أدب الرعب والعام

بيوت قديمة – الجزء الثاني

بقلم : سارة برير – السودان
للتواصل : [email protected]
أهلَّ وجه غصون على مصطفى و كان جامداً بنظرة ميتة
أهلَّ وجه غصون على مصطفى و كان جامداً بنظرة ميتة
يوجد حمام ، إن كنت محظوظة ستجدي بعض المياه في حمام ليلى ، العروس الميّتة ، لقد تفحمت .
” لا يمكنك الصعود لأعلى “.
” لماذا أيتها العمة أمل ؟ “.
” لأن روح ليلى في الأعلى و لا تحب الأطفال المزعجين “.
أهتز كيانها و هي تستحضر هذه الكلمات و أنتفض كل جسدها متشنجاً ، يا الله ساعدني يا ربي الرحيم ، لقد كانت تحاول إخافتي فقط ، لا أحد يعود بعد الموت ، لا وجود للأرواح ، عمتي كانت تخيفني فقط .
دفعت باب الحمام  و تأهبت لظهور شيء خلفه ، فأجفلت للحظة و كادت تصرخ ، لا شيء … لا شيء .. كانت توجد مرآة قديمة مطموسة الرؤيا و مليئة بالأتربة استقبلتها أولا ، تجاهلتها غصون كأنها لم ترها و مشت تجاه حوض الاستحمام تتمايل كشبح ، حركت مفتاح الصنبور ، أستعصى قليلاً ثم تزحزح ، قرقر الدش من فوقها ، سالت مياه سوداء داكنة في بادئ الأمر ، ثم صفت و ترقرقت بعد ثواني ، وقفت تحتها و انسابت باردة على رأسها تخترق بشرتها و عظامها ، اصطكت أسنانها من البرد و شاهدت النيران تهمد رويداً رويداً  حتى خمدت تماماً ، و ظل أثرها الأسود في ذيل الفستان.
تفحصت زاوية الحمام و كانت هناك مواد تنظيف و سباكة ، وجدت أنبوب حديدي بينهم تناولته و جرته خلفها ، وجهت لباب الغرفة عدة ضربات في مقبضه أنكسر على إثرها و تفتَّت أجزائه تصلصل على الأرض ، نزلت درجات السلم ببطء بينما المياه تقطر من طرحتها و جميع جسدها .
و ما كان هناك في صالة المنزل جعلها تتجمد لدقيقة كاملة ، ثم استوعبت ما يجرى ، كان أيمن ممداً على الأرض و الدماء تُلطخ بدلته و قميصه .
” أيمن …. أيمن … لا ، لا “.
هرولت إليه و حاولت إيقاف النزيف في عنقه ، كان أحمر زاه نضح من شرايينه في رشحات سريعة و متتالية ملوثاً ثيابه و الأرضية .
سمعت صوت طرقات مزعجة و شخص ينادي :
” غصون … هل أنتم بخير ؟ “.
4
أهلَّ وجه غصون على مصطفى و كان جامداً بنظرة ميتة ، كانت كتمثال من جليد ، تمتم :
” أنت  “.
” لقد تأذى كثيراً إنه ينزف “.
عينيها ملطختين بالكحل ، و ثوبها مموج بخطوط دامية و يديها ورديتان و ترتعشان .
” لقد أخذته مني “.
” هل قتلته ؟ “.
سألها مصطفى و تقدم بخطوات بطيئة ، كان أيمن ساكناً على الأرض و الدماء تزحف منه مُشكلة خطوط ثقيلة و مُتعرجة على السجاد ، جثى بالقرب منه و فحص نبضه .
” لقد مات “.
انهارت غصون و تهاوت و هي تتمتم :
” لا … “.
” هل قتلته ؟ “.
” لا أعلم شيء ، لقد كنت محبوسة في الأعلى ، و وجدته هكذا “.
أخرج هاتفه و طبع أرقام الطوارئ ثم ضغط الموبايل على أذنه بكلتا يديه :
” 998 ما حالتك الطارئة ؟ “.
أومأت له غصون دامعة – نافية و متوسلة .
” أكرر ما حالتك الطارئة ؟ “
طالعها بشفقة ، كانت ضعيفة و منهارة ، بدت كشمعة تتقاذفها رياح باردة ، بحق الله لم قتلته ؟ أخذ نفس عميق من الهواء الثقيل و قال :
” أيمن أبو سالم في الثلاثين من عمره ، أصيب بطعنة في عنقه و صدره مما تسبب له بنزيف “.
مد يده إلى صِدق أيمن و تحسس نبضه مجدداً :
” لقد مات ، أعتقد أن زوجته قتلته “.
سقطت راكعة و هي تهمس :
” لم أفعل ، وجدته هكذا ، لم أكن لأقتله … أقسم بالله … لقد رأيت ليلى ، ربما هي من قتلته ،أعرف أن كلامي غير منطقي لكنها هي ” .
هذت بالكثير من الكلمات الغير مفهومة ، لربما عبرت غصون للجهة الأخرى و من المستحيل إرجاعها اليوم أو غداً ، ليس بواسطته ، فهو غير كفؤ ، لديه ندوبه الخاصة ؛ سبق و أن هرب منها إلى هذه البلدة ، إخفاق مهني مُخجل متمثلاً في مريضه مؤيد – كانت انتكاسة مريعة نتجت عن سوء تقييم ، أنتحر على إثرها الفتى ، و قروحه التي لم تُشف أبداً بسبب الماشية و الروائح العفنة . هو مسجون في تلك المنطقة و لن ينجُ أبداً – لم يحاول إنقاذ نفسه قط .
5
” هل رأيت أي أحد يدخل المنزل ؟ “.
سأل الشرطي مصطفى ، فأجابه نافياً :
” لا ، آخر ما رأيته هو أيمن ، كان يقف هنا في الساحة يُدخن “.
تفحص الرجل حيث يقفا ، كانت أعقاب السجائر التي خلّفها أيمن متناثرة تحت أقدامهم ، أستدعى أحد ضباط الأدلة و طلب منه جمعها .
و غادرت غصون رفقة شرطيين صامتة و هادئة ، لم توضع الأصفاد في يديها على الأقل ، كان حينها خيط الفجر قد بدأ بالظهور في السماء .
” أعتقد أن غصون غير مُستقرة ذهنياً “.
كان الضابط منهمكاً يكتب ملاحظات في مفكرته تحت أحد الأعمدة المضيئة عندما باغته مصطفى بالسؤال و قطع عليه أفكاره ، تفرس ملامحه ملياً و أجاب :
” إنها واعية ، تفكر و تستجيب ، قضيتها مُغلقة عليها ، ثم هل بقي عليك تشخيص حالتها؟”.
” أسمع ” تلفت مصطفى حوله بنفاد صبر ثم همس له :
” أنا الشاهد الوحيد ، أول الواصلين لساحة الجريمة ، ثم ضع في حسبانك أنني طبيب نفسي ، و الآن كم ستكون شهادتي مؤثرة في المحكمة ؟ “.
” هل تهددني؟ “.
” أفهمه كما شئت “.
يدفعون أقرب شخص ” بحق الله “.
كانت غصون مصدومة و تحدثت بالرغم من ذلك ، تكلمت بثقة ، أنكرت ، و قالت أن ليلى هي من قتلته – منتهى الجنون ، توجد حلقة مفقودة ، لقد كانت مُبتلة ، و فستانها مُحترق هذا مؤكد ، ربما حاول أيمن إحراقها فقتلته ، و لم قد يفعل ذلك حباً في الله ؟.
” أين نظارتي ؟ “.
لقد نسيها في غرفته ، فصعد لأخذها ، قبل ثلاث ساعات فقط كان ينظر لأيمن من نافذته طيلة الوقت ، و انشغل لبضعة دقائق فقط و عندما عاد لم يكن أيمن موجوداً ، لربما أتى شخص ما و دخل غرفته .
لا أعتقد هذا .
لنفترض أنها صادقة ولم تقتله ، إذاً ليلى حقيقية ! .و هذا جنون ، مرحلة متأخرة من الذهان .
إذاً لنأخذ الأمر من ناحية نفسية أيها الطبيب الحذق ، أخذ مصطفى و رقة و قلم ليتمكن من فهم ما حدث ، تلك الفتاة عاشت في ذلك المنزل المشؤوم و تعرف بالقصة أكثر من أي شخص آخر ، تعايشت لسنوات مع هذه الإشاعات ، في المدرسة و عند الجيران و في كل مكان تذهب إليه كانت تلك الإشاعات تطاردها كلعنة ، و هي تعرف حقيقة ما حدث في ذلك الزمان أكثر من أي شخص آخر .
لدينا أيضاً العمة أمل ، العمات ليسوا ودودات و كانت أمل هي الوريثة الوحيدة المتبقية و غصون ، لو كنت عمة شريرة لأحكمت سيطرتي على تلك الشريكة منذ الطفولة ، و لملأتها بالأكاذيب .
النتيجة :
خوف مرضي من ذكرى ليلى و كل ما يتعلق بها ، المنزل و ربما غرفتها العلوية و كل شيء يخص تلك العروس الميّتة ، و في أكثر المراحل تطرفاً سماع أصوات في المحيط و تهيؤات ، و عند وضع ذلك المريض في وسط مُلائم لدب الرعب في نفسه كغرفة ليلى مثلاً مع وجود مُحفز قوي كالنار ، من الممكن أن يفعل هذا الشخص أشياء دون وعي منه ، ينفصم – ينتزع سكين و يقتل ، بعدها لا يتذكر أي شيء .
” أين سلاح الجريمة ؟ “.
لنستخدم فرضية الدخيل :
يأتي شخص ما ، قد يكون أي أحد في تلك الدقائق القليلة التي غبت فيها عن النافذة ، يحبس هذا الشخص غصون في الأعلى ثم يقتل أيمن ، شخص كان يحب غصون مثلاً ، شخص غير راض عن هذا الزواج كذلك الذي عشق ليلى قبل خمسون عاماً ، و الذي عشق ليلى قبل خمسون عام أقام في هذا المنزل .
أنت أيضاً تقيم هنا و أُعجبت بغصون حتى أنك تمنيت أن تكون لك – هذه حقيقة .
” هذه مجرد تفاهات “
كانت خطوط الشمس الصفراء قد تسللت من نافذته مُعلنة عن بداية يوم جديد و هبت نسمات المتوسط باردة هذا الصباح .
تحسس جيوب بنطاله و أخرج ورقة مُجعدة كان قد وجدها في ردهة البيت القديم ، لقد نسيها تماماً ، كانت ملقية بالقرب من جُثة أيمن ، و عندما وصلت الشرطة حشرها سريعاً بين ثيابه.
فرد الورقة و طرح تجاعيدها بأصابعه ، كان إيصال استلام موقع باسم أيمن :
250 درهم  لصالح محلات آمري .
النوع : فستان سهرة دانتيل أسود .
يا للتبذير ! سحب هاتفه و كتب في محرك غوغل محلات آمري ، ظهرت الكثير من النتائج ، نقر على أول خيار ، فانبثقت خريطة للمحال و رقم هاتف ، نسخه و أجرى مكالمته ، أجابته شابة حيته و عرّفت عن المحال و قالت : أن أسمها عائشة ، أستفسر منها :
” أنا أيمن ، اشتريت منكم فستان لزوجتي غصون يوم آآ ….”.
و نظر إلى تاريخ الإيصال في يده :
” يوم 29 مارس ، أي قبل أسبوع “.
” نعم نعم ، سيدي “.
رددت الفتاة ثم صمتت لبرهة ، بدت أنها تراجع على جهاز كمبيوتر ربما .. ربما .. و المفاجأة أن قالت :
” في الواقع الفستان لم يكن باسم غصون و إنما فدوى” .
من هي فدوى ؟.
” حسناً ، ذلك الفستان تعرض للتلف آنسة عائشة ، هل بإمكانك إرسال واحد آخر ، طلبية جديدة لنفس العنوان الذي كان …”.
” مدام عائشة ” صححت له بلباقة ثم ادرفت بحدة : ” هل تحاول خداعي لتحصل على عنوان أحدهم ؟ “.
سحقاً .
” اسمعي …”.
صمت قليلاً .
” هل أنت غبية أم حمقاء عائشة ؟ أنا أيمن أبو سالم “.
في الواقع أيمن يرقد الآن على بُعد عشرون متراً في مستنقع من الدم المُتخثِر كقطع مُقززة كادت تجف .
” لابد و أنك سمعتي بهذا الاسم اللعين من أجدادك ” قال مصطفى ثم أردف :
” نحن لم نصطد الأسماك و لم نعمل كحمّالين متجولين في البواخر ، تعرفينها تلك القادمة من أثينا الغبية ، و لم تفُح من ثيابنا رائحة السمك العفنة . أتعلمين لماذا عائشة ؟ “.
ابتلعت المرأة ريقها حتى أنه سمعها عبر الموبايل وغمغمت :
” لا .. أعلم “.
” سأخبرك لا تتعجلي ، كنت أقول أن ثياب أجدادي لم تكن أسمالاً سوداء لأن عائلتي ملكت و لا تزال تملك نصف هذا الميناء القذر بسُفُنه الصدِئة ، و إن لم ترسلي ذلك الفستان الآن أقسم بالله و والله … “.
” حسناً … حسناً سيد أيمن .. الفستان تريده باللون الأسود و ذات القياس و الخامة السابق”.
” دان تيل “.
” نعم دانتيل .. سأبعثه فوراً إلى العنوان : الإمام ناصر ، برج النخيل ، شقة رقم 15 ، للتأكيد فقط هل تريد تغيير العنوان سيد أيمن ؟ “.
” نفس العنوان اللعين عائشة “
6
كان حي الإمام ناصر قديم كبقية أجزاء البلدة ، مع بعض مظاهر الحداثة التي غزته في السنوات العشر الأخيرة ، لنقل أنه في طريقه ليكون أبراجاً عالية بعد بضعة سنوات ، كان برج النخيل أحدها ، نزع مصطفى نظارته و هو يقف أمام الباب الذي يحمل الرقم 15 ، مسحها بطرف قميصه ثم أعادها لأرنبة أنفه مجدداً ، هيا يا فدوة ، سمع صوت السلسلة تزاح ، و أطلت من خلف الباب شابه بهية ترتدي ثياب بيتية أنيقة ، سألته مباشرة عما يريد . و فكر في كذبة ما ثم أجاب :
” أنا مصطفى في الواقع ، علمت أنك على علاقة بأيمن أبو -“
” لعنة الله عليك “
كان صوتها حاداً – مدوياً ، و همت بصفع الباب في وجهه ، فوضع قدمه كحاجز في زاوية الباب و أراد استفزازها لإطالة الحديث :
” أعلم أنك كنت هناك بإمكاني إخبار الشرطة أنني رأيتك فدوى “.
لم تجبه و ظلت تحاول إغلاق الباب ، سمع مصطفى خرير مياه تُسكب و صوت راديو ينبعث عبر الممر ، رائحة شواء قادمة من المطبخ و تكة ساعة ، لا بد و أن عقاربها الثلاثة اصطفت في الرقم تسعة – صباحاً .
” لم تستطيع تحمل رؤيته متزوجاً ، ملك لأمرأة أُخرى ” توقف قليلاً ثم أستأنف حديثه بنفس النبرة السريعة :
”  منزل رائع و زوجة هادئة كغصون ، لم يكن بمقدورك تحمل كل هذا الألم فنحرته ، عموماً في كُل الحالات ستستجوبك الشرطة  عاجلاً أو آجلاً سيمسكون بك “.
راقب وجنتاها و قد أحمرت من الغضب ، كانت تزفُر و ترمش بتتابع ، فرمى بورقته الأخيرة و همس :
” غصون وضعها العقلي غير متزن حالياً ، لكن أنا سأقول بأنني رأيتك تخرجين من المنزل القديم و هذا كاف لإغراقك حتى الأُذنين في الجريمة ريثما تتماثل غصون للشفاء و تُدلي بأقوالها ” .
أرخى يديه عن الباب و سحب قدمه ثم تراجع ، وضع رهانه على إيصال فستان الدانتيل ، فلا يوجد سبب يدعو أيمن لحمل تلك الورقة يوم زفافه و التجوٌل بها ، إلا إن كانت عند فدوى بلا شك ، لكن بطريقة ما سقط منها الإيصال في البيت القديم .
” انتظر “.
لمعت حدقتي مصطفى السوداوين وراء زجاج نظارته ، تقدمت فدوى و قالت :
” كنت هناك لكن لم أقتله ، نعم فكرت “.
أمعن النظر في قسماتها الحادة و بدت قوية بشكل ملفت ، تينك العينين الحادتين لا بد و أنها فكرت ، بل و اقتربت كثيراً .
” كان مجرد اضطراب عاطفي و مشاعر جارفة ، كان بخير عندما غادرت “.
أشارت بيدها المُشذبة أظافرها بعناية : ” علمت بموته منك الآن “.
اقتربت منه و همست : ” لست متفاجئة ولا أشعر بالأسف حياله ، لحظة عقد قرانه مات في داخلي “.
” ما قصة الفستان ؟ “.
ضحكت بصوت عال ، و وضعت يدها على فمها و رددت :
” الشهر الماضي تكلمت معه لأرجوه للمرة الأخيرة ، تخليت عن كبريائي و بكيت له كطفلة لكنه قال : ” أنا لا أنافق ، أقول الحقيقة مهما كانت علقماً .
 قال : إن نافق الإنسان و لبس ثوب الأخيار و لم يكن منهم ستصيبه لعنات جميع الأشخاص الذين قام بخداعهم “.
صمتت فدوى و حبست دمعات مُتفلتة ، بدت مُتألمة لكنها تماسكت و أردفت :
” طلبت منه شيء أخير و هو أن يشتري لي فستان أسود ليكون نظير ذلك الأبيض ، أردت حضور الزفاف كضيفة عادية هكذا أخبرته ، كنت أود قول الكثير من الأشياء لغصون ، كنت سأجعلها ترى حقيقة أيمن ، أنا ألبس الأسود و هي الأبيض ، سينهار زواجه أمام عينيه “.
تجهمت ملامحها و تابعت :
” لقد تخلى عني بكل بساطة ، كانت حججه واهية ، كنت سأحكي لها كيف كنا على تواصل بالرغم من خطبتها ” .
أمالت فدوة رأسها و ابتسمت بمرارة ” أنا عقدت آمالي على النزوات ، اعتقدتها نزوة عابرة ، وجه جميل أعجبه ، لكنه كان جاداً و تزوجها ” صمتت قليلاً و قضمت أظافرها متوترة : ” تأخرت كثيراً و أنا أدفع بعواطفي و عندما وصلت كان الحفل انقضى “.
نظرت لعيني مصطفى و تابعت :
” غصون لم تكن هناك ، سحقت قيد شراء ذلك الفستان الرخيص ، قذفته في وجه أيمن و رحلت “.
” هي من قتلته ، علمت ذلك لحظة رؤيتها و الأفضل كان أن أتأكد ، الجرائم ليست كعلم النفس مع أنه يوجد بينهما خيط رفيع ، لكن الجرائم لا تنفع معها الفرضيات بوجود البراهين ، و نلجأ للتحليل في حالة انعدام الأدلة “.
أسرها مصطفى بعينيه للحظات ، فهربت من نظراته و تسأل بصوت خفيض لم تسمعه :
” ما حال ببيتك القديم فدوة ، هل لا يزال صامداً ؟”.
” هل قلت شيء ؟ ” سألته فهز رأسه نافياً .
 ” كنت أشكرك فقط و أعتذر عن الإزعاج ” و سار مبتعداً عنها ثم تذكر شيئاً :
” ستأتي طلبية إلى هنا ، أخبريهم أن العنوان خاطئ أو أنك غيرت رأيك “.
اتسمت فدوى و هي ترمقه بنظرات ماكرة ، لقد كانت الشابة ذكية جداً .
غصون تم وضعها بشكل مفاجئ في خطر مُحدق ، علم أيمن أن فدوى قادمة فحبسها في الأعلى ، لا يريد للمرأتين أن تجتمعا و في أثناء ذلك ، سقطت إحدى سجائره المشتعلة في الغرفة ، لم ينتبه لها ، لأنه رجل يرمي بقذارته دون تفكير .
فكان أمام غصون خياران الاحتراق أو النجاة ، حسناً ، لنقل بأنها كانت قوية و نجت ، أطفأت تلك النيران بطريقة ما .
أفترض أنها حتى عندما أطفأت النيران كانت تراها تلتهمها كجهنم ، لسنوات كانت ترى اللهب من حولها ، في الغرفة التي فوقها ، في حكاية الجد و ليلى ، في العمة أمل ، الأسطورة تتردد لسنوات حتى غزت عقلها و استحوذت على كيانها .
بالرغم من كل ذلك هي مُجرد حكاية مفككة لا تعنى أي شيء في الذاكرة ، هي قابعة هناك في اللاوعي تنتظر دون فائدة ، فيتحرَّك الوسط و يهتز – تضطرب الذاكرة – ذلك الوحش الأسطوري المرعب واقعي و فتَّاك – البيت المجاور – النار – رائحة الدخان – و زفافها المحترق و أهم شيء الجد القاتل إنه موجود و حي ، ليلى و العمة كذلك حيتين ، جميعهم أحياء و يريدون النيل منها .
تهديد للحياة – ينغلق العقل ، لذلك أراقت غصون الكثير من المياه على نفسها في ذلك اليوم المشؤوم ، سكبت بحراً كاملاً على روحها ، أخمدت النيران في الفستان ، في عقل غصون لم تهمد و لن تنطفئ ، بل استعرت تلك الحمم ، فانفصلت عن الواقع ، كان حلها الوحيد هو التخلص من مُشعل تلك النيران التي تأبى الانطفاء علها تنجو ، قُتل أيمن .
القروح و الدماء و القذارة الوسخة التي نزرعها في طفل  تقودنا نحو الانهيار في النهاية ، تؤدي إلى تهدٌم تلك البيوت القديمة ، الذاكرة المُتغذية على الإرهاب تؤدي إلى الجنون .
الخاتمة :
انعكس شعري مفروداً و جميلاً على المرآة . و لاحظت أن عيني أصبحتا صافيتين ، لكنهما ناعستين طوال الوقت بسبب الأدوية .
قال طبيبي أن تحدُث الإنسان مع نفسه أمر جيد ، عن ما يحبه أو يكرهه ، عن مخاوفه و خلجات نفسه ، و خصوصاً التحدث أمام المرآة يجعلنا بطريقة ما نتصالح مع أنفسنا و نكون أقوى في العواطف و القرارات المصيرية ، قال شيء ما عن أن الأطفال الذين نشأوا في بيئة صحية يكونون أقوى في مواجهة الحياة ، علمت أنني لست منهم .
قال الدكتور مصطفى أنه يفهمني و يفهم معاناتي ، لا أظنه فهم شيئاً من ما مررت به ، لا أحد يفهم شروخ روحك ، لقد تلطخت يدي بدماء زوجي كيف يفهم هذا الأمر ؟ و هو الذي لم يرى دماً في حياته .
أخرجت زهرة أقحوان من جيبي كنت قد جلبتها من الحديقة ، ذبلت بتلاتها قليلاً ، ألصقتها بسولوفان في أعلى المرآة ، مرآتي هذه لم تكن كتلك التي في حمام ليلى ، مرآة ليلى لم أرى فيها سوى النيران و ألسنة اللهب ، أما هذه جديدة و لا يوجد بها أي زوايا حادة ، و الوردة زادت من جمالها .
تم غرس المرآة في هذا الجدار الأزرق الفاتح ، هناك حاجز زجاجي غير قابل للكسر بيني و بينها ، لا يريدون بالطبع أن أحطمها بهذا الكرسي الذي أجلس عليه ، ثم ألتقط شظية و أقطع بها هذه الأوردة الزرقاء و الشفافة على معصمي ، هم لا يريدون ذلك وأنا أيضاً لا أريد .
” ريدون ” مُضاد قوي للذهان من نوع ما ، كبح كل أفكاري الجنونية و المتطرفة – خاصة العصبية و العنيفة ، كانت تعليماته أن آخذ 10 مليغرام في اليوم ، أعتقد أنها كمية لا بأس بها ، يستطيع أي كان أن ينتحر بخمسة أقراص منها لكنهم يبقونها بعيداً ، فقط أرى حبة يتيمة كل مساء تتوسط صحن تجلبه ممرضة مقيتة ، فأبتلع حبته التي بلون الغروب و أنا أراقب قسماتها الحادة من خلف كوب الماء ، و أقسم أنني لو نهضت بطريقة مُفاجئة كانت ستصرخ راكضة ، كانت سمعتي سيئة في أول أيامي في المصح ، لقد كنت السفاحة التي نحرت عريسها ،  كنت الشرّ المُطلق – إنها سابقة – لا تأتي عروس قاتلة كل يوم و لا كل عام .
مصطفى لا يعلم حتى الآن أنني حاولت قتله ، منذ رأيته أول يوم فكرت في قتله – مرتين في الواقع ، المسكين لا يعلم حتى الآن ، و أنا لم أكن أعرف أنه رجل طيب ، لم يكن يبدو كذلك ، أنا نادمة جداً .
المرة الأولى كانت صباحاً ، حينها كنت أقود سيارتي لمركز التجميل فكرت بدهسه ، كانت مجرد فكرة ، خطرت سريعاً في ذهني و ذهبت ، كنت قد شعرت بالخطر من ظهوره فجأة في ذلك المنزل المُتهالك ، أما المرة الثانية في الشهر الماضي و قد كانت الأخيرة ، أتمنى هذا – آمُل ذلك من كل قلبي .
” ماذا كنت أقول ؟ “.
نعم .. نعم … قتل مُصطفى .. عندما أحضر الدكتور مصطفى هذه المرآة أجفلت بمجرد رؤيتها ، فقال أنني ربما لست مستعدة لفعل هذا الأمر ، أعني الجلوس أمام المرآة و التحدث لنفسي كما أفعل الآن ، لكنني أصريت و جلست ، و قد كانت نافذة بغيضة لمخاوفي ، فرأيت نفسي بداخلها أحترق ، حينها خطرت فكرة قتله ، نويت فعل ذلك بشدة ، في أقل من دقيقة كنت سأُنهي أمره – المسكين ، يا إلهي كانت فكرة ماكرة ، أنا سيئة جداً.
وقف خلفي و طيفه مُنعكس في المرآة أمامي ، كنت سأنتزع ذلك القلم الذي يحتفظ به في جيب قميصه الأيسر بلمح البصر ، ثم أُقحمه في تلك المنطقة الليّنة و الضعيفة – الرقيقة جداً ، نعم تحت تُفاحة آدم مباشرة ، لوهلة كان مصطفى غاب قوسين أو أدنى من الموت  و نجى بمُعجزة ، فقد تراجعت في اللحظة الأخيرة ، لا أعتقد أنه شعر بالخطر حينها ،لا يملك الحاسة السادسة ولا متخاطراً و إلا للمح نفسه ميّتاً لأجزاء من الثانية – الحمد لله أنه لا يملك أي من هذه الأمور ، نعم ، اعترفت له بالكثير من الأشياء عندما تذكرت ، منها كيف قتلت أيمن و أين أخفيت السكين ؟ خبأتها داخل الأنبوب الصدئ ، ذاك الذي استعملته لكسر باب الغرفة ، أساساً كانت مطوى صغيرة ، لا بد و أنهم استخدموا منشار لاستخراجها من هناك ، لن أخبر مصطفى أبداً أنني حاولت قتله ، سيُصاب بخيبة أمل .

مددتُ يدي و تلمست الزهرة و المرآة ، وجدتها مصقولة و باردة جداً ، لقد امتصّت البرودة من هذه الغرفة المُعقمة كعدوى بليدة ، بتٌ أُدرك هذا .
أنا لم أكن هكذا ، لا أذكر متى بدأ خوفي من تلك الغرفة ، كُل ما أتذكره هو العمة أمل ، شكل الجلد المتفحم و ليلى و هي تصرخ ، هذا كل ما أذكره من طفولتي البائسة ، حتى أبواي لا أتذكرهما ، أحس بالوحدة في داخلي . أكون ناقصة مهما اكتملت .
غرفة جدي كانت باردة في ذلك اليوم ، لا أعلم هل كانت باردة منذ القِدم أم اكتسبت تلك البرودة بمرور الوقت ؟ أعتقد أن جميعنا لديه العمة أمل بطريقة ما في حياته ، تلك العمة تجعلنا نكتسب برودة قارصة ، بمرور الوقت نصير جليد ، البعض منا يذوب وحيداً – ببطء يُدفن ، و نوع آخر يتكسر تحت أقل ضغط مثلي أنا ، أشعر أنني صرت أتحدث مثل الدكتور مصطفي ، لقد قضينا ساعات طوال معاً ، أشكو و أُثرثر و هو يكتب و يوجه دون أن يتذمر أو يفتر ، أنصت لكل ترهاتي ، و كان يسأل عن بعض التفاصيل المتعلقة بطفولتي و العمة أمل ، و يطلب مني إعادتها كل ما حكم مزاجه – يا للهول لديه نظرة ثاقبة ، حتى فقدت شهيتي للتحدث ، و جعلني أفقد مشاعري تجاه كل الأحداث المروعة ، بطريقة ما تمكن من هذا الأمر ، هذا دليل على براعته .
الآن أتسأل ما العمة أمل الخاصة به ؟ يبدوا متزناً دائماً كطبيب نفسي مُحترف ، لابد و أنه وصل للهاوية سابقاً ، فليس من السهل أن يكتسب الإنسان هذا الكم من الاتزان دون ضربات موجعة ، هذا يوصلني لنتيجة أن مصطفى يعرف لون الدم و طعمه ، إن سألته عن مذاق الدم لربما يستنتج أنني أنتكس و لا أتعافى ، و سأضحك حينها بصوت عال ، سيتحتم علي أن أُفسر له .
أشعر أننا جميعاً نصل للحافة بطرق مختلفة و السقوط من عليها يكون بصمت أو صخب ، حان وقت غدائي ، سأكمل غداً .
النهاية …….

تاريخ النشر : 2020-12-28

guest
49 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى