أدب الرعب والعام
بيني و بينك ..ألم
بيني و بينك ..ألم ! |
توقّفت السيّارة الفخمة ذات الزّجاج المعتم أمام البيت الصغير في آخر الحيّ الهادئ ، فُتِح الباب الأماميّ و تدّلت منه ساقان طويلتان ناعمتان ، حاولتا عبثا الثبات على الحذاء عالي الكعب ، و لكنّها مع ذلك غادرت السيّارة مترنّحة و وقفت في مشّقة تفتّش حقيبتها الجلديّة ذات الماركة العالميّة بحثا عن مفتاح المنزل ..
فيما انطلقت السيّارة مبتعدة , و لمّا وجدته بدأت مأساة من نوع جديد ، إذ كيف لها أن تدخله في القفل و هي تترنّح يمنة و يسرة هكذا ؟ استسلمت بعد محاولاتها الفاشلة و جلست أمام الباب و أسندت رأسها المثقل إلى خشبه البارد و غطّت في نوم عميق لا يعكّر صفوه سوى لسعات نسمات الشّتاء القارصة تلذع وجهها و ساعديها و فخذيها العاريين .
في الخارج ، كان يقف تحت الثلج المتساقط بغزارة ، يتأملّها و هو يسحب نفساً عميقاً من سيجارته ليحبسه في صدره ، كأنّما يخشى أن تنسلّ روحه مع الدّخان إن هو نفذه ، و لم تطل مقاومته ، فقد شعر بالاختناق و بعض الدّوار، فانبرى يسعل محرّرا دخان السيجارة .
انتبهت لسعاله المكتوم ، و فتحت عينيها بصعوبة و لكنّ كلّ ما رأته كان خيال رجل غريب يتراقص أمام عينيها ، ففتحت فمها مشيرة إليه و قالت متلعثمة :” م..منـ..مـــــن أنـ..؟ ” و لكنّها عادت و فقدت الوعي من جديد.
طالعها بقسوة من عيل صبره ، و عصفت به كبرياءه فرمى سيجارته على الأرض و داسها بقدمه في غيظ و كأنمّا تجسدت فيها كلّ خيباته و فشله ، و وضع يديه في جيب سترته و غادر ، مشى بعض خطوات مهزومة ، و لكنّه توقف قبل بلوغ المفترق ..
لم يتمكن من تركها على هاته الحال المزريّة في الخارج في يوم عاصف كهذا ؛ “ماذا لو أصيبت بالمرض ؟ إنّها ضعيفة البنيّة رغم تظاهرها بالقوّة، لن تصمد في جوّ كهذا ” ، و عاد أدراجه يلعن ضعفه و قلّة حيلته ، و ولج باب الحديقة الحديدّي و أسرع نحوها .
فتح الباب و حملها بين ذراعيه إلى داخل المنزل ، تردّد قليلا و هو يطالع الدرج ، هل عليه وضعها في غرفتها أم هل يكتفي بتمديدها على الأريكة في غرفة الجلوس؟ ، ليس الأمر و كأنّه غريب عن المنزل ، فهو على العكس تماما ، يعرف كلّ شبر منه و يحفظ كلّ زاوية و ركن و لكنه يخشى الآن أنّه لم يعد في إمكانه التصرّف بعفويّة كما كان يفعل في الماضي .
حسم أمره ، و مدّدها على الأريكة ووضع وسادة تحت رأسها فيما تمطّت كطفل صغير أعيته ألعاب يومه ، انحنى قليلا ، و نزع حذاءها فطالعته قدمها العاجيّة الصغيرة ، فابتسم رغما عنه و لكن لفت انتباهه جرح دام في عقبها ، فتقلّصت ملامحه و تمتم في قلق : ” لا أعلم لم تصّر على ارتداء هذه الأحذية الشاهقة ما دامت غير مريحة .. “
تكوّرت الفتاة مرتجفة و اندست بين وسائد الأريكة تنشد بعض الدفئ ، فانتبه لها و ركض نحو غرفة النوم ليجلب بعض الأغطية و عرج على الحمّام ليتناول ضمادة جروح ، و عاد على عجل .
أمسك قدمها بحذر حتّى لا يوقظها و وضع الضمادة على جرحها و هو ينفخ عليه ، كأمّ تحنو على رضيعها ، ثمّ نهض و راقبها في نومها و هو يتساءل ” هل عليّ أن أساعدها في تغيير ملابسها ، فهذا الفستان .. ” و فرك شعره بعنف ” كيف تجرؤ على ارتدائه، إنّه لا يستر شيئا من بدنها “
و لكنّه انتبه إلى غرابة ما يدور في ذهنه فهزّ رأسه ليطرد الفكرة الغبيّة التّي خطرت له فجأة ، و تمتم و هو يغطيها :” أيّها المثير للشفقة، أنسيت ما حدث منذ قليل ؟ ” ، كان يتأرجح على خيط رفيع بين الكبرياء و الحبّ ، فلا هو أخرس كبرياءه و نعم بحبّه و لا هو قبر حبّه وثأر لكبريائه ، بينما كانت هي نائمة بوداعة الأطفال ، لا يقضّ مضجعها ما يعانيه من حيرة و ضياع.
انهار أخيراً على الأرض عند قدميها ، و أسند رأسه في ضعف إلى الأريكة و أغمض عينيه مستسلماً ، هل تراه خسر المعركة أمامها من جديد ككلّ مرّة ؟ ما هو عدد المرّات التّي قرّر فيها الرحيل دون عودة..مائة؟..ألف..أم ربّما قد تكون المرّة المليون؟؟
فتح عينيه و نظر إليها لبرهة فيما لمعت في ذهنه المشوّش فكرة مجنونة ، ماذا لو أنّه أحاط عنقها بكلتا يديه و ضغط بكلّ الخذلان و المهانة التّي سقته كأسهما إلى أن تنطفئ شعلة الحياة في جسدها..؟؟
و فجأة تلاشت الغرفة من حوله بما فيها و من فيها و وجد نفسه جالساً مكبّلاً في قاعة محكمة تعجّ بالمتطفليّن الذّين أثارت فضولهم قضيّة القتل الشنيعة في ذلك الحيّ الهادئ ، بينما انتصب المدّعي العامّ يلقي مرافعته مطنباً في استعمال كلمات رنّانة يستجدي بها تعاطف القضاة للاقتصاص للفتاة البريئة من الذّئب البشري ، و في النهاية يصدر الحكم “مذنب”.. دون أن يلقي أحد بالاً للرجل الجالس في قفص الاتّهام الذي بدأ للتّو العدّ التنازلي لنهاية حياته البائسة.
رنّ الهاتف ، فانتفض مرتعباً و نظر حوله ، فوجدها نائمة كما تركها ، زفر في ارتياح ، و نهض يجرّ قدميه جرّا ، لطالما كان شخصاً ضعيفاً ، مسلوب الإرادة و جاء حبّها ليقضي على بقيّة إرادته و كلّ كرامته ، مجرّد التفكير أنهكه و استنفذ قواه فما بالك بالتنفيذ .
رفع السماعة و قال بتردد : ” مرحبا ؟ ” فأجابه صوت رجاليّ واثق في الجهة الأخرى يسأل عنها ، فسارعت عيناه رغما عنه تتفحصانها من جديد ، و قد فقدتا بعضا من بريقهما .. مذ عرفها لم تعد عيناه مجرّد عضو من أعضاء جسده و لا اقتصرت مهمتهما على النظر وحده .
لقد أصبحتا نافذة إلى قلبه تنقل إليها كلّ ما يعتمل فيه من مشاعر و أفكار ، و لطالما أجادت في الماضي قراءة ما يخفيه قلبه من خلال تأمل صفحات عينيه ، فلم هي الآن عاجزة عن استشعار الظلمة التي تزداد حلكة مع كلّ غريب جديد يتسلّل ليقف بينهما ؟ و إن فقد قلبها ذاكرته..ألا يقولون بأنّ فقدان الذاكرة لا ينال من مهارة القراءة ؟ فلم عجز قلبها عن قراءة صفحات عينيه؟
استعاد عينيه و ردّ على المتصّل بنبرة جافة : ” إنّها متوعكة الآن ، سأعلمها باتصالك …” و وضع السّماعة دون أن يمهل الرّجل الوقت للردّ ، مسح لحيته الخفيفة في تبرّم ، و أطلق تنهيدة متقطعة و عاد إلى مكانه من الأريكة و أسند رأسه إليها و حاول النسيان و لكنّ أناملها المتسللة بين خصل شعره أبت عليه ذلك.
رفع رأسه المثقلة بالذكريات و الخيبات، و أبعد بيده أناملها و طالعها فوجدها تتأمله بعينين تائهتين تحدّهما هالة من الكحل المنسكب الذي عبدّت له الدموع طريقا إلى الخدّ الشاحب ، ابتسمت له و هي تتمتم : ” هل هذا حقّا أنت ؟ “
فأجابها : ” بلى ..” و نهض قائلا : ” لا بد من أنك تعانين بعض الصداع ، سوف أعد لك منقوع الأعشاب ” .. كانت محاولة يائسة منه لتفاديها لم تخطئها فقالت : ” لم أرك منذ وقت طويل . “
أخفض رأسه و أجابها و هو يتصنع القوّة : ” منذ حادثة الملهى الليلي على ما أذكر ..” .. فهزّت رأسها مؤيّدة و قالت برجاء : ” هلاّ أعددت لي بعض القهوة ، بدل من منقوع الأعشاب .. إنّ طعمه مقرف . “
فتمتم في خيبة : ” منقوع الأعشاب الطبيّة مفيد لمخلفات الثمالة التي تعانين و لكن ما دمت تصرين .. سأعدّ لك القهوة بدلاً عنه . ” و انهمك في تحضير القهوة بصمت.
فتمطّت و قالت و هي تفرك عنقها المتشنج : ” أرى أنك مازلت تتبع تلك القواعد الصحيّة الصارمة . ” .. فهمّ بالإجابة ، و لكنّها سبقته و قالت بسخريّة : ” آه ، لقد نسيتُ ” الوقاية خير من العلاج ” ” ، أزاحت الغطاء و نهضت متكاسلة و اتجهت نحوه قائلة : ” و لكن للأسف لا نملك جميعاً قدرتك على الالتزام بما تختاره .”
و هذه المرّة أجبرته نبرتها الساخرة على الردّ ، فسلمها فنجان القهوة ، و قال بتهكم لا يقل حدّة : ” عليكِ أن تكوني قويّة حتى تتمكني من الالتزام و تحمّل المسؤولية ، ألا تظنين ذلك ؟ ” .. ابتسمت لنبرة صوته المتحديّة و ترشفت بعضاً من قهوتها و هي تطالعه بعينين تشعان سعادة و قالت:” إممم ، و لكن عليّ الاعتراف بأنك الأبرع في إعداد القهوة ، إنها رائعة حقاً .”
اكتفى بإجابة ثناءها بابتسامة جانبيّة ، عندها أضافت بمكر : ” و لكن في المقابل عليك أن تعترف بأنّ الجنون وحده ما يستوجب القوّة .. و وحدهم المجانين أمثالي أقوياء ، لأننا ببساطة نقف في وجه العالم و قوانينه المملّة و نعيش وفقا لأهوائنا و حدودنا السّماء .”
قطّب جبينه و التفت إليها بكلّ جسده متأهباً للجدال الطويل الذي تجّره إليه : ” حقّا ؟ و ما القوّة التي يحتاجها مهووسوا الحفلات الصاخبة في الملاهي الليليّة ، و أيّ إنجاز يحققونه بمعاقرة الكحول لساعات ؟ “
هزّت كتفيها و لوّت فمها باستهانة قائلة : ” على الأقل نحن نستمع بما نفعله ، ماذا عن مدمني المسؤوليات أمثالك ، ما القوّة التي يحتاجها مهووسوا الكتب ؟ و ما الإنجاز الذي يحققونه بالتهام المجلدات و الموسوعات و قضاء ساعات طويلة في المكتبات المتربة بين أكوام الأوراق الصفراء التي تفوح منها رائحة العفن و الغبار ؟ “
و أضافت و هي تتأمله : ” لقد سمعت بأنّك بدأت للتو بمواعدة فتاة جديدة .. ” .. فردّ و هو ينظف آلة تحضير القهوة : ” كان مجرّد موعد مدبر آخر . ” فرفعت حاجبها و همست مستفسرة : ” و .. ؟ ”
أسند ظهره للمشرب و تفحصها بفضول برهة ظنتها دهرا ، ثمّ قال : ” و لم تسألين عن الأمر ؟ ” .. فاتجهّت مبتعدة إلى الأريكة دون أن تجيبه و هي تنفخ في فنجان القهوة لتبرد ، غير عابئة بفستانها الذي انحسر على فخذها الأيمن في عناد، بينما تاه هو في بياض العاج المتمرد تحت الثوب القصير الأسود .
انهارت على الأريكة و تناولت المرآة من حقيبتها و زفرت في غيظ لمرأى الكحل المنسكب و التفتت إليه مشيرة إلى وجهها:” هيييي ، لما لم تقل شيئا عن هذه الفوضى في وجهي ؟ “
و انبرت تفتش في حقيبتها من جديد عن منديل ، و لكنها لم تجده ، فتمتمت في حنق : ” تبّاً ، لقد كان هنا البارحة . “
و أخرجت في المقابل علبة السجائر ، فما كان منه سوى أن أسرع نحوها و قدم لها منشفة صغيرة مبللة ، و استّل السيجارة من فمها بخفّة قائلاً : ” الرّجال لا تستهويهم النساء المدخّنات . “
فمدّت عنقها نحوه و قالت بدلال : ” حقا؟؟ و مع ذلك فقد استهويتك.. ” .. نظر إلى وجهها الذي لا تفصله عنه سوى بعض الإنشات ، و تفحّص عينيها الواسعتين و تماهى في تفاصيل الأنف الدقيق المنتصب في شموخ مستفّز في منتصف الوجه البيضاوي ناصع البياض ، و تعلق بصره بالشفتين القرمزيتين للحظات ، و اقترب حتى لم يعد بينه و بينهما سوى ترددات أنفاسهما ، و لكنه أخفض رأسه مبتعدا .
فانتابها شعور جارح بالإهانة ، تجاهلته قائلة و قد أضمرت في نفسها الانتقام : ” ساعدني في تنظيف مساحيق التجميل كما كنت تفعل عندما كنا نتواعد .” .. و لكنه وضع المنشفة على المنضدة قبالتها ، و تراجع مبتعدا و اكتسى وجهه عبوس شديد .
وأخذ يفرك جبينه في عصبيّة كعادته كلمّا تسلّت بخدش جروحه القديمة : ” و لكننا لا نتواعد الآن ، لقد انفصلنا “
فندت عنها ضحكة مستهترة ، أتبعتها قائلة في لا مبالاة : ” بالتأكيد لم أنسى أننا منفصلان ، فبالنهاية لستُ الشخص الذّي يحوم حول بيت صديقته السابقة ، و من يتصّل كلّ مرة مقدما أعذاراً واهية ، و من يسارع كالمجنون يلاحقها في الحانات و الملاهي الليليّة و يخوض شجارات عنيفة من أجلها . “
أشاح بوجهه و زفر غير مصدّق بأنّها تقوم بذلك مجدّدا ، بأنّها تنشب أظافرها لتجتث قلبه من جديد و ترميه كالمتسوّل على قارعة الطريق ، و بأنها لا تستنكف جرح كبريائه و دوس رجولته و اللعب بأعصابه المنهارة إنّها ببساطة تقوده إلى حافة الجنون ، تثير غيرته و تتسلى برؤيته يتلظى بنيرانها المستعرة .
أعاد شعره إلى الوراء بعصبية بينما يطالعها في نكران مطلق و همس بصوت مرتعش : ” أنا حقّاً شخص مثير للشفقة لأتحمل كلّ هراءك . “
نظرت إليه لوهلة، ثمّ أشاحت بوجهها بعيداً حتى لا يرى تلك الدموع التي أبت إلاّ النزول رغم معاندتها ، و تمتمت : ” لقد حذرتك مراراً من الاقتراب مني ، و لكنك أبيت إلا أن تفعل .. أنا حقا عاجزة عن فهم رغبتك في التمسّك بشخص مثلي .. ألم تميّز حقيقتي بعد ؟ .. أنا ذلك النوع من الأشخاص الذين يبنون سعادتهم على أحزان الآخرين و دموعهم ، القادرين على دوس غيرهم دون تردد إن كان في ذلك خدمة لمصالحهم حتى الحقيرة منها.
أنا أنانيّة حدّ النرجسيّة و لا و لن أهتّم لأحد سواي ، لذلك أنصحك مجددّا بالتخلي عن كلّ أمل كان قد راودك و لزال بأنني قد أتغيّر يوما من أجلك .. لأنني ببساطة لن أفعل .”
ثم مسحت دموعها على عجل ، و هبّت من مكانها و اتجهّت إلى الدرج، دون أن تلتفت إليه لترى ما أوقعته به كلماتها القاسية ، و صعدت درجاته مهرولة كالفارّ من حتفه و هي تقول : ” أغلق باب الحديقة بعد مغادرتك ، لو سمحت.”
ابتسم في ارتياح هذه المرّة على غير عادته بعد مشاجراتهما التي لا يكاد يخلو منها لقاء مهما قصرت مدّته و همهم برضى : ” سأفعل . “
وقفت هي أمام باب غرفتها تصيغ السمع ، و عندما صُفق الباب تهاوت باكية بحرقة كما اعتادت أن تفعل بعد مغادرته بيتها ، مرتجفة و وجلة و متيّقنة بأنّها ستكون آخر مرّة تراه فيها .
عادت في يأس إلى مجلسها من الأريكة في غرفة الجلوس ، فلفتت انتباهها قصاصة ورق موضوعة تحت فنجان القهوة ، تناولتها بأنامل مرتعشة و قرأت كلماتها المقتضبة بصوت متوجّس ” لن أفقد الأمل و سأعود مجددا لأنني .. أحبّك كما كنتِ ” .
فابتسمت لإصراره ، و قرّبت القصاصة من فمها تقبّلها بحرارة
{ يا لك من مجنون }
تاريخ النشر : 2016-04-25