اساطير وخرافاتكشكول

تاليس : حكاية من التراث الجزائري

في قديم الزمان، وفي بلد من البلدان، عاش ملك ذو قوة وبأس وعنفوان، مع زوجته الجميلة وابنتيه الصغيرتين . كانت الأولى الكبرى تدعى زليخة، والثانية تسمى تاليس .

وبما أن البطن بستان، ينجب أشكالا وألوان، فقد كانت كلتا الطفلتين مختلفتين خُلقا وخَليقة، فزليخة كانت مبعثا للمشاكل، وكذلك اتسمت روحها بالأنانية وقلبها بالحقد والكراهية وهو ما انعكس على ملامحها . في حين أن تاليس كانت فتاة جميلة الروح طيبة الملامح . تميزت بالعقل الراجح والقلب النقي وكذلك حب الغير ونكران الذات .

ومرت السنون تتلوها أخرى، وكبرت الصبيتان . وحملت أمهما الملكة بعد طول غياب . فرحت تاليس بالخبر واستأنست، وحلمت بأن يأتي أخ ذكر يكون لها سندا وظهرا . أما زليخة فدب الغل في نفسها وتأججت نيران الغيرة في قلبها . فإن أتى ذكر فيعني أنه سيكون ولي عهد السلطان، و يؤثر بالحب والعناية والاهتمام، وستصبح هي في طيّ النسيان .

إقرأ أيضا : قطوسة الرماد ” حكاية شعبية من التراث الجزائري “

وذات ليلة رأت الملكة في ما يرى الرائي أنها اشترت زوجين من الأحذية الجديدة . ولكنها فقدتهما في غابة بعيدة، وجابت المكان بحثا فما وجدتهما . فنهضت من النوم مفزوعة، وبقلب وجل روت للملك ما رأت في المنام، فهدأها وطيّب خاطرها بأنها مجرد أضغاث أحلام، وبإذن الله سيرزقا توأما من الصبيان يسميهما بالحسن والحسين .

**

تعاقبت الأيام والشهور، وقرب وقت ولادة الملكة . وفيما كان الملك على كرسيه جالسا يتدبر شؤون البلاد والعباد فإذا بأحد خدمه ويدعى ميمون يتقرب لحاجة في نفسه .

_تفضل يا ميمون، ما طلبك؟ .

_ جئتك يا سيدي طالبا القرب ، والزواج من ابنتك زليخة ذات الحسب والنسب .

فإذا بالملك يقف عن مجلسه بغضب ويصيح :

_ هل جننت؟!، هل أزوج زليخة ، ابنتي أنا الملك من خادم عندي! . انسى الأمر وإياك أن تفكر فيه ثانية .

سمعت زليخة الحديث، ورفض أبيها لحبيبها الوسيم . فأقامت الدنيا غضبا وحزنا وقهرا . بكت لأبيها، ترجته، تهددت وتوعدت لكن دون جدوى، فالملك كان مصمما على رأيه . لكنها لم تيأس فاجتمعت مع ميمون وطلبت رأيه فيما يمكن أن يكون فأجاب بخبث :

_ ليس الأمر صعبا، لكن يجب أن تكوني ذات قلب قوي لا يخشى شيئا .

_ ماذا؟ .

_ تقتلين أمكِ وأقتل أباكِ، وأصبح الحاكم وأنتِ زوجتي . ثم نجعل من أختك خادمة ونتخلص من المولود القادم دفعة واحدة .

فتحت زليخة عينيها دهشة، ليس لفظاعة ما اقترح، ولكن لإعجابها الشديد بالفكرة .

إقرأ أيضا : ابنة الحوَّات

وعادت للقصر راضية سعيدة . وعانقت أمها واعتذرت منها بطيب وحسن الكلام، وأخبرتها أنها نست ميمون ورضخت لأن شيئا لن يكون . ومن جهة أخرى عاد حبيبها إلى حضرة الملك واعتذر إليه قائلا بأنه محق وأن ابنته تستحق رجلا ذا شأن ورفعة، وأن الأولى له أن يتزوج خادمة تماثله .

وبعد أيام جاءه ناصحا وقد كان يدرك نقطة ضعفه ليقول :

_ الجو جميل هذه الأيام، ما رأيك لو نخرج في رحلة صيد إلى الجبال يا مولاي؟ .

_ أجل، أنت محق يا ميمون، منذ زمن لم تطأ قدماي الجبل، وقد اشتقت لعدة الصيد خاصتي . فجهز إذن العتاد وسننطلق صباحا أنا وأنت .

في الصباح انطلق الملك مع ميمون حتى وصل لأبعد نقطة عن القصر، غافله الأخير وعاجله بضربة على رأسه كانت هي القاضية . ومن جهة أخرى، اقترحت زليخة على والدتها أن تأخذها في جولة بالغابة لاستنشاق الهواء العليل ، فبما أنها حبلى فالمشي جيد لها ولصحتها . وافقتها الملكة وانطلقت معها وفي الغابة ودون أدنى رحمة رمَت أمها عن تلةٍ عالية وقفلت عائدة بسرعة .

**

وصل ميمون وزليخة إلى باب القصر حين التقتهما تاليس، سألتهما عن والديها فنطق ميمون :

_ والدك مع الأسف توفي . أخطأ أحد الصيادين فأصابه بنبله المسموم .

وقالت زليخة متباكية :

_ أما أمي فتعثرت وسقطت على بطنها فماتت .

عرفت المكر والكذب من عينيهما، فأسرعت تاليس مفزوعة نحو الغابة، وبحثت حتى وجدت أمها في حالٍ يرثى لها، كانت على وشك الولادة، فساعدتها وأسندتها إلى جذع شجرة وقامت بتوليدها .

ولد ذكران كالقمر ليلة البدر، كانا في أتم الصحة والعافية . ولكن الملكة لم تحتمل ما أصابها وسرعان ما فاضت روحها إلى بارئها . وبمزيج من الألم والغضب والدموع . أسبلت تاليس والدتها، ونزعت عنها قرطيها ثم حفرت حفرة في الغابة ودفنتها .

لملمت الكثير من الحلفاء والأوراق وبنت (دوحًا) لأخويها معلقا بين الشجر . ثم علقت قرطا في أذن كل واحد منهما، وغطتهما ثم تركتهما مستودعة الله فيهما . وعاهدت نفسها على الصبر وكتمان السر حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا .

إقرأ أيضا : مارية و الميت

وأصبحت بعدها تاليس خادمة لأختها وزوجها . جعلاها تنظف القصر، وتطهو الطعام وترعى لهما الأغنام . فاستغلت الفرصة وكانت كلما أخذت الأغنام للمرعى، حلبت من الماعز حليبا طازجا وأسرعت إلى أخويها لتطعمهما . ثم تتركهما في حفظ الرحمان ورقابة حمامة بنت عشها هناك .

وهكذا مرت الأيام .. إلى أن جاء اليوم المشؤوم الذي أظلمت فيه الدنيا في عيني تاليس . فكما العادة حملت حليبا وأسرعت نحو أخويها لتفقد حالهما وإطعامهما فإذا بهما مختفيان! . ارتعبت وجنت، وشعرها شدت، ثم جالت وجابت الغابة بحثا عنهما حتى تورمت قدماها ولكن لا أثر لهما .

رفعت رأسها لفوق فإذا ببيض الحمام في عشه لكن الحمامة مفقودة . فأيقنت في قرارة نفسها أن مكروها أصابهما . كانا حلمها ، السند المستقبلي لها والمعونة، وبانتقام وثأر والديها أقسمت أن يأتونها . لكن أحلامها تبددت وأمانيها تبخرت وهي تسير نحو القصر لتبقى لزليخة أختها أسيرة وخادمة .

**

من جهة أخرى ، وقبل ذلك بليال ألمّ بالطفلين جوع شديد . وببكاء يقطع نياط القلب صرخا وما من مجيب ، إلا الحمامة التي طفقت تحوم حولهما وكأنها تستغيث . واشتد بعدها الصوت أكثر ليسمعه حطاب كان يجمع حطبا من الغابة . تتبع الرجل المصدر فإذا به يجدهما . رق قلبه رثاءا لحالهما فأخذهما وقفل عائدا لبيته تتبعه الحمامة التي نصبت عشا جديدا فوقه . أعجبت زوجة الحطاب بالطفلين وقررا أن يكونا لهما خلفاً .

وتمضي الأيام والسنون، ويكبر الطفلان ليصبحا شابين ذوا وسامة لافتة . وبالرجولة والخصال الحميدة امتازا، ولأبيهما كانا عونين . فكانا يحطبان من الغابة ثم يبيعانه في السوق ويشتريان بالثمن قوت يومهم . وهكذا حتى قررت الحمامة أن تحكي، وللسر القديم تفشي، فأخذت تعترض طريقيهما كل مرة لتقول ” ولاد الملك ولاو حطابة؟، صح .. ولاد العز للدز .” أي، هل أصبح ابنا الملك حطابان؟، صحيح .. إن أولاد العز بلا حظ .

إقرأ أيضا : حمام المسخوطين (الدباغ)

ارتاب الشابان في مقولة الحمامة، وفي كل مرة كانا يسألان والدتهما عنها تغمغم وتهمهم دون إجابة واضحة . ولما اعتصر الشك قلبيهما لأن الحمامة لاتكف عن تكرار نفس الجملة غضبا وتوعدا وهددا أن يهجرا البلاد ولن يعرفا عنهما شيئا إذا لم ينطقا . وأمام الضغط والوعيد روى الحطاب وزوجته لابنيهما القصة كاملة .

قرر الشابان أن يبحثا عن أصلهما ليدركا سبب مصابهما ، فسعيا في الأرض يتحسسا الأخبار حتى ظهرت لهما الحمامة تطير مرفرفة بجناحيها وكأنها تقول أن اتبعوني . وتبعها الشابان حتى وصلا مرعى للأغنام، وهناك على صخرة تجلس امرأة كبيرة، بدت فقيرة ومسكينة بملابسها الرثة وعصا في يدها تهش بها على غنمها .

رأتهما تاليس .. وبقلب وجل وقفت تحدق إليهما، وبالنظر إلى القرطين عرفتهما .. فرمت العصا من يدها وأسرعت إليهما بالعناق والأحضان . وبكت بلوعةٍ الفراق والشوق والأحزان . ثم أجلستهما وبكل القصة حدثتهما فأقسما على الثأر و الانتقام من زليخة وزوجها ميمون .

وبنفس المكر والدهاء ، ولأن الجزاء من جنس العمل . دق باب القصر ، فإذا بهما غريبان عن هذه البلاد . أهّلَ الملك ميمون بهما وسَهّل، وبالزيارة رحب . لكن زليخة ارتابت بأمر الشابين . وشعرت أنهما مألوفين ، ولم يتسنى لها التفكير أكثر، إذ في ليلتها ونار الانتقام حامية الوطيس، تسلل الأخوان إلى غرفتها وزوجها و قتلاهما شر قتلة .

وجلس كلاهما على العرش . وأصبحا الملكين الحسن والحسين . وأكرما الحطاب وزوجته وجعلا منهما سادة القصر . أما تاليس، فأقسما على أن يبراها ويعوضاها عن كل ما عاشته من أسى وحرمان و مرارة .

وهكذا صارت تاليس مضربا للأمثال . تتغنى بحكايتها العجائز في ليالي السهر والسمر أمام الحفيدات . فإما أن يكن ذوات قلب صاف فينتهي بهن رغم الصعوبات والعثرات ملكات مثل تاليس ، أو يفعلن العكس و يلقين مصير زليخة الأسود .

ملاحظة : جميع حقوق المقال محفوظة لموقع كابوس . لا يحق لأي شخص كان النقل الحرفي أو المرئي للمقال المنشور دون إذن مكتوب من إدارة الموقع . وتترتب المسائلة القانونية المنصوص عليها على كل مخالف للتنبيه المذكور .

وفاء

الجزائر
guest
31 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى