أدب الرعب والعام

بين الأمس واليوم

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

ما الأقدار إلا سهامٌ تصيبنا ولا تخطئنا

 

كانت غير قادرة على تحمل كلامه أكثر .

– كلا ، لا تحاول معي رجاءً .

رد بنبرة يشوبها الألم :

– لكنني لا أستطيع إكمال حياتي من دونك ! .

تدثرت بالصمت ، لم تجد كلماتٍ مناسبة للرد ، فلا هي قادرة على الكذب ولا هي شجاعة كفاية لتقول الحقيقة .

استفزه صمتها فسحب نفساً قصيراً من سيجارته ، نفث دخانها بقوةٍ وقال مهدداً وقد تحول من الاستعطاف والرجاء إلى الغضب والقساوة :

– لن أتوانى عن فعل أي شيء في سبيل الظفر بك ، أنتِ تعلمين هذا .

زفرت طويلاً ثم قامت عن كرسيها ، حملت حقيبتها ثم أجابته وقد بدت تقاسيم وجهها هادئة :

– لن تستطيع فعل شيء يا آدم ، انتهى كل شيء ، لكل منا طريقه الآن .

لم تنتظر لترى ردة فعلِه ، غادرت المقهى دون أن تلتفت وراءها ، رمقها بنظرات غاضبة وهي ترحل ، أطفأ عقب سيجارته في المرمدة ، شرب جرعة ماء بلل بها ريقه ثم دفع حساب الفاتورة ومضى ليلحق بها على عجل .

 

* * *

الفصل الأول

 

– 1 –

كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل وعشرين دقيقة حين انفتح باب شقة الطابق الخامس من إحدى عمارات المجمع السكني الخاص بموظفي المدرسة الثانوية ، اندفع منه بأقصى سرعة شاب لم يتجاوز عقده الثالث ، بمنامة منزلية ارتداها كيفما اتفق راح يركض على الدرج غير آبه بأنه كان حافي القدمين ، في أثناء ذلك صدح صوت هامس من ورائه :

– جــاد ، رجاء عد الآن ، ستجلب لنا فضيحة !.

لم يتردد في إكمال طريقه نحو مخرج العمارة ، كان يخشى أن يفقد أعصابه ويتهور، لكنها أصرت على اللحاق به ، تشبثت بيده لتوقفه ، نهرها وقبض على معصم يدها بقوة ليفلتها ، قوة جعلت السوار الذهبي الذي أحاط برسغها ينقطع ، جز على أسنانه من شدة الغضب وقال لها بنبرة آمرة :

– اصعدي الآن .

– ليس من دونك ، أرجوك يا جاد ، تعال وسنجد حلاً للمشكلة .

أغمض عينيه وأطلق تنهيدة طويلة ، ثم أشار لها بالصعود ، تحركت فتبعها متباطئاً .

جلست على أريكة الصالة ودلكت موضع الألم بذراعها وهي ترمقه بنظرات متوسلة ، كان يذرع المكان جيئةً وذهاباً محاولاً أن يسيطر على غضبه قدر المستطاع ، وأخيراً نطق دون أن يلتفت إليها قائلاً بلهجة مؤنبة :

– لقد ضقت درعاً بجنونك هذا يا سهام ، هل توجد امرأة عاقلة تصرخ لمجرد أن زوجها أراد أن يلمسها ! من يراك سيظن أنني مجرم كنت أنوي اغتصابك ! .

– أخبرتك ، أمهلني بعض الوقت ، لكنك مصمم .

– بعض الوقت ! أنا أنتظر منذ أربعة أشهر، تاريخ زواجنا هل تذكرين؟ .

همست قائلة :

– وكيف لي أن أنسى ؟ ثم علا صوتها :

أنت تدرك أن الأمر ليس بيدي ، إنه رهاب .. والطبيب قال أنه مع الوقت والعلاج سأتجاوب و…..

احتد صوته وهو يقاطعها :

– هذا في حالة ما إذا كنت ترغبين حقاً في العلاج ، ثم إن مسألة الرهاب هذه لم تقنعني ، أكاد أجزم أن لا علاقة له بالأمر، أنتِ تفعلين ذلك بإرادتك ، إني أرى الرفض بعينيك يا آنسة سهام .

أربكها كلامه ، كان محقاً بكل ما قاله .

– جاد ، رجاء ، فقط بعض الوقت ، أعدك.. سأحاول .

قال منهياً الحوار، متجها نحو غرفة النوم ودون أن ينظر نحوها :

– شهر واحد يا سهام ، فقط شهر واحد و إلا ..

كانت تعرف بقية الجملة ، وإلا سينفصلان ، فتحت أصابع كفها المطبقة على سوارها المنقطع ، تلمست بأناملها حرفي “A” و”S” الذهبيين المتدليين منه ، ترقرقت عيناها بالدموع وهي تغمغم :

– اللّعنة عليك يا آدم .

* *

خلال سنوات مراهقتي الأولى نفحتني جدتي نصيحتها قائلة : ” ما الأقدار إلا سهامٌ تصيبنا ولا تخطئنا ، لتتابع : أن ارضِي بقدرك يا ابنتي فالخيرة فيما اختاره الله ” .

الأيام تمضي بنا ولا تترك أحداً ، ما كنت سأعرف نفسي لو عادت بي عجلة الزمن للوراء ، في وقت ظننتُ أن انتهاء مرحلة تعليمي الجامعي وبداية البحث عن وظيفة يعني الاستقلال المادي وتحقيق كل حلم راودني منذ الطفولة ، كانت آمالي بالمستقبل كبيرة ، ولم يكن آدم الذي اقتحم حياتي فجأة أحدها في ذلك الوقت .

أنا الابنة الثالثة لإحدى العائلات البسيطة التي تقطن أحد الأحياء الفوضوية الموجودة بضواحي المدينة ، كان والدي رجلاً فقيراً يكسِب قوت يومه من سيارةِ الأجرة التي وهبها إياه أحد أقاربه الأثرياء منذ سنوات طويلة ، تكبرني فتاتان تزوجتا بعد تخرجهما من الجامعة ، وتصغرني اثنتان أخريان إلى جانب توأم من الصبيان كانا آخر العنقود .

عشنا حياة صعبة ، ذقنا مرارة القِلة والحرمان ، مرت علينا الكثير من الأوقات التي لم نكن نجد فيها ما نسد به رمقنا ، ومع ذلك كان والدي قد قطع على نفسه عهداً أن لا يبخل علينا فيما يخص تعليمنا ولو اضطره الأمر للتسول .

بحثت بجدٍّ عن وظيفة ، أي وظيفة كانت ، مع أنني كنت خريجة كلية العلوم الاجتماعية ومتحصلة على درجة الماجستير في تخصصي ، وأخيراً وجدتها كأستاذة قيد التدريب بثانوية قريبة من المنطقة ، كنت سعيدة جداً بالخطوة التي تقدمتها في المسار الصحيح الذي رسمته لحياتي ، قبل أن أجدني قد انحرفتُ عنه و بملء إرادتي .

كنت كما العادة أمر بالطريق المواجه لمقهى الحي ، فقد كان الوحيد الذي يصل بين منزلي ومقر عملي ، على الرغم من أني وفتيات الحي كنا لا نسلم من التحرشات اللّفظية لبعض شباب المقهى الطائش ، أشياء اعتدنا عليها دام أنها لا تتجاوز الكلمات ، لكن ما حدث أنه أثناء عودتي في تلك الأمسية الشتوية للمنزل ، وقد كان وقت الغروب قد أزف منذ فترة ، اعترضني شاب بدا لي مألوفاً ولكنني لم أذكر أين رأيته بالضبط ، عريض الكتفين، متوسط الطول ، أسود الشعر ، أسمر ذو ملامح لا تخلو من وسامة ، وقف أمامي بكل ثقة قائلاً بصوتٍ جهوري :

– الفتيات المحترمات لا يمشين لوحدهن في الليل .

بلغ الاندهاش مني كل مبلغ وأنا أحدق به كالبلهاء ، فأردف وكأنه لم يكن ينتظر مني جواباً :

– تعلمين أنك عرضة للخطر في مثل هذا الوقت ؟ انظري من حولك لتري عدد الأعين التي تتربص بك .

أدرت رأسي من حولي باستسلام تام ، فوجدت مجموعة من الشبان الجالسين على طاولةٍ خارج المقهى يحدقون إلينا وأصوات ضحكاتهم تتعالى شيئاً فشيئاً .

فكرت حينها  ما الذي يجري بحق الله ؟ قررت أن أنسحب من الموقف برمته ، فتجاهلت ذلك الشاب وتجاوزته لأمر بمحاذاته ، اصطدم كتفي بكتفه فأجفلت ، ازدادت حدة الضحكات و القهقهات ، شعرت بالخزي وأحسست أن دمعي يكاد ينهمر ، حاولت الإسراع لكنه أمسك بذراعي وجذبني لأواجهه من جديد ، تلاقت عينانا لبرهة قبل أن أصرخ فيه :

– من أنت يا هذا ، و كيف تجرؤ على لمسي ؟ .

– آدم ، اسمي آدم ، ربما لا تذكرينني ، لكنني أذكركِ جيداً يا سهام .

صدمتُ ، فابتلعت صوتي ولم أرد وأنا أسمعه يتابع :

– عودي الآن إلى بيتك ، ولنا في المستقبل القريب حديث طويل .

خمنت لحظتها أن به حتماً خطباً من الجنون ، حررت ذراعي منه و حثثتُ الخطى للابتعاد عنه ، بعد أن اجتزت مسافة كافية دفعني الفضول لأن ألتفت للخلف ، وأرى إن كان لا يزال واقفاً هناك ، فوجدته وقد أمسك بخناق أحد أولئك الفتية ، لم أنتظر لأعرف ما سيحدث وطرت كالسهم ناحية المنزل .

حاولت ما استطعت أن أبدو طبيعية بين أسرتي ، فوالدي لا تنقصه مشاكلي أنا الأخرى ، بعد العَشاء رافقت أمي إلى المطبخ ، كنت أجلِي الصحون وقت سألتها :

– هل تعرفين شاباً من الحي يُدعى آدم يا أمي؟ .

كست ملامحها علامات الارتباك للحظات ثم أجابت عن سؤالي بسؤال :

– أين رأيته ؟ .

– اليوم أمام المقهى .

لم أجرؤ أن أقص عليها ما حدث بالضبط فقلت :

– سمعت أحدهم يناديه بآدم ، بدا وجهاً جديداً ومختلفاً عن سكان المنطقة ، ومع ذلك أشعر أنني رأيته من قبل .

تقدمت نحوي وهي تقول بلهجة تحذيرية :

– احترسي منه يا ابنتي ، نحن أناس بسطاء ولا قوة لنا بمن هم على شاكلته .

– ماذا تعنين ؟ .

– آدم هو الابن البكر لعزيز صاحب دكان البقالة القديم .

ساعتها تذكرت الفتى الذي كان يزعجنا صغاراً وقت كنا نذهب لنبتاع شيئاً من الدكان .

– آه .. تذكرته، لم أره منذ زمن طويل فقد اختفى فجأة ، أين كان ؟ .

– ترك الدراسة صغيراً  ثم سافر للعمل بمدينة أخرى ،  انقطعت أخباره لسنوات ثم …

– ثم ماذا؟ .

– سمعنا أنه دخل السجن ، شيء له علاقة بأعمال غير مشروعة ، عاد منذ أيام قليلة ، يقول والدك أن له هيئة المجرمين .

سرت رجفة شديدة بأوصالي وأنا أتساءل كيف تذكرني دام أنه حديث العهد بالوصول للمدينة ؟ تحركت أمي لتكمل أعمالها ولم تنس أن تكرر تحذيراتها بأن أتجنب أماكن تواجده قدر المستطاع .

وهل كان الأمر حقا بيدي حتى أفعل؟ .

 

* * *

– 2 –

داخل قاعة الانتظار الخاصة بالنساء في عيادة الدكتور سامح جلست تقلب صفحات مجلة فنية دون هدف ، كان القلق العارم يعتريها ، هي لم تستطع أن تكمل بعد أول جلسة ، كانت تخشى أن تبوح بما اعتبرته أكثر أسرارها قدسية ، وعلى الرغم من أنه لا أحد على الإطلاق كان يعلم بزيارتها لطبيب نفسي ، إلا أن الشك بقي يعتمل داخلها ، ولكنها اليوم قررت أن تستجمع شجاعتها ، أن تفعل شيئاً ما تنقذ به نفسها من الضياع .

– سهام أحمد .

علا صوت السكرتيرة معلنة أنه دورها ، وضعت المجلة من يدها وأمسكت بحقيبة يدها وتقدمت نحو مكتب الطبيب ، ولجت إليه ، ألقت السلام فرد عليها ، ثم جلست ، أطلق الأخير ابتسامة مطمئنة وقال بهدوء :

– تبدين مختلفةً هذه المرة .

بادلته بابتسامة باهتة :

– لنقل أن الوقت قد حان .

فهم ما ترمي إليه فسأل :

– كيف يجري العِلاج الزوجي ، هل من تقدم ؟ .

لوت فمها وقالت بتهكم :

– هل تسخر مني يا دكتور ؟ كلانا نعلم أنه ما من داع إليه ، المشكلة هنا .

قالت ذلك وأشارت لقلبها ، صمتت للحظات محاولة أن تتماسك ، اغرورقت عيناها بالدموع ثم راحت تسيل حارة على خديها ، قدم الطبيب إليها منديلاً ورقياً وحاول تهدئتها :

– هل تودين الحديث؟ .

أومأت برأسها إيجاباً ، فوجهها نحو الأريكة الخاصة بالعلاج ، اتكأت بأريحية ثم جلس هو على كرسي أمامها وسأل :

– ماذا حدث بعد ذلك اليوم ؟ .

* *

بعدها أصبحتُ ألمحه بالجوار بين الفينة والأخرى ، أتجاهله فيرمقني بنظرات عتب لم أفهم مغزاها ! كان من الطبيعي والمفروض في مواقف كتلك أن أخشاه وأتوجس منه خيفة ، أن أعتبره طبقاً لسوابقه خطراً يهدد سلامتي ، لكني وعلى العكس تماماً  صرت أجول بالنظر من حولي كلما عبرت في الشارع لأرى إن كان موجوداً كما هي العادة ، لا أدري إن كانت جرأة مني أم حماقة ، لكن فضولاً لا يُقاوم كان يدفعني لمعرفة ذلك الرجل الذي تذكرني باسمي رغم أن ما كان بيننا أيام كنا أطفالاً لم يتعد بضع محاولات مني للتصدي لإزعاجاته المتكررة .

بعد حوالي الأسبوعين من ذاك الموقف ، وجدته مجدداً أمامي فور خروجي من المدرسة ، تعجبت من نفسي وأنا أستشعر سعادة داخلية لرؤيته ، كان قد استحوذ على تفكيري خلال تلك المدة ، لكنني جاهدت أمامه كي لا أبدي أي اهتمام به ، تنهدت بعصبية وأنا أشيح النظر عن وجهه كي لا ألتقي بعينيه اللتين كانتا تنضحان عتباً :

– أنت ثانية ! واضح أن لا عمل لديك سوى مراقبتي ، أتظنني غافلة عنك ؟ بالله عليك أخبرني ما الذي تريده مني يا سيد؟ .

ابتسم قائلاً :

– آدم ، اسمي آدم .

– طيب ، يا سيد آدم لماذا تزعجني ؟ .

– يوجد مقهى قريب من هنا ، هل بإمكاني دعوتك لاحتساء فنجان من  القهوة ؟ أود الحديث معك قليلاً .

– وهل أبدو لك ممن تقبل دعوة الرجال إلى المقاهي؟ .

– لست مثل باقي الرجال ، اطمئني فلن يكون أحد في العالم أحرص عليك مني .

نظرت إلى الساعة بتأفف ثم قلت :

– إنها الرابعة عصراً ، لم يبق الكثير على وقت الغروب ، أنت تعلم أن الفتيات المحترمات لا يمشين لوحدهن في الليل .

ضحك ضحكة صاخبة و قد فهم رميي ، لا أعلم ما الذي اعتراني وقتها لكن شيئاً عنيفاً هزني من الداخل جعل قلبي يكاد يهوي من مكانه ، لملمت شتات نفسي وقلت بحزم :

– نصف ساعة لا أكثر، وأتمنى أن يكون ما ستقوله مهماً يا سيد .. آدم .

بعد دقائق كان يجلس أمامي ، طلب فنجانَي قهوة ثم قال مهمهماً :

– خمس عشرة سنة ، وقت طويل أليس كذلك؟ .

– عفواً ، لكن لا أعرف عما تتحدث ؟ .

تجاهل سؤالي قائلاً :

– أتذكرين وقت كنا صغاراً ، كان الماء وقتها شحيحاً خاصةً في فصل الصيف ، فتضطر عوائلنا لإرسالنا لملء بعض الدلاء من حنفية الحي ، كنت ألمحك بعودك النحيل ، شعرك المشعث ، تقفين تحت لهيب الشمس الحارقة بانتظار دورك ، فلا أطيق عذابك ذاك ، أسعى لأخذ الدلاء من يدك لأملأها عنكِ فترفضين بتعنت ، تظنيني سأسرقها كما توهمت مراراً أني سأسرق مالك ولن أعطيك حاجتك من دكان أبي ، كنت لا تتوقفين عن الترديد بعصبية لم تفارقكِ قط ،  “أنت مزعج ، دعني وشأني “.

تقدم النادل و وضع القهوة وكوب ماء ومضى ، تجرع من الماء نصفه ثم أكمل :

– لم أكن غريب أطوار كما أشاع عني صبية الحي ، كنت نادر الحديث وقتها ، لا أستطيع التعبير عما أريده أو تبرير ما أفعله ، كنت أظن أنه يجب أن يتفهمني الجميع دون حاجة للكلام .

كالمخدرة أمامه لم أنبس ببنت شفة ، رحت أتذكر تلك المواقف الطفولية التي رُدمت تحت أنقاض ذكريات أخرى .

سمعته يكمل :

– أتعلمين ، يُقال أن مشاعر الأطفال هي أنبل المشاعر وأصدقها ، كان الاهتمام هو ما تظنينه إزعاجاً ، رغم رحيلي وبعدي لم أعلم أن تلك المشاعر لن تفارقني و ……

داهمني شعور غريب فجأة فقاطعته قائلة بعد أن أخذت حقيبتي و قمت للمغادرة :

– يجب أن أذهب ،  تأخر الوقت .

رد بلطف بالغ :

– هل تريدين مني أن أوصلك لمدخل الحي على الأقل ؟ .

– المسافة ليست طويلة ، سأمشي لوحدي ، شكراً لك .

– للحديث بقية يا سهام .

قالها بثقة تامة ، شيء ما في عينيه منعني من الرفض ، ألقيتُ التحية عليه وغادرت ، كانت الأفكار تتلاطم داخل عقلي ، لم أشعر بأن آدم رجل سيء كما يُشاع عنه ، كنت قد لمحت داخل عينيه آثار وداعةٍ بدا وكأنه يجاهد حتى يخفيها ، كان كبحر هائل من الخبايا والأسرار أردت أن أغوص فيه وأسبر أغواره ، خيوط مشاعر قوية كانت تشدني نحوه ، وإلحاح داخلي كان يدفعني إلى ما سيغير حياتي إلى الأبد .

* * *

– 3 –

مستغرقا في تفكير طويل لم ينتبه جاد إلى صوت سهام وهي تدعوه للعشاء .

– جـاد ، لماذا لا ترد ؟ أخبرتك أن العشاء جاهز .

استفاق على وقع صوتها العالي ، فقام متجها نحو الطاولة التي توسطت غرفة المعيشة ، سكبت سهام بعضاً من الطعام في صحنه وهي تراقب تعابير وجهه ، كان شارداً ، واجماً ، فلم يلحظ حتى أن صحنه أمتلأ .

– هل أنت بخير؟ .

– ها؟ .

قالت بارتياب :

– أنت لا تأكل .

مد يده وباشر بالأكل ، بدا وكأنه يريد الحديث لكن هناك شيء ما يمنعه ، لاحظت سهام ذلك من نظرته إليها بين الحين والآخر، بالعادة هو قليل الكلام ، فالعلاقة بينهما كانت فاترة وهي تعرف أنها السبب ، قررت أن تستغل الفرصة لتعرف فيما يفكر فقررت أن تسأل :

– هل تريد قول شيء ما ؟ .

رفع رأسه ناحيتها و رمقها بنظرات حائرة ، رد عليها بعد أن أخفض بصره و راح يقلب الأكل في صحنه :

– أسئلة كثيرة تجول في خاطري ، وددت لو وجدت لها جواباً .

ثم راح يستعيد كلام الاستشاري الزوجي حين نصحه بالحوار مع زوجته و سؤالها عما يدور في رأسه من شكوك ، قال إنه ربما استشف السبب الحقيقي لعدم تقبلها له .

أدركت مغزى حديثه ، وضعت الملعقة من يدها ، ارتشفت جرعات من كأس العصير ثم قالت بثبات :

– اسأل .

– أريدك أن تكوني صريحة معي .

أومأت برأسها موافقة ،  فسأل :

– هل أُرغمت على الزواج مني؟ .

كان قد سألها نفس السؤال من قبل عدة مرات وقابلته بالصمت ، هكذا فكرت وهي تجيبه :

– ليس تماماً ، سكتت قليلاً ثم استرسلت : ” وافقت بإرادتي ولكن ليس عن قناعة تامة ” .

– ألأن الزواج كان تقليدياً ؟ .

– ما من فتاة لا تحلم بقصة حب أسطورية تكلّل بالزواج .

– تلك أوهام صدّرتها الأفلام والقصص والروايات ، الحب بذرة تُروى بالعِشرة والتفاهم ، أبي وجدي وكل من سلفه تزوجوا بطريقةٍ عادية وماتوا شيوخ في أحضان زوجاتهم !.

 

هزت كتفيها على غير اقتناع ، فاستكمل استجوابه :

– قصص الحب هذه ، هل عشتِ إحداها؟ .

مرة أخرى لم يكن السؤال صدمة لها ، أي زوج في وضع جاد ستساوره الشكوك ، كانت قد أعدت جواباً يمزج بين الكذب والحقيقة فقالت بابتسامة ساخرة :

– كان ذلك منذ زمن طويل ، قصة طفولية خرقاء ، أتعلم ، نسيت الأمر لولا أن سألتني الآن .

رفع حاجبيه وحدق إليها بتشكك ، راوده شعور أنها ليست صريحة كفاية ، أراد أن يحقق أكثر لكنها استوت واقفة وهي تلملم الصحون النصف ممتلئة حتى تقطع سيل أسئلته :

– يجب أن أغسلها سريعاً ، أوراق امتحانات كثيرة بحاجة للتصحيح هذه الليلة ، أظن أن نفس العمل ينتظرك .

– بلى .

راقبها وهي تفر من أمامه مسرعة ، كانت لا تريد أن تجرحه ، فإذا ما استمر بأسئلته قد يزل لسانها دون أن تشعر .

أمسكت بإحدى الأوراق لتصححها ، ألقت نظرة خاطفة على اسم صاحبها فتراقصت أمامها حروف اسمٍ من لم يفارق خيالها يوماً ، أي مصادفات تلك التي تضع شبحه أمامها في كل مرة ، تحسست السوار المحاط برسغها وكانت قد أصلحته يومها ، ثم تنهدت بحرقة وهي تهمس :

– آدم .

* * *

– تفضلي ..

مد يده نحوي مقدماً لي علبةً ملفوفةً بورقِ الهدايا ، سألته :

– لأي مناسبة ؟ .

– التقدم لخطبتك .

أطلقتُ ضحكة جذلى قائلة :

– الهدايا تكون بعد الخطبة يا آدم .

 

هز كتفيه بغرور وهو يجيب :

– أنا مختلف يا عزيزتي ، افتحيها الآن .

أزلت الورق برفق حرصاً على سلامته ، ثم فتحت العلبة ، أخذت الهدية وقلبتها بين يدي ، سوار ذهبي تدلت منه أحرف اسمينا الأول بالإنجليزية ، شعرت بسعادة عارمة تعتريني وهتفت بفرح :

– إنها رائعة حقاً ،  شكرا لك ، لكن كيف واتتك الفكرة ؟ .

أجاب ممتعضاً من السؤال :

– لست جاهلاً لتلك الدرجة يا سهام ، لم أكمل تعليمي ولكنني لست غبياً .

مددت يدي و ربتت على يده معتذرة :

– لم أقصد ، صدقني ، كل ما في الأمر أنني انبهرت به ، تفضل ألبسني إياه بنفسك .

ارتسم شبح ابتسامة على ثغره :

– لا عليكِ ، علّها تكون فأل خير قبل الموعد المنتظر .

 

ثم أردف متسائلاً :

– كلامه لن يغيّر شيئاً ،  أليس كذلك ؟ .

ابتسمتُ له بقلق ، فوضع السوار حول معصمي و هو يتابع :

– اطمئني ، سيكون كل شيء على ما يرام .

كانت آخر ذكرى جميلة تجمعني به ، من جملةِ ذكرياتٍ أخرى لا تُنسى عشتها معه بعد أن اقتنعتُ ذات يومٍ أنه لا رجل غيره يحق له أن يستوطن قلبي .

كان الجو يومها غائماً  و ينذر بعاصفة وشيكة ، كنتُ عائدة إلى البيت بعد الظهر فوجدت سيارةً مألوفةً تقفُ أمامي ، أُنزل زجاج مقعدها الأمامي ليطل من خلفه قائلاً بجدية :

– اركبي .

لم يكن هناك مجال للرفض أمام صرامته ، جلست على الكرسي الذي يحاذي كرسيه ، أدار محرك السيارة وسار بها عكس الطريق الذي يؤدي للحي ،

تفاجأت بما فعل فصحت به :

– هاي ، إلى أين نحن ذاهبان ؟ الطريق من هنا .

– أريد أن نتكلم قليلاً .

قلتُ بعصبية :

– ألا تمل من الحديث ؟ حسب علمي كنت قليل الكلام فما الذي تغير؟ .

– أريدكِ أن تعرفيني أكثر .

أجبته بلهجة مفعمة بالسخرية :

– أها ، صدقني لقد حفظت قصة حياتك ، أعلم أنك عشت طفولة صعبة ، لم تجد نفسك في الدراسة فقررت السفر، كان طموحك أن تصبح ثرياً ، اشتغلت بالكثير من الأعمال وكان آخرها التهريب و …..

رسم ابتسامة جانبية على فمه وهمّ أن يقاطعني لولا أن تداركت نفسي :

– أوه ، حقا نسيت ، تهريب السلع الغذائية والملابس فقط ، ممّا يعني أنك لا تضر أحداً سوى اقتصاد البلاد وتخالف القوانين ، ماذا أيضاً ؟ تذكرت ، دخلت السجن بعد أن ألقي القبض عليك ، مكثت هناك عامين ، ثم قررت العودة للمدينة .

التقطت أنفاسي للحظات ثم استطردت وأنا أرفع ذراعيَّ باستسلام :

– وإلى الآن لا أعرف لماذا عليّ أن أعرف كل هذا ، وما دوري فيه بالضبط ؟ .

قال وهو يغمز ضاحكاً :

– أنتِ المحور الرئيسي بالقصة كلها .

– عفوا ً! .

ران إلى الصمت ولم يجبني ، فدمدمتُ بصوتٍ مسموع :

– أنت حقاً مزعج .

وصلنا إلى وسط المدينة ، ركن السيارة أمام مطعمٍ بدا أنه شُيّد حديثاً وقال :

– انزلي .

– ستهطل الأمطار في أي لحظة يا آدم ، رجاء فلنعد الآن وسنحدد لحديثك المهم وقتاً آخر .

نزل من السيارة ودار حولها ثم فتح الباب مما أدى بالريح التي تسللت للداخل إلى جعل جلدي يقشعر من البرد ، قال بلهجة آمرة :

– انزلي الآن يا سهام .

كنت كمن يحرث في بحر، أو يكلم جداراً أصماً ، أطلقت زفرة عصبية وأنا أنصاع لأمره ، كنت لا أعرف السبب الذي كان يمنعني من الصراخ في وجهه بالرفض ، خاصةً في الوقتِ الذي كان يستفزني فيه بتلك الابتسامة الماكرة .

جلسنا بجانب الواجهة الزجاجية الشفافة المطلة على الشارع ، كان المطر يهطل ، رذاذا وسط هزيم الرعد الذي يدوي بين الفينة والأخرى ، شعرت بموجة من الحرارة تجتاحني وتُشعرني بالاسترخاء ، فجو المطعم كان دافئاً ، كما كان قمةً في الجمال والتنظيم ، قطع سيل تأملاتي بسؤاله :

– هل أعجبكِ؟ .

هززت رأسي بالإيجاب حين قدِم نادل أبدى لنا احتراماً مبالغاً فيه ثم سأل عن طلبنا فأجابه :

– أحضر فنجاني قهوة وقائمتي طعام .

عقدت ذراعيّ ثم رحتُ أنظر إلى الشارع وأفكر، حسناً  لم أكن مراهقة لا تعرف ما الذي تواجهه ، عينا آدم وتصرفاته كانت تنطق بما يعتمل بداخله ، بقي أن أقرر ما إذا كنت سأبادله إياه أم لا ، قلبي كان يعرف الجواب لكن عقلي كان يدور في دوامة من الشك والخوف ، كنت قد التقيته عدة مرات قبل ذلك ، يتحدث فيها عن نفسه ، وعن كل ما مر به و واجهه ، كان يجلسُ أمامي رجلٌ خبِر الحياة ، وإن اختار فيها طريقاً معبداً بالأشواك .

– سافرتُ لأجلك ، أردت أن أصنع لنا مستقبلاً لا يحمل فيه أطفالنا الدلاء لملء الماء وسط حرارة الصيف الخانقة ، أردت أن أجعل عالمكِ أفضل ، أن لا تحتاجي لشيء أبداً وأنا بجانبك ، لقد أحببتك فعلاً يا سهام ، ما كنت أتصور مستقبلاً لي دون أن تكوني معي، برفقتي …

حانت مني التفاتة نحوه وقابلت عيناي عيناه ، أجفلت للحظاتٍ من جرأةِ ما قاله ، ثم استجمعت شتات نفسي ، وفي الوقت الذي فتحت فاهي فيه أدركت أنني سأرتكب حماقة ربما أندم عليها ، لكنني قررت :

– مما يعني أنك قد اخترتني زوجة قبل أكثر من خمس عشرة سنة ؟ .

رد بثقة :

– أجل .

– ثقتك مبالغ بها يا آدم .

سأل بثقة أكبر :

– وما الذي يمنع ؟ .

حضر النادل و وضع كوبي القهوة وقائمتي الطعام ثم انسحب ، ارتشفت رشفة لتهدئة توتري ثم أجبته :

– ألم يخطر ببالك أني قد أكون مرتبطة مثلاً ؟ .

هز كتفيه وقال :

– لن يأخذكِ مني أحد ما دمتُ على قيد الحياة ..

– هذا هوس ! .

– سمّه ما شئتِ .

– أنتَ تخيفني .

– أنا أحبكِ .

كادت بضع عبراتٍ أن تفر من عيني وأنا أستشعر الصدق في كل كلماته ، كيف لي الهرب من حب رجل عشقني طفلاً وكان يرى فيَّ العالم بأسره ؟ لكنني أردتُه أن يثوب إلى الواقع و لا يغرق بأحلامٍ ربما لن تتحقق فقلت له بجدية :

– آدم ، لا تتسرع ، الأمر ليس بتلك السهولة .

– لا شيء قادر على اعتراض طريقي .

رددت بشيء من العصبية :

– أريد أن أفكر أولاً ، كيف لي أقرر أن أربط حياتي برجلٍ لم أعرفه سوى منذ فترة قصيرة !.

أمسكني من يدي فجأةً ثم وقف وسحبني معه إلى باب المطعم ، كان المطر قد اشتد هطوله ، لكنّه لم يثنه عن فتحه ، مشى بي عدة خطوات ثم توقف وهو يقول :

– انظري .

رفعت رأسي إلى حيث أشار ، كانت الرؤية ضبابية بوجود المطر ، لكنني عندما دققت النظر وجدت يافطة المطعم وقد كتب عليها ” مطعم سِهام اللّيل “.

– اسم غريب ، ألا تظن ذلك؟ .

قلت له ذلك بصوت عالٍ ، رفع حاجبيه ، توسعت حدقتا عينيه ، ثم سحب يده من يدي بسرعة و رمقني بنظرات حادة وهو يقول قبل أن يسير باتجاه السيارة :

– أنتِ فتاةٌ بلهاء وغبية !.

– ماذا؟ آدم ، انتظر ..

تسمرت مكاني وأنا أحدق باليافطة محاولة أن أستوعب مقصده ، بعد ثوانٍ من التفكير العميق أدركتُ أن المطعم يحمل اسمي، هذا يعني أنه ….

غمرتني فرحة لا تُوصف ، انطلقتُ أركض ناحية السيارة وأصرخ باسمه ، فوجدته ينتظرني واقفاً أمامها وقد بللّه المطر من رأسهِ حتى أخمص قدميه ، ولم يكن حالي أنا الأخرى بأفضل منه ..

– أنا بلهاءُ وأنت مجنون .

 

ابتسم :

– نليق ببعضنا أليس كذلك؟ .

أومأت برأسي موافقةً وقد تملكني مزيج من السعادةِ والخجل ، لقد تبين لي أنني كنتُ أذوب عشقاً في ذلك الرجل ، متى و كيف ؟ لا أدري ! اتسعت ابتسامته أكثر، اقترب مني ، ثم احتواني بعناقٍ لا زلتُ أتحسّس دفئه إلى يومنا هذا .

* * *

– 4 –

كانت الشمس تميل إلى المغيب حين دخل جاد إلى المنزل ، وجدها جالسة بأريحية على الأريكة داخل غرفة المعيشة ، تقدم نحوها وألقى التحية فردت باسمة واعتدلت :

– أهلاً ، هل أحضر لك العشاء؟ .

جلس إلى جوارها وألقى بمفاتيحه على الطاولة ، ثم أسند ظهره للخلف ، صمت للحظة بدا وكأنه يفكر فيها ثم أجاب بابتسامة متفائلة :

 

– لا داعي لذلك ، فأنا أدعوكِ للعشاء بالخارج .

رفعت حاجبيها تعجباً وسألت :

– هل طرأ شيء ما ؟ .

– شيء مثل ماذا ؟ كل ما في الأمر أنني أريد تغيير الروتين الذي يشل حياتنا، بعض الترويح عن النفس لا يضر .

نظرت إليه بحزن وهي تتمزق داخلياً ، كان يمكن أن تُغرم به لو كان قلبها ملكاً لها ، كانت تتمنى لو أن بإمكانها أن تلقي بكل الماضي وراءها ، وتمنحه حياة زوجيّة مستقرة ، في بداية زواجها رفضته كلياً ، لم تشأ أن تكون رفيقة فراش لرجل لا تعرفه ، رجل اختاره الأهل ، وأقرته التقاليد والأعراف، بعدها وشيئاً فشيئاً بدأت تُعجب به وتحترمه ، كانت ستقر أن والدها حقاً أجاد الاختيار لولاَ أنه كان على حساب سعادتها هي ، فكرت كثيراً أن تتأقلم مع الأمر، وكأيّ امرأة شرقية في وضعها ، تُسلّم الجسد ويبقى الرفض محلّه القلب ، لكنها رأت أن جاد يستأهلُ منها أكثر من ذلك، والآن ها هي تعيد تقليب الأمر داخل عقلها وتتساءل بجدية عما ستفعله .

قُطع حبل شرودها على صوته :

– ألن تجهزي نفسك؟ .

ردت بعد أن اعتدلت واقفة :

– أمهلني بعض الوقت .

بعد ساعةٍ مشت نحوه بخطوات مرتبكة ، كان غارقاً بمشاهدة أحد البرامج السياسية فلم ينتبه لحضورها ، عضت شفتيها من التوتر ثم تكلمت بصوت خفيض :

– أنا جاهزة .

قال دون أن ينظر إليها :

– قليلاً فقط ، سينتهي البرنامج الآن .

بعد دقائق أطفأ التلفاز وهو يغمغم بعبارات غاضبة حول الفساد وسوء تسيير المسؤولين للبلاد ، وضع جهاز التحكم من يده واستقام واقفاً وهو يهتف :

– أين أنتِ يا سهام ؟ لقد تأخر الوقت .

– أنا هنا .

التفت وراءه ، وما إن لمحها حتى فغر فاهه ذهولاً ، أمعن النظر في فستان السهرةِ الأسود الطويل الذي جسّد قوامها الرشيق ، ابتسامتها الخجولة ، زينةُ وجهها وجمال عينيها الواسعتين ، وشعرها الأسود الفاحم الذي انسدل شلالاً على كتفيها ، أبهره جمالها فابتلع ريقه وهو يتقدم نحوها ، أمسك بيدها فارتاحت داخل يده ، طبع قبلة طويلة عليها ثم قال :

– تبدين رائعة ، لم أتوقع أبداً أن أراكِ بمثل هذا الجمال الفاتن .

ردت باستنكار :

– وهل كنت بشعةً من قبل؟ .

– كلا يا عزيزتي ، أنتٌ جميلةٌ في جميع الأوقات .

شكرته و دقات قلبها تتسارع من التوتر ، كانت قد اتخذت قرارها لدى انفرادها بنفسها ، لن يستمر الوضع هكذا إلى الأبد ، الحياة تمضي وهي مجبرةٌ على مسايرتها ، رسمت ابتسامة خجولةً على تقاطيعها وهي تقول :

– ألن نمضي ؟ لقد تأخر الوقت .

أسرع إلى مشجب المعاطف المعلّق بجانب الباب الخارجي ، أمسك بمعطفها ثم ألبسها إياه قائلاً وعلامات الاهتمام تنطق من وجهه :

– ارتدِ هذا أولاً ، فالجو في الخارج بارد للغاية .

وقتها أيقنت من أنها تعرف تماماً كيف ستنتهي تلك الليلة .

* *

رغم محاولاتي المستميتة أن أمحو ذكرى آدم من رأسي و لو لتلك الليلة على الأقل ، إلا أن آخر ذكرياتي معه داهمتني على حين غرة ، جاءت معلّقة برائحة طبق اللّحم المشوي الذي كان يفضله ، كنا جالسين يومها نتغدى بمطعمه وقت قال والفرحة تطل من عينيه :

– تحدثتُ مع والداي، والليلة سنأتي لخطبتك رسمياً.

– مرت ثلاثة أشهر فقط يا آدم ، دعنا ننتظر قليلاً .

تقلصت ابتسامته ، وضع الشوكة والسكين من يده بعنف ، ثم أغمض عينيه ، حركة عرفت أنها تعني بأنه يحاول السيطرة على غضبه ، ثم فتحها ونطق بانفعال :

– هل تحبينني حقاً يا سهام ؟ بصراحة بدأت أشك في ذلك ! .

– كيف تشكك بي بهذه الطريقة !  أنت تعلم جيداً أنني لا أرى لي سواك رجلاً ! .

– إذن …؟ .

– أبي لن يوافق .. إنه لا يطيقك، ولا يذكر عنك إلا كل سوء .

– لا تقلقي و دعي الأمر لي ، سأقنعه .

– إذا علم بعلاقتنا سيزداد الأمر تعقيداً ، رجاء لا تخبره .

ربت على يدي مطمئناً بأنه لن يتركني مهما حدث .

لم تمضِ على مغادرة آدم و والداه من بيتنا إلا نصف ساعة قُلب فيها المنزل رأساً على عقب ، فور رحيلهم ولج أبي إلى الغرفة التي كنت فيها ، رأى انهمار دموعي فصرخ فيَّ بحدة :

– رأيتك منذ أيام معه ، بسيارته ، لكنني كذّبت عيناي ، ابنتي لا تفعل ذلك ، تربيتي لا ترافق رجلاً غريباً بسيارته ، وأي رجل ؟ خريج سجون ! .

لم أرد عليه تحت تأثير الصدمة ، زاد نحيبي فهمّ أن يهوي عليّ بعصا كان يحملها بيده لولا أن أمي استوقفته متوسلة :

– استهدِ بالله يا رجل ، أنت لم تفعلها قط في حياتك ! .

صاح حانقاً :

– لو فعلتها لكانت احترمت شيبة هذا العجوز الذي أفنى عمره من أجلها .

ثم رحل عن الغرفة وأغلقها عليّ من الخارج ، تاركاً إياي سجينة وإحساس الظلم والقهر يخنقني ، و لعدة أيام خرساء لم أنطق فيها بحرف ولم أذق فيها طعم الزاد ، كان تفكيري المتواصل بآدم وأملي أن ألتقيه مجدداً هو ما يمنعني عن الغرق في لجة اليأس .

عاد بعدها و وقف على عتبة الباب ، لمحت من خلفه إخوتي وأمي وقد احتلت ملامح الخوف تقاسيمهم ، قال بنظرة ميتة و وجه خال من المشاعر :

– لقد عاد الوغد يبتغي جواباً مني .

تجرأت وسألته  :

– وبماذا أجبته ؟ .

كان رده كالصفعة :

– لا .

ثم تقدم نحوي بعينين تقدحان شرراً :

– اسمعي يا ابنة سُعاد ، ستنسين أمر الزواج منه وإلا طالكِ غضبي .

قلت من بين دموعي :

– لماذا يا أبي ، لماذا؟ .

– لم أفنِ حياتي في تربيتك وتعليمك حتى أزوجك لذلك الجاهل ، أبن الشوارع وخريج السجون .

– لقد تغير ، أصبح رجلاً محترماً .

– الطبع يغلب التطبع .

– رجاء يا أبي  ، أعطه فرصة .

– لا تحاولي .

ثم التفت إلى أمي و قال جملته التي قصمت ظهري :

– جهزي للرحيل من هذا البيت يا سُعاد ، لقد بِعته بأثاثه لجارنا إبراهيم ليوسع داره ، و وجدت آخر في منطقة بعيدة و بثمنٍ مناسب .

رحلنا بعد أن جمعنا حاجياتنا تحت جنح الظلام ، لم أجد أي وسيلة للاتصال بآدم ، أخذ مني والدي هاتفي المحمول و منعني من الذهاب للعمل ، أغلق كل الأبواب بوجهي وأقسم أنه لن يجعله يطال ظفري .

بعد شهور تقدم جاد لخطبتي ، كان يمت لأبي بقرابة بعيدة ، رآني في حفل زواج شقيقته الذي أُرغمت قسراً على حضوره مع عائلتي ، كنت جالسةً ليلاً على السطح شاردة أستحضر ذكريات الأمس القريب ، أراقب النجوم اللاّمعة في كبد السماء ، و أرخي السمع لأصوات المارة والسيارات حين لحقت بي أمي وعرضت علي الأمر .

– أمي ، اسمعيني جيداً ، رفضتم آدم فرضخت ، أما أن تفرضوا عليّ زوجاً لا أريده فذاك المحال بعينه .

– والدك يقول أنه كريم الأخلاق ، إنه يرى فيه زوجاً مناسباً .

– ليس لي ! رجاءً يا أمي أغلقي الموضوع ، إما آدم أو لا أحد ؟.

– سعاد ، اتركينا لوحدنا .

صدح بذلك صوت والدي من خلفنا ، فأطاعته أمي و انسحبت بهدوء ، لم أكن ألمحه إلا نادراً ، فانغلاقي على نفسي والحزن الذي غلفت به عالمي جعلاني أنبذ كل من حولي ، رأيته تحت ضوء السطح الخافت و قد وهن عوده وغزت التجاعيد محياه ، ازداد بياض شعره واكتسى وجهه بمسحة من الحزن جعلت قلبي ينقبض ألماً ، كنت أحبه كثيراً وأحترمه ، كان بمثابة الدرع الآمن الذي أحتمي به من شرور العالم ، ليلتها وجدت أن الدرع صدأ ، والرجل القوي أضحى شيخاً هرماً ، انتابني شعور عارم بالذنب ، وكل فكرة خطرت لي للتمرد عليه ذابت وتلاشت مع كل دمعةٍ ذرفتها لمرآه على ذلك الحال ، تقدم نحوي و ربت على كتفي ، قبّل جبهتي ، أحاطني بحنانه و هو يقول كلماته التي لم تمح يوماً من ذاكرتي ، وإن كانت لم تقنعني :

– لا تغرنكِ كلمات العشق و وعوده يا سهام ، صدقيني يا عزيزتي إنها ليست أكثر من هشيم سرعان ما ستذروه الرياح ، قد تعطيك بعض السعادة لكنها مؤقتة ، الحب الحقيقي والدائم هو لزوج قوي ، موثوق و مخلص ، مستعد لأن يقدم حياته فداء لكِ ولأولادك ، قد لا تغرمين به كالعشاق ، لكنك ستحبينه وتحترمينه وتشعرين معه بالأمان ، ثقي بي يا ابنتي، فأنا قد عرِكت الحياة وخبرت أسرارها ، و أرى أبعد مما ترين بكثير .

قبلت رأسه ويده ، جففت دمعي ثم قلت له بنبرة متوسلة :

– سامحني يا والدي .

رد بابتسامة واهنة :

– خُلق الأبناء ليخطئوا وخُلق الآباء ليصفحوا .

أطلق تنهيدة عميقة واسترسل :

– لن أجبرك على الزواج ممن ترفضين ، لكن صدقيني يا ابنتي سأكون سعيداً للغايةِ إذا ما اطمأن قلبي لوجودكِ مع رجل يستحقك وقادر على حمايتك .

لن أنسى في حياتي نظراته الممتنة بعد ذلك بأيام قلائل وهو يراني قد استسلمت لرغبته ، وأعلنتُ موافقتي على الزواج من جاد والسفر معه بعيداً إلى مدينة أخرى .

* * *

الفصل الثاني

 

بعد عدة أشهر

– 1 –

فتحت سهام عينيها وهي مستلقية في فراشها على ضوء النهار الذي كان يتسلل من خلف ستائر النافذة ، تمطت متكاسلة ثم قامت ، نظرت إلى الجانب الآخر الخالي من السرير ، ربتت على الوسادة وشعوراً بالوحدة والفراغ يملآن قلبها لغيابه ، كان جاد قد سافر منذ أيام لزيارة والدته المريضة ، لم تستطع الذهاب معه ، تحججت بالعمل لكن سبباً آخر ما جعلها تفعل ذلك ، لا تريد رؤية مدينتها حتى لا تعود الذكريات لمطاردتها بعد أن ألقت بها في غياهب الذاكرة ، كانت تسعى جاهدة لدفن الماضي، للنسيان، والغفران .

لم تزر والديها منذ تزوجت ، حاجز ما وقف بينها وبينهم ، اغتصاب حقها في الاختيار واستدرار عواطفها لفعل ما لا تطيق جعلاها تبتعد عنهم ، هي تحبهم ، تسعى لبرهم ، لكنها لا تقوى على مسامحتهم ، ما قاسته في تلك الفترة كانت صعباً و موجعاً لها بدرجةٍ كبيرة ، صحيح أنها تحاول تجاوزه وقد نجحت إلى حد ما ، لكنه سيبقى جرحاً غائراً لن يبرأ وإن طال عليه الزمن .

اتجهت ناحية الحمام وهي تفكر في كل الأيام التي تلت الليلة التي اختارت فيها أن تكون زوجة بحق ، حاولت أن تقدم السعادة لجاد ما استطاعت ، لم تكن تؤمن بأن فاقد الشيء لا يعطيه ، بل هو القادر على العطاء أكثر ، لأنه يشعر تماماً بألم الحرمان منه ، كان يدللها ، يلبي طلباتها ويتفهم تغييرات مزاجها بين الوقت والآخر، هي لم تؤسس حياة اجتماعية مع من حولها ، آثرت العزلة واجتنبت كل زميلاتها اللاتي حاولن مصادقتها ، كانت راضية به وحيداً كصديق ملأ عليها أيامها وخفف بحنانه الكثير من أوجاعها ، كانت معه تقريباً طيلة الوقت ، ومع هذا لم تستشعر معه طعم السعادة الحقيقية .

أعدت كوب قهوة ثم تناولت هاتفها وكتبت له رسالة نصية تسأل فيها عن حاله ، فمن حقه أن تشعره بالاهتمام به كما يفعل ، بعد لحظات أتاها الرد ، غزل فصيح و أبيات شعر من العشق والغرام ، ابتسمت لنفسها وهي تتساءل  ” ما الذي انتظرتِه من أستاذ مجازٍ في اللغة العربية ؟ “.

ارتدت ثيابها وحملت حقيبتها ، كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحاً حين وقفت على ناصية الطريق بانتظار حافلةِ نقل الموظفين ، مر بجانبها مجموعة من الأطفال الصغار المتجهين نحو المدرسة ، امرأة عجوز تستند على عصا ، و بائع جرائد راح يعرض عليها واحدة ، ابتاعت أحدها و همت بفتحها لولا أن اخترق أذناها صوت أتى من الماضي .

– سهام ..

رفعت رأسها ببطء والارتباك يتملك كيانها لتبصر سيارة توقفت أمامها من نفس النوع ، نفس اللون، ونفس الوجه الذي ترجل منها ، حاولت أن تهدأ نفسها ، أن تعتبر ما تراه محض أوهام وتخيلات ، لكنه تقدم نحوها حتى وقف قبالتها ، حدق فيها قائلاً بنفس الابتسامة الساخرة التي عهدتها :

– وأخيراً… ها نحن .

شهقت مشدوهة بعد أن تيقنت من حقيقة وجوده ، وقعت الجريدة من يدها ، اتسعت عيناها فزعاً وهي تهتف :

– آدم ! .

* *

أبواب الماضي لا تُوصد ، بل تبقى مواربةً بانتظار من يشرعها من جديد ، اليوم تيقنت أن ما فات لن يُطوى ، وستظل أحداثه تلاحقني ما حييت ، كانت رؤيته مجدداً بعد أكثر من عام ونصف مزلزلة ، كان آدم مثلما تركته في ذلك اليوم ، وإن شاب ملامحه بعض الشحو ب، تسمرت مكاني غير قادرة على الحراك ، شعرت أن قدماي ستخذلانني ولن تقويا على حملي أكثر ، تدفقت في ثوانٍ كل ذكرياتِ الأوقات التي قضيناها معا ، تذكرت كل لحظة و تفصيلة ، كل همسة وكل لمسة ، كل حرف وكلمة ، ولم يقطع لحظات ذهولي وشرودي ذاك إلا صوته الذي انبعث معاتباً :

– نعم آدم يا سهام ، آدم الذي تنازلتِ عنه ومضيتِ في حياتكِ وكأن شيئاً لم يكن .

استجمعت ما بقي لي من عقلٍ و رددت مصطنعة الحزم :

– ماذا تريد الآن ؟ .

– هل سنتحدث هنا في الشارع ؟ لنجد مكاناً أكثر خصوصية…..

قاطعته راجية من الله أن يلهمني القوة كي لا أنهار :

– لديّ عمل الآن ، لا أستطيع التغيب عنه ، نلتقي هناك ، أرأيته؟  ذلك المقهى الذي يقع على الجانب الآخر من الطريق، الساعة الثانية زوالاً .

رد بلؤم :

– إن لم تحضري ستجدينني أمام باب شقتك ، أظنها رقم خمسة في تلك العمارة هناك .

لم يكن ليدهشني أي شيء آخر لذا قلت له :

– اطمئن ، سأكون هناك .

وهل كان لدي أي خيار آخر؟  فأنا أعرفه جيداً ، لا شيء قادر على الوقوف في طريق ما يسعى إليه ، والدليل أنه كان أمامي في تلك اللحظة .

– اركبي في السيارة ، سأوصلك لمقر عملك .

رفضت :

– لا ،  شكراً لك سأنتظر الحافلة .

– كفى عناداً ، ألا ترين شحوبك و اصفرار وجهك ؟ لم أكن أعلم أن رؤيتي ستصدمك لهذه الدرجة ! .

– أنا بخير، اذهب أنت ، نلتقي مساء .

– سهام ! اركبي الآن .

لم أجد بداً من الإذعان له ، وكأن الأيام تعيد نفسها من جديد ، لأوقن من أن آدم لا يزال يسيطر على حياتي و يتملك زمامها ، أثناء الطريق لم ينطق بحرف سوى أثناء تأهبي للترجل من السيارة حيث قال بلهجة من لن يقبل أي نقاش :

– الساعة الثانية ، أنتظرك هناك .

استحوذ على كامل أفكاري لبقية اليوم ، كنت أدعي بأني ألقي الدروس على الطلاب ، أتظاهر بأنني طبيعية قدر الإمكان بيد أن ذهني كان غارقاً في التفكير، تدور رحى التساؤلات فيه دون توقف ، كيف عرف مكاني ؟ وما الذي يريده ؟ والأهم هو كيف سأواجهه ؟ وأين سنصل في النهاية ؟  تلقيت بعد انتهاء دوامي مكالمة من جاد خفت أن يستشف التوتر بصوتي فلم أرد عليه وأرسلت له رسالة بأني سأتصل به فور العودة إلى الشقة .

الساعة الثانية وجدته بالمقهى ينتظرني ، وقد حجز طاولة بعيدة في ركن منزو نوعاً ما ، كنت أخشى أن تفضح عيناي اضطرابي ، فأنا قد عقدت العزم على التسلح بالصلابة والقوة أمامه ، رحت أردد بيني وبين نفسي بأني امرأة متزوجة ، زوجي يحبني ، حياتي مستقرة ، لن أدعه يؤثر بي مطلقاً ، عليه أن يؤمن بأن كل شيء قسمة ونصيب ، ولم يُكتب لنا أن نكون معاً .

جلست أمامه محاولة أن لا تلتقي عيناي بعينيه ، قلت مبدية اللاّمبالاة وأنا أعبث بخاتم زواجي :

– كيف عرفت مكاني ؟ .

– سنة ونصف وأنا أبحث بلا كلل ولا ملل ، هل ظننتِ حقاً أنني سأنسى ؟ كدت أُجن حين علمت بزواجك ، لم أتوقع أن تفعليها بهذه السرعة !.

– اعتقدت أنك استسلمت ، ففي نهاية المطاف لم يُكتب لنا أن نكون سوياً ، كان عليك حقاً أن تنسى .

لوى فمه ساخراً :

– وهل نسيتِ أنتِ حتى أفعل أنا ذلك ؟ .

أشرتُ للنادل بأن يحضر، طلبت كأس عصير فيما طلب هو فنجان قهوة ، أجبته بثبات :

– أجل ، أنا الآن امرأة متزوجة ، لقد مضيتُ قدماً في حياتي ، لن أقضيها باكيةً على الأطلال .

 

جز على أسنانه واشتعلت عيناه من الغضب ، ثم مد يده ناحية معصمي وقبض عليه بقوة فوق السوار الذي نسيتُ أن أخلعه وقال :

– وهذا ، ماذا يفعل هنا ؟.

كدت أن أصيح من الألم ، أطلقت أنه خافتة :

– أبعد يدك يا آدم ! أنت تؤلمني .

سحب يده بسرعةٍ ثم أشعل سيجارة راح يدخنها بقهر :

– هل تحبينه ؟ .

أجبته بحدة :

– ليس من شأنك ، أخبرني ما الذي تريده الآن ؟ علي العودة للمنزل .

– أريدكِ أنتِ ، سبق وأخبرتك أنتِ لي أنا .

– فات الأوان ، أنا لست حرة ، ضف إلى ذلك لو أردت التمرد لفعلتها من قبل ، فكيف بي أفعلها الآن ؟ .

لانت ملامحه وسأل بنبرة مفعمة بالألم :

– هل ستتخلين عني مرة ثانية ؟.

انفطر قلبي أسى لأجله ، لم يكن بيدي أن أفعل شيئاً ، كيف سأخبره بأن السعادة أجهضت من حياتي لحظة افترقنا ، كيف سأخبره بأني لم أذق طعم الحب إلا معه ؟  لم أستطع تحمل كلامه أكثر ، خفت أن أضعف ، فقلت :

– لا تحاول معي رجاءً .

– لكنني لا أستطيع إكمال حياتي من دونك ! .

لم أرد عليه فاستفزه صمتي ، سحب نفساً قصيراً من سيجارته ، نفث دخانها بقوةٍ وقال مهدداً و قد تحول من الاستعطاف والرجاء إلى الغضب والقساوة :

– لن أتوانى عن فعل أي شيء في سبيل الظفر بك ، أنت تعلمين هذا .

زفرت طويلاً ثم اعتدلت واقفة ، حملت حقيبتي ثم أجبته محاولة أن تبدو ملامح وجهي هادئة :

– لن تستطيع فعل شيء يا آدم ، انتهى كل شيء ، لكل منا طريقه الآن .

نكس رأسه نحو الأسفل ، بدا وكأنه يفكر، لم يرد فانسحبت بهدوء بعد أن حررت دموعي علها تطفئ الحريق المستعر داخل قلبي .

* * *

– 2 –

تركته وغادرت المقهى ، اندفعت نحو منزلها بخطوات مسرعة كي لا تضعف أمامه ، كانت قدماها لا تقويان على حملها ، تمسكت بقضبان السور الحديدي للمجمع السكني ، كابحة الرغبة في الصراخ ، في عودة أدراجها نحوه ، في الارتماء بين أحضانه وتلبية رجاءه ، كانت لا تفصلها سوى بضع أمتار عن العمارة ، لم تستطع قطعها ، تهاوت على الأرض ، أمسكت رأسها بين يديها والدموع تكاد تخنقها ، تحاول استيعاب أنه كان أمامها حقاً وأنها فرطت فيه مرة ثانية .

شعرت لوهلة أن يداً ما تمسح على شعرها ، كانت لا تزال ترجف ، رفعت رأسها لترى خياله يبتسم في وجهها ، ظنت أنها قد جُنت ، لكن راحة يده نزلت لتمسح وجنتاها وتجفف دمعها ، كانت دافئة ، عرفت أنه حقيقي ، مدت يدها نحوه فتلقفها ، رفعها من على الأرض وعدل شعرها المبعثر ، ثم تقدم نحوها أكثر، لفحت أنفاسه وجهها ، أطبق شفتيه على شفتيها ، مررت يديها لتتخلل خصلات شعره ، طوقته ثم استسلمت له وتجاوبت معه ، تناست أنها متزوجة ، رمت بكل ما تعلمته وعلّمته من قيم وفضائل ، لم تأبه لأي شيء على الإطلاق سوى أنها معه أخيراً .

طاوعته وهو يصر عليها لمرافقتها بالسيارة ، كانت تشعر بنشوة عارمةٍ تتملكها ، لا شيء كان سيحول بينها و بينه من جديد، لا شيء قادر على إيقاف فيضان المشاعر الذي كان يجتاحها تجاهه ، استسلمت أمام سطوة العشق ونيران الشوق ، فرافقته حتى غرفة نوم شقته ، لم تعاند ، لم تتمنع ، اختارت بكل وعيها وإرادتها و رغبتها أن ترضخ له ، أن تكون له و لو لمرة في هذا العمر .

* *

الحب قدر ، أشبه بالموت ، لا فرار منه ولا إرادة لنا فيه ، كانت كلماته الأخيرة تلك ترن في أذني وأنا واقفة بالحمام تحت المرش ، أستسلم للَذعات الماء البارد التي كانت تنزل على جلدي كالسياط ، كان آخر مشهد بيني وبينه قبل أن نفترق لا ينفك يبرح مخيلتي ، كنت أعدّل شعري أمام المرآة استعدادا للرحيل حين أتى من خلفي واحتضنني قائلاً بأسف :

– أنا آسف .

قلت مغيرة مجرى الحديث :

– شقة جميلة .

– أيام البحث عنك كانت طويلة ، كان لابد من استئجارها ، سهام ، أنا آسف حقاً .

سحبت جسدي بهدوء من بين يده ، جلست على كرسي لأنتعل حذائي قائلة :

– علامَ تعتذر؟ لست طفلة جررتها بالغصب ، فعلت ما فعلت وأنا بكامل وعيي ، لا تحمل نفسك الذنب .

قمت وحملت حقيبتي :

– سأغادر الآن .

– سأوصلك .

– لا …

قلتها بحدة جعلته يجفل :

– أقصد ، أود أن أتمشى قليلاً .

لم يعارض ، و قبل أن أخطو للخارج ألقى بجملته تلك مما جعلني أتساءل ، الحب قدر لا مفر منه ، أيكون أيضاً شفيعاً للخطايا ؟ .

أفقت على صوت صفق الباب الخارجي ، تذكرت جاد وأنني لم أتصل به أو أرسل له رسالة حتى ، تركت هاتفي على الوضع الصامت ولم أتفقده ، صدح صوته منادياً إياي فارتديتُ منشفةَ الحمام على عجل والرعشة تدب بأطرافي ، لم أعلم ما سببها أهو الخوف والتوتر أم أنه الماء البارد ؟ فتحت الباب واندفعت خارجه لأجده منتصباً أمامي ، قال والقلق ينضح من ملامح وجهه :

– هل أنت بخير يا عزيزتي ، لماذا لا تردين على اتصالاتي ؟.

ابتلعت ريقي وأجبته بتلقائية :

– الهاتف كان على الوضع الصامت ، نمت لفترة ولم أنتبه ….

دُهشت لقدرتي على الكذب دون تخطيط ، اقترب مني و طبع قبلة على وجنتي ثم تراجع وقد قطب حاجبيه :

– أنتِ ترتعشين ، و وجهك بارد كالثلج ، هل أنت على ما يرام حقاً ؟ .

أجبته بسرعة وأنا أهرب من عينيه وأتحرك ناحية دولاب الملابس :

– لا أعرف ، ربما هي بوادر الزكام ، سأرتدي ثيابي وأشرب شيئاً ساخناً ، وسأعد العشاء أيضاً ، ماذا تود أن تأكل ؟ .

– لا داعي لذلك ، مررت على المطعم وأحضرت عشاء جاهزاً ، فأنا أعلم أنك لا تطبخين في غيابي .

هززت برأسي كإشارة امتنان له ، كنت لا أقو على الحديث معه ، صورته كزوج مخدوع ومني أنا جعلت قلبي ينزف ألما لأجله ، هو لا يستحق ذلك ، أي فداحة ارتكبت بحقه ! كان الإحساس بالذنب يعتصر فؤادي ، ينهشني من الداخل ، يطبق بفكيه علي ، كان الموت بمثابة طوق النجاة الوحيد القادر على انتشالي من دوامة الندم المريرة تلك .

* * *

– 3 –

ألفت نفسها وحيدة على الشاطئ ، تقف بمواجهة رياح  يناير الباردة ، لم تشعر بالصقيع الذي جمد يديها العاريتين ، وكأنها كانت فاقدة للإحساس ، راحت تتأمل لون البحر الرمادي الذي عكس لون السماء الملبدة بالغيوم ، وتفكر بكل الأيام التي تلت ذلك اليوم ، منذ شهر ، علاقتها مع جاد تراجعت حتى عادت لنقطة الصفر ، أقامت سداً عالياً ليفصل بينها وبينه ، كانت تتعامل معه بجفاء رغماً عنها ، ليس من أجل آدم ، بل لأنها رفضت أن تخونه مرتين ، كيف لها أن تعامله وكأن شيئاً لم يكن ؟ فكرت أن تعترف له بما حصل لتلقي عنها العبء الذي يثقل كاهلها وليفعل ساعتها ما شاء ، لكن الأمر لم يكن هيناً على الإطلاق ، هذا غير آدم الذي كان لا يتوقف عن محاصرتها بمكالماته ، طلبت منه مهلة حتى تقرر ما ستفعل، و ها هي الآن مستعدة للقاءه هنا ، أمام البحر الهائج كهيجان روحها المعذبة .

جاء راجلاً على غير عادته ، راقبته وهو يتقدم نحوها بابتسامة جذلى ، عانقها طويلاً وهو يقول :

– اشتقت لكِ كثيراً يا حبيبتي .

قابلت عواطفه الجياشة بشيء من البرود مما جعل الشك يتسرب إليه :

– هل هناك خطب ما ؟ ما بكِ يا سهام؟ أشعر بأنك غير سعيدة لرؤيتي .

وقعت عيناها على صخرة ضخمة فمضت نحوها وجلست عليها تتأمل بصمت منظر الأمواج المتلاطمة ، تبعها وجلس بمحاذاتها قائلاً وهو يفرك يديه من البرد :

– ألم تجدي مكاناً غير هذا ؟ إن البرد شديد ، لو اقتنعت بكلامي وتقابلنا بمقهى ما أو بشقتي لكان أفضل .

نظرت إليه بزاوية عينيها :

– لماذا ؟ حتى نكرر نفس الخطأ السابق ؟ .

أحس بالمرارة في صوتها فتدارك نفسه :

– لم أقصد ذلك .

– ألا زلت تريدني يا آدم ؟  أقصد أتريد الارتباط بي مستقبلاً ؟ .

رد مصدوماً :

– هل تعتقدين أنكِ كنت لي مجرد نزوة عابرة يا سهام ؟ .

أشاحت ببصرها عنه والدموع تلتمع في عينيها ، قبض على ذراعها وجذبها نحوه ليرتاح رأسها على صدره قائلاً :

– ما حدث قد حدث ، و لن يغير الندم شيئاً .

– الشعور بالذنب يسحقني ، لقد ظلمته ، هو لا يستحق …

– كلنا ظُلمنا بطريقة أو بأخرى ، اطلبي الانفصال عنه ، وسنتزوج بعدها ، سنسافر إلى مكان لن يعرفنا فيه أحد ، سنبدأ حياة جديدة .

– عد من حيث أتيت يا آدم .

– ماذا تعنين ؟ .

– دعني أرتب حياتي على مهل ، الانفصال ليس بتلك السهولة ، يلزمني وقتٌ وذهن صافٍ ، لا توقف حياتك لأجلي ، ارجع إلى أعمالك وسنبقى على اتصال .

لم تبدُ عليه أي علامة على أنه راضٍ عن حديثي ،  كنت أعلم أنه صعب المراس ولن يقتنع بسهولة ومع هذا استرسلت :

– أعدك أنني سأتخذ القرار المناسب لكلينا .

– كلامكِ لا يريحني يا سهام .

مسحت دمعها بطرف كمها وقال بصوت خافت كمن تناجي نفسها :

– اطمئن يا آدم ، اطمئن .

* *

– يبدو الأمر وكأن طفلاً منعه والداه من قطعة حلوى أرادها بشدة ، فعل المستحيل لينالها ، ولما أصبحت بين يديه أبى أن يأكلها .

قالها الدكتور سامح بعد أن قصصتُ عليه كل ما حدث ، كنت بطريقي نحو الانفجار ، كان يجب أن أبوح بما ينغص عيشي إلى شخص ما ، وهو الوحيد القادر على مساعدتي .

ليستطرد :

– ليس لأن الحلوى لم تعد تعجب ه، بل السبب أنه يشعر بالذنب لأنه نالها بطريقةٍ غير شريفة .

– كلامك قاسٍ يا دكتور .

– الحقيقة دائماً مرّة ، ثم سأل من دون مقدمات :

–  أحببتِ زوجك ، أليس كذلك ؟.

شخصتُ ببصري نحو السقف وأجبته بطريقة آلية :

– لكنني أحب آدم أيضاً .

– تعلمين أنه من المستحيل الحصول عليهما معاً .

–  و الحل؟.

– الحل بيدك ، قيّمي وضعك ، حكمي عقلكِ وقلبكِ ، واختاري الأنسب لحياتك .

– جاد لن يسامحني ، وآدم لن يتركني …

قلتها ثم أكملتُ بخفوتٍ وأنا أضع يدي على بطني :

– أنا حامل يا دكتور !.

عدت إلى الشقة لأجد جاد في انتظاري ، كان يقف أمام النافذة عاقداً ذراعيه أمامه ، وضعيته لم تبشر بخير، التفت نحوي قائلاً :

– أين كنتِ ؟ .

– كنت أتمشى ، أخبرتك على الهاتف ، ما الأمر؟ .

– اجلسي يا سهام ، أود الحديث معك .

ارتبت من نبرة صوته الهادئة بطريقة غريبة ، جلست على أقرب كرسي ، فيما اتخذ هو مكاناً على الأريكة وجلس على طرفها متأهبا ثم قال :

– أخبريني ما الذي يحدث؟  منذ عودتي من السفر آخر مرة وأنت لستِ على ما يرام ، بعيدة عني ، أكثر من الوقت الذي تلا زواجنا ، هل فعلت ما يضايقك ؟ .

أدركت أنه وقتُ الحساب، فلا بد له أن يعلم .

– أبداً ، الأمر لا علاقة له بك ، بالعكس ….. أنا.. أنا…

لاحت على وجهه أمارات من يعرف الجواب مسبقاً ، ومع هذا أمل أن يكون مخطئاً ، نظر في عيني وسأل بهدوء :

– هل يوجد في حياتك رجل آخر؟ .

أطلقت شهقة عالية ، وضعت كفي على فمي ، تجمعت الدموع في عيني ، ومع هذا قلتُ بانهيار :

– أرجوك ،  سامحني يا جاد .

* *

– 4 –

ملامح الصدمة بدأت تتشكل ببطء على وجه جاد ، وليس الغضب ما كان يسيطر عليه في تلك اللحظة بل الإحساس المقيت بالخيبة والخذلان ، كان يشعر بنزيف في داخله ، بعذاب يمزق فؤاده ، و بغصة تقبض على روحه ، سأل بصوت متحشرج وهو يشيح بعينيه عنها :

– إلى أي حد وصلتِ العلاقة ؟ .

كانت أسئلته مثل طعنات الخناجر ومع ذلك استمر بها ،  جاء جوابها مغلفاً بالصمت ففهم وقال بانكسار :

– أظن أنه من حقي أن أستمع للقصة .

راحت الدموع تسيل حارقة على وجنتيها ، كانت لا تقوَ على رفعِ عينيها عن الأرض ، شعورها بالخزي والعار أطبقا على أنفاسها مما جعل الكلمات تنفلت بصعوبة ، وفي النهاية استطاعت أن تروي له كامل القصة منذ تعرفها إلى آدم وحتى يوم عودته إلى حياتها ، اجتاحه غمّ عظيم وهو يحاول التماسك ، قال بأسى ومرارة :

– بذلت ما في وسعي لأسعدك يا سهام ، أعطيتك الحب والاهتمام والاحترام ، كنت متفهماً وصبوراً إلى أبعد الحدود ، كان يجب أن تكوني عرفتني إلى حد يجعلك تقولين لي الحقيقة منذ البداية ، لست الرجل الذي يرغم امرأة لا تحبه على العيش معه ، لقد ألحقت بي ألماً كبيراً ، آذيتني وكسرتِ شيئاً في داخلي محالٌ أن يُرمم .

– جاد… أنا ..

قاطعها لما استوى واقفاً قائلاً بيأس :

– المنزل لكلينا، بإمكانكِ البقاء فيه أو الرحيل ، أنت حرة و لكِ الخيار، سننفصل بهدوء وسينتهي كل شيء .

أجهشت ببكاء مرير ولم ترد ، فبأي حق ستطلب الصفح والغفران ؟ بحق العِشرة التي خانتها ، أم أهوائها التي تركتها تسيرها كما تشاء ؟ .

استطرد بصوت غزاه الألم :

– اطمئني ، لن يعرف والدك شيئاً ، جِدي حجة ما ،  أخبريه أننا لم نتفق ، ليس مهماً .

لم تجد كلمات تعزي قلبه الجريح على يدها ، كان أنبل مما تصورت ، لم تكن الدموع الذي انسكبت معلنة ندمها لتغير في الأمر شيئاً ، فالرصاصة التي تنطلق لا تعود ، كانت تدرك أنها خسرته إلى الأبد .

* *

بعد أقل من شهر تم الطلاق بكل هدوء ، حتى أن أحداً لم يسمع به من عائلتينا ، لملمتُ حقائبي وكل متعلقاتي وطلبت سيارة أجرة لتقلني، كنتُ واقفةً بمنتصف الصالة متهيئة للرحيل ، أستعيد ذكريات كل لحظة جميلة قضيتها في المكان ، حين دلف إليها بوجه شاحب ، عينان صغيرتان ضائعتين ظلّلهما السواد ، شعر قصير مبعثر، وسيجارة ترسل دخانها من بين أصابعه ! .

قلتُ بحزن شديد :

– التدخين ليس من عادتك .

– إحدى بضعِ عادات اكتسبتها مؤخراً .

قالها بسخرية ، رمى بالسيجارة أرضا و دهسها ، ثم اتجه نحو الأريكة وغاص جالساً فيها :

– أبلغي تحياتي إلى والدك ، سُيصدم عندما يعلم أن خياره لم يكن في المستوى .

كنت أعلم أنه يهزأ بي ، ومع ذلك أجبته :

– لستُ عائدة إلى هناك .

– ألن تسافري لأهلك ؟ .

أجبته بغير اكتراث :

– كلاّ ..

انتفض واقفا وقد تلاشت سيماء السخرية من وجهه  :

– أجننتِ يا امرأة ! هل تنوين الفرار معه ؟ .

قلت بمرارة :

– إنه لن يعلم بمكاني حتى .

– إذن إلى أين ؟ اسمعي يا سهام ، أنتِ أمانة عندي ، سأعيدك من حيث أتيتُ بك ، وبعدها افعلي ما تشائين .

– لا تهتم لأمري يا جاد ، ابدأ حياتك من جديد ، انس أنك عرفتني يوماً ، أعلم أن ألمك لن يمحى بتلك السهولة ، لكن حاول ، أشياء كثيرة تستحق أن يُعاش لأجلها .

جررت حقائبي ناحية الباب عندما هتف بلهجة يشوبها أسى :

– سهام، انتظري .

أردفت :

– أتعلم ، عزائي بعد كل ما حصل أني لن أكون وحيدة ، ستظل روحك الطيبة معي ، ترافقني أينما كنت ، مثل قطعة مني ، تساندني ، تحتوي ضعفي وآنس بها مهما اشتدت بي نوازل الحياة .

لحق بي نحو الأسفل ، راقب السائق وهو يضع الحقائب بصندوق السيارة ، استوقفني ماسكاً يدي قبل أن أركبها :

– لا ترحلي .

– أنت لن تغفر ، الرجال لا ينسون .

قال مصمماً :

– أعدك بأنني سأحاول .

أفلتُّ يدي برفق من يده ، ثم ولجت إلى الداخل ، أغلقتُ الباب وأنزلتُ زجاج نافذتِه قائلةً بابتسامة رسمتها غصباً :

– لا تكابر ، سيظل جرحك طرياً إذا ما بقيتُ معك،  ثم من يدري ؟ ربما نلتقي يوماً ، الوداع يا جاد .

– انتظـ …

انطلقت السيارة واندفعت معها دموعي تهطل بغزارة ، رحت أغمغم بحرقة ” أيا ليتني سمعتُ كلامك يا جدتي ، أيا ليتني رضيتُ بقدري ” ، أدرتُ رأسي للخلف لأختلس نظرة أخيرة إليه ، كان متسمراً بمكانه ، تحيط به هالة من الحزن والانكسار ، زادت حدة نشيجي ، شيء ملّح كان يشدني للعودة إليه لكنني قاومته ، كنت قد قررت أن أتحمل تبعاتِ أوزاري ، لن أستغل تسامحه أكثر ، كما لن أعود لآدم ، لا شيء عندي لأقدمه له ، هو لن يُسعد معي ، فما أنا اليوم إلا شبح امرأة يتقلب داخل رحمها وليد  لا من الخطيئةِ خُلق ولا إلى الشرعيةِ انتمى .

 

النهاية…….

 

تاريخ النشر : 2019-10-18

وفاء

الجزائر
guest
96 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى