أدب الرعب والعام

بين النمل

بقلم : أسير الصمت – المجهول

أخذني لمستعمرة خاصة بالنمل

بين ثنايا تلك الغرفة المعزولة في الطابق السابع من عمارة عتيقة جلست أتأمل البدر البهيج و أحتسي الشاي المنعش ليهز سكوني جرس الباب ، لذا اتجهت لفتحه متأففاً ، لكن لم أجد سوى طرد صغير تركه شخص ما وعاد في سبيله .

أمسكت ذلك الطرد وفتحته بعدما وضعته على طاولة صغيرة لا أملك سواها ، لأجد به صندوقاً آخر أصغر حجما ففتحته ووجدت كتاباً بلا حبر عليه وقلادة على شكل عين بشرية ، حدقت بها بتمعن فخالجني شعور غريب كأن جسدي تبخّر وعدت روحاً تطفو في الهواء .

نظرت حولي فكان كل أثاثي أشبه بأبنية شاهقة ، اتجهت نحو الباب ولأني ضئيل الحجم كالنمل لم أضطر لدفعه ، ولكن الآن أمامي مصيبة اجتياز السلالم ، وما كدت أفقد أمل رؤية العالم من جديد وخوض مغامرة مرحة حتى رأيت فتاة رشيقة تقترب مني ، كنت أراها من بعد عظيم وهي لا تبصرني حتى ، تمسكت في كعب حذائها الأسود أترنح مع كل خطوة لها ، وما إن بلغت الباب حتى حررت ساعدي ثم سرت في الشوارع المكسوة ببني آدم .

لقد تنوعت الوجوه والأحجام أمامي ، ولكن ما جمعهم أنهم لم يلحظوني رغم صراخي وتدحرجي بين الأقدام ، باختصار كنت مجرد حشرة .

وفي مسيري شعرت بأحدهم يراقبني لذا أسرعت الخطى وهذا ما زاده حماساً ، فاستدرت إليه لأعلم حاجته ، وإذ هو بشري مثلي ، خاطبته قائلاً : ظننتك جرذاً تريد نهشي يا هذا ! لقد أرعبتني ! ضحك الغريب ثم أجاب : في الواقع لم أظن أني سأرى أحداً مثلي بعد كل هذه السنين !

جلست مع ذلك الرجل على زجاجة خمر مهملة نتبادل أطراف الحديث وقد أخبرني أنه تلقى قبل عشرة سنوات في ليلة بدرها مشرق طرداً به كتاب وقلادة ، وأنه أصبح بعد تحديقه في تلك الأخيرة ضئيل الحجم ، وقد حاول لفت انتباه البشر الآخرين لكن دون جدوى ، لذا اعتزلهم وأصبح يعيش في عالم الحشرات كأنه فرد منهم ، كما انه أخذني لمستعمرة خاصة بالنمل الأسود ، لن أكذب إن قلت أننا لم نتلقَّ ترحيباً كضيوف عندهم ، بل كطعام طري !

اتذكر وجه صديقي المرتعب بعدما لفَّت نملتان من صنف العاملات حبلاً لزجاً حول جسدينا الهزيليين ، وقد بدا لي كأنه بقايا جثث نملية أذيبت كسلاسل لأسرى حلبة النزال القاتل ، لم أستوعب ثرثرة الحراس حولي ، فبعضهم أشار لي أنني سأصبح غذاءً لدودة الأرض العملاقة ، وبعضهم قال أن العقرب سيهشم رأسي بذيله ، ولكن ما لم أستوعبه لحد الآن لماذا أتى بي ذلك الرجل إلى المستعمرة ؟!

لم أحصل على الجواب إلا بعدما دخلت علينا أميرة النمل ، والتي هي عشيقة سبب مصيبتي ، وفي ما يبدو أنها شعرت بخيانته لها مع جواريها ، لذا أرادت سحقه في الحبل رداً لكبريائها ، فهي من تخون الذكور بالعادة .
المهم الآن أضحت مسألة موتي أمراً مؤقتاً ، ولكني شغوف بحياتي كثيراً لذا أردت أن أجعل لهذه المسرحية درساً للأميرة ، فرحت كي أقبل يدها بحسب التقاليد ثم قلت : لأجل جمالكِ سأفوز ! فأشاحت ببصرها بعيدا عني واتجهت إلى المنصة الخاصة ، أما أنا فكان علي ترويض تلك الدودة المترنحة بسوطي .

تعالت أصوات الجمهور من شتى أصناف الحشرات ، فشعرت للحظة أني بين أقراني من البشر ، لأسقط سريعاً بين أحضان غريمتي التي راحت تعصرني بشدة ، ومخاطها السام يحرق جلدي كالحمض ، وجاء الفرج مع صفارة تلك الخنفساء التي أعلنت عن وقتٍ مستقطعٍ كان لي فيه فرصة لتخليص الرعية من الأميرة المتسلطة وتحرير ذلك الرجل الذي أُرغم على مضاجعتها كي يحيا في أرضها بسلام .

لذا تسللت للمنصة الخاصة وقد اعترض سبيلي حارسين ضخمي الجثة ، أوهمتهما أني أحمل رسالة مستعجلة للملكة بخصوص زواج ابنتها من أمير النمل الأحمر ، وما كان لهما أن يسايرا بلاغتي ففتحا الباب أمامي ، بعدها استدرجت الأميرة من بين حاشيتها واهماً إياها برسالة مزيفة من عشيقها المتوسل ، والذي هو صديقي الضئيل .

فسارت معي مغمضة الأعين إلى السجن ، أنا أوهمتها أنها ستلقاه ، وفي غفلة منها باغتها بقضيب ثقيل فصل رأسها عن جسدها ، ثم حررت السجناء الذين خلقوا فوضى عارمة في المستعمرة ، ما سمح لي وصديقي بالفرار نحو القمة الموصدة ومنها إلى الشارع من جديد .

وما كدنا نجتاز تلك السيارة المسرعة حتى شعرنا بجسدينا يعودان لحجميهما الطبيعي ، كما أشرقت شمس الصباح معلنةً عن نهاية المغامرة التي دونتها صفحات كتاب طرد ليلة البدر ، وقد كتب في صفحته الأخيرة ما يلي : انظر للأسفل كي تصل للأعلى فأحياناً حشرة قد تغير البشر ” .

تمت

 

تاريخ النشر : 2018-05-02

guest
9 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى