : Sara

انقلبت حياتنا وأصبح منزلنا كالملجأ
انقلبت حياتنا وأصبح منزلنا كالملجأ

لست أدري من أين أبدء هذه الحكاية الشيقة الطويلة , لكن باختصار شديد هي حكاية بيتنا ..

أمي و أبي , يعملان في مجال الرقية الشرعية , التي تعملها أمي بلا أجر مال , و يتخذها أبي إلى جانب وضيفته الفعلية في الحياة , و للأسف الشديد كنت أنا  الابنة الوحيدة البائسة , سنوات بلا أخ و لا أخت ثم أنجبت أمي _ قبل خمس سنوات من الآن _ بنتا , هي أختي التي تصغرني بثلاثة عشر سنة , منذ نحو الستة أشهر زارت بيتنا امرأة من أقرباء العائلة في حوالي الأربعين من عمرها , أرملة بلا أولاد , و لأن بيتنا لم يكن بالواسع جدا كانت السيدة تنام معي في غرفتي , بينما أختي الصغيرة تنام مع أبوي بطبيعة الحال , فشقتنا مكونة من ثلاث غرف و مطبخ صغير , بالإضافة لحمام واحد , و “دوش” أو غرفة الاستحمام .

أول ليلة لها معنا و عندما أخذ كل منا مخدعه , سمعتها تكلم نفسها بصوت خافت جدا , لم أكن لأميز شيئا مما تهمس به , إلا بعض الكلمات المتفرقة و التي كانت في أغلبها تعبر عن حالة غضب أو تشاؤم , لم تكن لدي فكرة فلربما كانت غاضبة أو منزعجة من شيء ما و هي تكلم نفسها لتلقي بشيء من الهم الجاثم على قلبها فقد جاءت إلينا من مدينتها إثر شجار شب بينها و بين أهلها , لم أخبر أمي و لا أبي بأمر حديثها ذاك , لكن الأمر لم يستمر لأيام حتى تبين لنا جميعا أن في الأمر شيئا ما وراء الطبيعة .

و ذلك أنها لم تعد تكلم نفسها بصوت خافت كما كانت في بادئ الأمر , بل بدا الصوت مسموعا حتى لغرفة أبي و أمي , أما أنا فقد أخذت وسادتي و رحت لأنام في الصالة قائلة لأمي بغضب أني لا أستطيع النوم و بجانبي شخص يتكلم بصوت مرتفع لا يراعي حتى حرمة النائم بجواره , لم تعارضني و لم يكن لها أن تفعل فإني قد شعرت أنها ارتاحت لذلك جدا , خصوصا أنها و أبي مثلي يشكان بوجود أمر غريب .

بالنسبة للكلام الذي كانت تتفوه به المرأة في الليل و الذي بات مفهوما جدا كما قلت , فقد كان حديثا لا يقل غرابة , أحيانا ما يكون شكوى و مناجات ثم سب و شتائم و كلام بذيء غريب و سب للرب جل في سماه ثم استغفار و تعوذ من الشيطان و ثم يتحول إلى نهر و تحريض و كلام به الكثير من الغل و التحامل على من تقيم معهم أي نحن , ثم يعود للإستغفار و الحمد .

حكيت لوالديّ في تلك الليلة كل ذلك , و لم يكن وقتا طويلا حتى حملت أمي كتاب القرآن –و كان أبواي قد قاما بدعوتي للنوم في غرفتهما بجانب أختي _ و أخذت تتلو في الغرفة و لم تمر سوى لحظات حتى نادت عليها الضيفة قائلة ” تعالي يا …. أريد التحدث معك قليلا ” أجابتها أمي بأنها تستطيع أن تسكب لنفسها بعض القهوة ريثما تأتي , فقالت لها ” تعالي فأنا أشعر بالراحة حين أراكي ” يبدو أن أمي فهمت كل شيء من هذه اللحظة حسب خبرتها مع حالات كهذه , وضعت أمي القرأن على المنضدة و استدارت إلينا قائلة ” إنها تناديني لأكف عن القراءة ” ذهبت أمي إليها تحدثتا لبعض الوقت و عندما همت بالقيام استوقفتها قائلة أنها تريدها أن تبقى أكثر , لكن أمي أصرت على القيام قائلة أن الوقت تأخر و على الجميع أن يخلدوا للنوم .

عادت أمي للغرفة و تحدثت و أبي عن تلك الأشياء بينما زال عني العجب عندما عرفت ان الذي كان يتكلم هو العارض – شيطان السحر – و ليس السيدة , فقد كان غريبا جدا لي أن يصدر هذا الكلام السيء و خاصة سب الله من امرأة مثلها خلوق و متدينة و إن لم تكن متحجبة .

نحن في الجنوب و هي في الشرق , يا ترى ما المسافة الفاصلة بين جنوبنا و أقصى الشرق ؟ إنها مسافة طويلة جدا تفوق 700 كلم , مع أن مدينتنا أقرب للشمال منها إلى الجنوب إلا أنها تعد جنوبية , الحقيقة ان السيدة ” فلانة ” التي زارتنا أفصحت أنها تطلب رقية لكنها لم توضح لنا حالتها جيدا , خلاصة ما قالت أنها منذ مدة ليست بقصيرة مصابة بسحر لتوقيفها عن عملها و لتعطيل أمورها , حتى أنها خطبت أكثر من مرة بعد وفاة زوجها و لكن الأمر لم يتم أحيانا لأسباب مجهولة أو سخيفة , حتى أن الأخير الذي طلب يدها قبل سنتين و كان مفتونا بها طلب نقلة من المؤسسة كي يبتعد عنها و قطع علاقته معها دون سبب يذكر , و الحق يقال أنها في كلامها أصابت شاكلة الصواب فإن كل الأعراض الملاحظة عليها تشير لوجود ” مس شيطاني ” , لكنها لم تخبرنا أن مدة المس كانت طويلة جدا لدرجة أن الحالة تطورت و ازدادت تعقيدا .

أجل , إن الحالة التي واجهناها لم تكن حالة مس عابر أو سحر عادي , فمع الوقت اكتشفنا أنه ليس بشيطان واحد أو اثنين بل أكثر , و أن غاية هذه الجماعة المستحوذة على الجسد لم تَعُدْ مجرد خدمة مطلب السحر , بل تعدت ذلك بكثير ،
لم يحاول أبواي معرفة نوعية الجن التي تسكن الجسد , فحسب قولهما ذلك خارج عن المبتغى و لن يفيد بشيء , فسواء كان جنا صغيرا أو كبيرا أحمرا أو أزرقا , غواصا او طيارا او ماردا , حتى لو كان إبليس نفسه , فإن القرآن سيفي بالغرض ” و لنخرجنهم منها أذلة و هم صاغرون ” ,

مع الرقية تغير الحال فالعارض أصبح مسيطرا على جسدها طوال الوقت , تتكلم وحدها و كأنها لا ترى حولها أحدا , كانت كالغائب عن الوعي , الجن كانوا يكلمونها على لسانها يقومون بتحريضها لكي تهرب , سمعتها أكثر من مرة تقول ” لماذا أحضرتينا إلى هنا ؟ ألم تري ماذا فعلوا بنا؟ ها قد أضرموا فينا النار , يجب أن تهربي من هنا , يجب ان نخرج من هذا البيت ” و قليلا ما كانت تفيق لنفسها و تتعوذ بالله و تحاول قراءة شيء من القرآن ثم تعود لها تلك الحالة مرة أخرى , أحيانا ما يوجه العارض كلامه لها و يكون في شكل تحريض أو تضليل كأن يقول باستهزاء ” ما هي جهنم ” ” أين الله ” ” لماذا لم يساعدكي ” ” أمازلتي تدعين الله ؟ هل نفعك الدعاء ” , شيئا فشيئا فهمنا حالتها و فهمنا انهم يريدون أخذها ..

أخذها لتعمل معهم , هي نفسها كانت تعرف ذلك لكنها لم تخبر احدا , كانت خائفة ان ينبذها الناس , لكنهم فعلوا , اجل .. فعلوا , هم جبناء , انكروا و ينكرون و سيبقون ينكرون لأنهم جبناء لا يستطيعون ان يقدموا المساعدة لا يستطيعون أن يكونوا رجال , أين الإنسانية التي يتحفنا بالتغني بها البروفيسور فلان الذي انهى دراسته العليا و هو يعمل الآن في الجامعة و يتابع القضايا الإنسانية , أين هي المعلمة فلانة التي تعلم تلاميذها في المدرسة كيف يرحم الإنسان أخاه الإنسان , و تعلمهم أن تقديم المساعدة للمحتاجين من شيم المسلم , الجميع كانوا جبناء .

أخذوا المرأة منا بعد أن كادت تشفى و ألقوا بها في مستشفى للأمراض العقلية , لكي تعامل كحيوان و ليس كإنسان , كل هذا ليس كي يريحوها , بل كي يريحوا أنفسهم منها , في تلك اللحظة أيقنت أن العالم من حولنا , في الشارع و السوق و المدرسة و الجامعة في الحدائق و في كل مكان , ممتلئ بالمرضى العقليين الفعليين .. المجانين الطلقاء .
لا أخفيكم أبدا أنني خلال هذه الفترة , فترة الرقية , تعبت كثيرا , تعبت نفسيتي , لم اعد اقدر على المذاكرة , خصوصا و أني أتحضر لامتحان البكالوريوس , بيتنا أصبح يسوده التوتر و الفوضى , اذكر مرة انها اقتحمت علي الحمام , لم تكن في وعيها و كان لا يكف لسانها عن الحديث , خفت كثيرا و لم اتمكن من النوم في تلك الليلة , امي اصبحت تنام معها في غرفتي لتحرسها و أنا اصبحت انام في غرفة الوالدين , انقلبت حياتنا رأسا على عقب , المرأة تتصرف بغرابة طوال اليوم , طوال اليوم غائبة عن وعيها و الجن يكلمون بعضهم على لسانها , اذا ناديتها لا تسمع و لا تجيب , لا تأكل من طعامنا و ان لم ننتبه لها فستأكل من مجاري الصرف , اصبح هذا ديدننا كل يوم , ابي لا يعود من العمل الا في السابعة مساء و انا مجبرة كي ابقى في البيت مع امي , علينا ان نحرسها و ان ننتبه كي لا تهرب من البيت , الباب دائما مغفل بالمفتاح , أرسلنا اختي الصغرى لبيت جدي لتقيم عندهم ريثما يتحسن الوضع , لم اتوانى عن مصارحة أبويّ بذلك ” لا أحتمل و ليس من الواجب أن أحتمل , لماذا لا يتحمل اهلها المسؤولية ؟ لماذا نحن؟ ..

الآن و الآن حقا , أريد أن أفهم هل هذا بيت أم ملجأ ؟ ” كنت أعرف أن ما أقوله خطأ لكني لم اعد احتمل , أعرف أنني لا أستطيع اللحاق بأختي حتى عندما طلبا مني ذلك , إذا ذهبت فمن سيبقى مع امي ؟ ماذا لو حصل لها شيء ؟ سأبقى دائما قلقة , حتى لمجرد خروجي من البيت لفترة قصيرة اصبحت اقلق على امي , لم اعد اخرج ابدا , إنهما يحاولان عبثا تهدئتي بكلامهما
” خافي الله , إنها بحاجة إلينا , اصبري و الله سوف يفرجها ”
” اعرف ان الله سيفرجها لكن لماذا نحن دوما نتحمل الأمور ؟ ”

” لا نستطيع التخلي عن شخص نستطيع مساعدته , لو تركناها فماذا سيحصل لنا لو سمعنا فيما بعد انها ماتت بعلتها ؟ هل سنستطيع ان نواصل حياتنا بشكل طبيعي ؟ ماذا لو كان شخص من أسرتنا هل نتخلى عنه ايضا ”
” الامر مختلف “
” كيف يكون مختلفا و كان يمكن ان يكون احدنا في مكانها , سيتمنى ان يعينه احد على نفسه و يقف معه في محنته , فلنكن نحن هذا الشخص , عسى ربنا ان يرحمنا “

اعرف أن أبويّ عاقلان و شجاعان , إنسانيان , و نبيلان و أفضل مني بكثير , لكني لم اعد احتمل هذا الوضع , هذا التوتر الذي يسود البيت , نحن لسنا أقاربها الوحيدين , أليس كذلك؟ , أعرف مسبقا جواب أبي و أمي ” لكننا الوحيدين القادرين على مساعدتها “

لا بد أننا أسرة يحسدها الجميع على تفاهمها , لم أرى في حياتي زوجين متفاهمين كأبي و أمي .
لكنني ازداد كل يوم ضغطا و الضغط يولد الانفجار , شعوري بالغضب و السخط لأن الجميع نفضوا أيديهم من المسؤولية , و كالعادة نحن في الواجهة , الجميع ينفضون أيديهم في أيدينا , ألم يكن كذلك ؟
كل يوم قصة , في بيتنا لا تنتهي الحكايات , هذا الضغط دفعني للتفكير في دخول مغامرة لم ادخلها من قبل , إتخاذ خليل , هذه اول مرة افكر فيها بهذا الشكل , عالم اخر اهرب إليه , نوع آخر من الوجع , أنا أيضا لدي الحق في التغيير , انتظرت الوقت المناسب , يمر فلان كل صباح تحت نافذتنا التي في الطابق الثاني , في طريقه إلى المقهى الذي يعمل فيه , فلان ابن جارنا من العمارة اليمينية , في الثالثة و العشرين , لا بأس به من الناحية الخَلقيّة , لكن من الناحية الخُلُقية هو باختصار شاب لعوب , غير جاد , غير مهتم بقيود المجتمع و لا تعاليم الدين , مستواه الدراسي متوسط , و لا يهمني المستوى , أريد مهربا , شخصا آخر في حياتي غير أمي و أبي و السيدة فلانة , ألقيت إليه برسالة غيرت فيها خطي قليلا , رأيته ينحني ليلتقطها ثم اختفيت قبل أن يرفع رأسه لأعلى .

و في المساء حوالي الساعة السادسة بعد ارتفاع الشمس عن جهتنا جلس تحت نفس النافذة , لكني لم افعل شيئا , ثم وقف على قدميه و اخذ ينظر في هاتفه قبل أن ينتقل للرصيف المقابل مقابلا نافذتي , هناك ظل يحدق بالنافذة بين حين و آخر , لقد فهمته , لقد استجاب و كيف لا يفعل ؟ عادته ان يخرج قبل السابعة هذه المرة تبادلنا أرقام الهواتف , الحب جميل نعم , لقد تعلقت به و أحببته , مرح و لطيف و أفكاره مثيرة للاهتمام أحيانا و للسخرية و الضحك أحيانا أخرى , لكن ما يؤلمني أني أعرف في قرارة نفسي أنني لست الفتاة الوحيدة في حياته , لقد غير الكثير في مشاعري و اغدق علي سيلا من السعادة و التفاؤل , هل هذا هو الحب كما يقولون , ألم لذيذ و سعادة مؤلمة ؟ , ثم إني أدرك أني بذلك خنت ثقة والدي الذي يثق بي كثيرا و لا يشك حتى , هو لا يتبع حركاتي و لا يسألني من كنت تكلمين و لا من اتصل بك و لا أين ذهبتي , أشعر بالسوء و الذنب .

كما أني أشعر بالسوء و ضميري يؤنبني تجاه تلك المرأة المسكينة , هل أخطأت عندما فكرت بتلك الطريقة , أكان خطأ أن أقول ذلك الكلام , آه , أخشى أن أكون أنا السبب و لو قليلا في ذهابها , و يا ترى كيف ستعود , أفي حالة جيدة تقريبا كما أخذت من عندنا , أم في حالة سيئة كأول مرة زارتنا فيها , رأسي ممتلئ بكثير من الأشياء .
ماذا أفعل تجاه كل شيء , كل شيء , كل شيء , أرجوكم أفيدوني ساعدوني و لو بكلمة .

تاريخ النشر : 2019-09-02

guest
17 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى