أدب الرعب والعام

تحت المطر

بقلم : البراء – مصر
للتواصل : [email protected]

تحت المطر
لا مناسبة تستحق الابتسام مثل أن تمطر السماء

 الحكاية الأولی

                حينما بكت السماء

مرعبة هي السماء حينما تبكي.. صوتها مخيف حينما تزيد من نحيبها.. تقول أمي أن المطر رزق.. وأن لا أحد يكره الرزق، دائماً أُومئ لها برأسي بينما في عقلي أكرر كلمة واحدة «عداي»

ثم أبي.. يصفعني أو يضربني كلما بدت مني علامة خوف صغيرة. “ياويلي!.. كيف تكون ابن الفلاح وتكره المطر، أنت جاحِد.. أنت جاحِد!”

ذات مرة كانت تمطر فأغلقت النافذة وهربت مسرعاً كي أحمي نفسي تحت لحافي، وسمعت صوت الخطوات الثقيلة التي تقترب ومعها صوت أمي. “إنه صغير!.. لم يفهم بعد.. حينما يكبـ… ”
يقاطعها أبي وأسمع صوتها تتأوه لارتطامها بشيءٍ ما.. “دعيني يا امرأة.. صغير أو كبير عليه أن يفهم.. عليه أنه يفهم!”
اقترب صوت الخطوات أكثر وأخذت أرتجف أنا أكثر.. “خائف أنت يا ولد ها ؟!” ثم لا أشعر بنفسي إلا ومذاق الوحل في فمي إثر رمي أبي لي بالخارج.. أسمع صوته.. “ستدخل غداً”.. ويغلق الباب بقوة..
لا مأوی من المطر.. لا حماية من قطراته.. لا مفر من سماع صوت بكاء السماء.

إني أخاف أبي.. وحينما أوازن بينهما.. أخافه أكثر من المطر. لازالت ذكراه وقد طردني مرة ثانية من المنزل تنبض في عقلي، اختلف الأمر كثيراً عن المرة السابقة.. هذه المرة.. طردني عارياً، وهذه المرة لم تكن أمي حية.. ولو أنني أشك في أن أبي كان سيدعها تفعل أي شيء لطفلها الصغير العاري بالخارج، في عام طُردت عارياً وماتت أمي..

أما أكبر الاختلافات فهو الناس.. فهذه المرة لم الليل قد جُن بالكامل بعد..

“أليس هذا إبن فلان؟!”.

“ما الذي يفعله بالخارج عارياً؟!”

“إنها تمطر والجو بارد ألا يخاف علی إبنه”

“دعيه فأبوه لديه طرقه في تربية أبنائه”

أما الأولاد في مثل عمري…. لا أود أن أحكي ماحدث.

لا صديق سوی قطة صغيرة تتمسح بي.. ظننت أنها تتوسم فيِ طعامٌ، بعد برهة يتضح لي أن القطة لا تريد طعاماً.. هي تخاف من المطر مثلي، جلست فوق كتفي وظلت تشاركني الارتجاف.

منذ ذاك اليوم تعلمت.. المطر أجمل شيء في الكون.. المطر هو مصدر الحياة، وتعلمتُ أيضاً أن أبتسم.. أبتسم بكل سرور حينما تمطر.. لا مناسبة تستحق الابتسام مثل أن تمطر السماء..

ولما أتی ذلك اليوم الذي زارنا فيه الدائن وكان أبي يتوسله لسبب ما فقد أمطرت.. جلست بجانب النافذة وابتسمت… إنها ولعجبي تمطر، نظر لي الدائن حانقاً.
“علی ماذا يضحك هذا الولد؟!”
“إنه يحب المطر فقط لا غير ياسيدي”
“أخبره أن يكف عن الابتسام”
ينظر لي أبي بصرامة.. أعرف ما يريده.. هو يريدني أن أتوقف عن الابتسام، لكن المطر هو أجمل شيء يمكن أن يوجد.. كيف لي أن أتوقف عن الابتسام يا أبي؟!

“لماذا تظل تلك الإبتسامة السخيفة علی وجهه”
“توقف عن الابتسام ياولد.. ادخل غرفتك حالاً”
لكن يا أبي إن المطر هو أجمل شيء في العالم.. لن أدخل غرفتي واُحرم من هذه الظاهرة الجميلة.
“مهلاً لحظة.. أيسخر مني؟! أيسخر مني بسبب أنني وافقت علی إعطائك مهلة”
“لا ياسيدي أؤكد لك فقط أنه يبتسم لأنه يحب المطر، توقف عن الإبتسام وأدخل غرفتك حالاً”

لكن الإبتسامة لن تفارق فمي أبداً.. أنا أحب المطر.. إن المطر حياة.
“هكذا اللعبة إذن.. أنت تشتمني أمامه.. أنت تشتمني من خلف ظهري.. إنه يضحك عليّ”
“لا لا.. أبداً ياسيدي إنه فقط…. ”
صرخ الدائن.. “إذن إجعله يتوقف”

يتقدم أبي نحوي بسرعة كي يمسك بي لكنني نحيل وأرواغه بسهولة.. وتزداد ضحكاتي كلما أفلتُّ من يده. صراخ أبي وصراخ الرجل لا يهماني.. عليّ أن أستمتع بالمطر ، وفطِنتُ فجأة.. عليّ أن أری الجدول الآن.. سيكون منظره رائعاً .

خرجت من المنزل عاري القدمين وأنا أضحك بصوتٍ عالٍ، سريعاً أشق طريقي في الوحل نحو الجدول.. ومن خلفي أسمع صراخ الرجل وصوته العالي ، لا يهم.. لو يعلم هذا الأحمق ما الذي يفوته لما كان قد بقي..

جلست عند الجدول وأخذت أتأمله يمتلئ بقنابل المطر التي سرعان ما تختفي ويظهر غيرها.. الحياة لا يمكن أن تكون أفضل من هذا. ثم لاحظت شيئاً علی مّد البصر.. هناك شيء ما في المياه ، يبدو أن أحدهم قد قرر الاستمتاع بمياه الجدول في هذا الوقت ، أشرت له من بعيد بيدي فيعيد الإشارة لي وهو يبتعد.. يبدو أنه يحظی بوقتٍ رائع حقاً، و لو أنني كنت أعرف كيفية السباحة لكنت قد ذهبت له و لعبنا سوياً تحت المطر، مؤسفٌ للغاية.

حتی أنه هناك عصفور صغير يحوم حولي.. ينقرني في رأسي، عصفور لعوب أكثر من اللازم، نعم حتی العصافير كانت تحظی بوقتٍ رائع تحت قطرات المطر ، المطر رائع… المطر حياة.

حينما توقف المطر وعُدتُ للمنزل وجدته فارغاً.. لم أتمكن من العثور علي أبي قط، حينها نمتُ علي سريري واستلقيت تحت لحافي مبتسماً.. يبدو أن الحياة يمكنها أن تكون أفضل من هذا.

**

الحكاية الثانية

               قمة العالم

بعيداً عن مركز العالم.. قريباً من الأطراف حدثت الحكاية.. مور هو البطل.. هو التلميذ الذي يتعلم من الحياة، التلميذ الذي لم يتعلم بعد من المعلم الأعظم.. الزمن. مور في الثانية عشر من عمره، كبير العقل.. هاديء الأفعال.. كثير التساؤلات، نموذج مثالي لعبقري آخر يطرق باب العالم، لولا أنه لم يكن يعيش في البيئة المثالية لكي ينبت فرعه..

كان يسكن في قرية صغيرة تعيش علی الزراعة، أهلها من النوع الذي يؤمن أن الماء والشمس هما كل شيء في الحياة، لا يؤمنون بعقلية فذة مثل عقلية مور.. لا يؤمنون بالعلم ويعتبرون أي شيء خارج عن علم الزراعة هو معجزة بطريقةٍ ما.

لكن مور كان يعرف.. كان يعرف أنهم أغبياء محدودي الذكاء، لم يكن لديه تفسير لبعض أفعالهم الغريبة، إذا نظرت من نافذتك في ذات يومٍ ممطر و وجدت أن هناك من طرد ولده عارياً تحت المطر فهل يمكنك أن تجد تفسيراً منطقياً ؟! وإذا وجدت أن الطفل لا يفعل شيء سوی الارتجاف تحت المطر بدلاً من أن يحتمي في مكانٍ ما فهل ستمنع نفسك من التفكير بأن أهل القرية كلهم حمقی لدرجة أنهم أورثوا حماقتهم لأطفالهم ؟! أما إذا وجدت أن هناك قطة ليست خائفة من هذا الطفل بل وتجلس معه بدون أن تبدي أي ردة فعل فلا يوجد شيء يمكنك فعله سوی التفكير بأن حتی الحيوانات أغبياء في هذا المكان.. وأنك لن تساعد هذا الولد لأنك أذكی من أن تفعل هذا.

في مرة ذهب للحكيم كي يعلمه القراءة والكتابة، في ذلك اليوم شهد الحكيم بأن مور هو أسرع شخص رآه يتعلم الكتابة والقراءة في حياته. ولما كانت لدی مور مهارات فذة في الرياضيات والفيزياء، كان يذهب يومياً لدار الحكيم وينتقي كتابين أو ثلاثة عن العالم وقوانينه الفيزيائية.. أشياء يدرسها الكبار في الجامعات.. دائماً ما وجد مور متعة حقيقة في فهم هذه الكتب جيداً منذ أول قراءة، رغم أن الحكيم ظل يخبره أن هذه الكتب صعبة الفهم للغاية.. حتی عليه هو -الحكيم- شخصياً.

هنا بدأ مور يشعر بالاختلاف.. بدأ يشعر أنه متقدم بخطوات لا تحصی عن أذكی العقول في المكان.. بدأ طموحه يرتفع، هو لا يود أن يكون هنا.. هو يود أن يكون في الأعلی.. أعلی ما يمكن الوصول إليه، أن يكون علی قمة العالم. الأيام تمضي و مور قارئ نهم يحب جداً المعرفة، مكتبة الحكيم لم تكن يوماً بالحجم الكافي لشخص في عقله..

وهنا يقرر مور ، بقاءه في هذا المكان ليس إلا لعبة.. ولكي ينهيها عليه أن يرحل، عليه أن يترك المكان الذي يحد من قدراته.. نحو المدينة.. نحو العلم.. ومن هناك ستبدأ رحلة التسلق ، في أسوأ الأحوال دار الأيتام حتی سن الخامسة عشر ثم الخروج للعالم ، هو ذكي وسيعرف كيف يتصرف بمثالية كي يحصل علی ما يريده.

اختار مور يوماً ممطراً ثم شدّ رحاله ، المدينة بعيدة وتستغرق حسب تقديراته من كلام الناس أربع ساعات مشياً علی الأقدام ، رحلة طويلة لكنها أفضل من قتل عقله في هذا المكان..

لكن مور إنسان ولديه عواطف، أراد أن يُودع المكان قبل الرحيل، فكر مور.. إذا كان هناك شيء يستحق التوديع في القرية فبالتأكيد هو ليس الناس هنا، إذا كان هناك شيء يستحق التوديع هنا فهو الجدول الذي اعتاد علی قراءة الكتب علی ضفافه، عليه أن يذهب هناك ويلقي نظرة أخيرة عليه..

هكذا وتحت المطر كان مور يقف أمام الجدول مبتسماً، غير عالم أن ابتسامته هذه ستكون الأخيرة..

حدث كل شيء بسرعة، ضفدعٌ قفز من الجدول فجأة أمام مور، تفاجأ مور ورجع للخلف، الآن الجو ممطر والطين زلق ويملأ المكان..
قدم مور ليست استثناءاً.. هي تعرف الطريق جيداً، في ثانية يختل توازن مور وفي ثانية أخری هو الآن في الجدول وينجرف مع تياره، لا فائدة الآن من التساؤل هل حقاً الجدول بهذا العمق أم أنك فعلاً قصير لهذه الدرجة، كل ماعليك التساؤل بشأنه هو هل هذه هي نهايتك حقاً؟! بعد كل أحلامك وطموحاتك.. هل هذه هي النهاية؟!

لكن مور يری هذا الشخص هناك.. بعيداً علی الضفة، إنه أمله الوحيد، يرفع مور يده ويلوح له بسرعة، لكن هذا الشخص يلوح يده وكأنه يرد السلام. دهشة مور لم تمنعه من أن يلاحظ هذه الشجيرة الصغيرة التي تطل بغصنها الصغير، لم يفت عقله سريع البديهة أن يمسك بهذا الغصن في محاولة يائسة أخيرة.

هكذا تجسد المشهد.. مور ينازع الغرق.. وبعده بمسافة يوجد صبي يلوح بيده في بلاهة نحو مور.. استمر الأمر لعدة ثواني، مور لم يعد يستطع أن يتمسك أكثر من هذا، لقد بدأ الظلام يحل، إن السماء تنادي عليه، إن جسده يضعف.. إنه يتجرع من الماء أكثر من أن تتحمله معدته، يحاول أن يتقيأ الماء لكن قوة اندفاع الماء نحوه تعيد ما حاول أن يُرجعه وتعطيه جرعة إضافية تزيده ألماً.

وفجأة أغمض مور عينيه واستسلم، إن الحكاية الحقيقية ليست حكاية شخص أراد الوصول إلی قمة العالم.. الحكاية الحقيقية هي حكاية شخص أحب المطر، هي حكاية عن الصبي الذي أحب المطر.

**

الحكاية الثالثة

               ما قالته لي العصفورة

حكت لي العصفورة في يومٍ من الأيام.. يومٌ لا أتذكره أبداً، حكت لي عن ذكرياتها مع القرية الصغيرة.. قالت أنها كانت تطير في يوم من شهر فبراير المطير.. ترفرف بصعوبة وسط قطرات المطر، نظرت للأسفل لتری طفل صغير يخرج مسرعاً من باب منزله.. يركض حافي القدمين تحت المطر.

تقول أنها تبعت خطواته المرحة اللعوبة كي تعرف سبب فرحته هذه ، حتی شاهدته يتوقف عند الجدول وينظر نحوه بإعجاب، ثم فجأة وجدته يلوح لشيء بعيد، نظرت لذلك الشيء الذي يلوح له مقتربة منه كي تستوضحه قليلاً.. كان طفلاً آخراً.. لكنه كان في الجدول نفسه.. كان يغرق!

طارت مسرعة نحو الطفل الذي يقف يلوح بيده علی الضفة، أخذت تنقره وتحوم حوله، بني جنسك يغرق يا أحمق ! تحرك وأنقذه. أخذ يبعدها عنه بيده وهو يبتسم إبتسامة حمقاء.

تقول العصفورة أنها طارت بعيداً عنه وذهبت لذلك الطفل الذي ينازع الغرق.. كان يتمسك بشيء ثابت في وسط المياه.. لحظات النزاع الأخيرة.
تقول انها لم تصدق ما رأته حينما رأت الطفل الذي يغرق يغمض عينيه بهدوء.. ثم بعدها بثواني يترك حبل نجاته.. لم يعد قادراً علی المقاومة.

طارت بعيداً وهي تفكر في غرابة ما رأته منذ قليل، إن الأيام تزداد قسوة والناس يزدادون غرابة.

وبينما هي تطير إذ رأت رجلين يحملان رجلاً عنوة.. كان الرجل يصرخ بصوتٍ عالٍ .. “هو يحب المطر! هو يحب المطر! ابني يحب المطر فقط لا غير.. إنه لا يسخر من أحد ! “
ظل الرجل يحاول التملص منهم حتی انزلق علی الطين و وقع علی وجهه..
ذهب الرجلان نحوه وسحباه من يديه سحباً، أخذ الرجل المسكين الذي يتم سحبه يبصق الطين من فمه.. بعد أن انتهی أخذ ينتحب ويبكي متوسلاً بوجه الذي شوهه الطين بالكامل.

أما الناس فكانوا يشاهدون ما يحدث من نوافذهم.. لم يبدُ عليهم التأثر كثيراً، وكأنهم يرون هذا كل يوم.

تقول العصفورة أنها وقتها طارت مبتعدة عن هذه القرية المجنونة.. لقد شاهدت الكثير في فترة حياتها الصغيرة.. الكثير للغاية، لكنها في حياتها لم ترَ شيئاً كهذا.. لم تعتقد أن العالم قد جنونه بهذا الشكل.

طارت مبتعدة وهي تزقزق.. تتمنی أن تمنحهم الحياة بعضاً من السعادة التي يفتقدونها.. أو تزيح عنهم بعض أعباء الحياة التي يكلفون أنفسهم بها كثيراً.
عليهم فقط أن ينتظروا الشمس كل صباح.. عليهم أن يبتسموا أمام المرايا لينظفوا أرواحهم من ذلك اليأس المتأصل بها ، عليهم أن يستشعروا السكينة…. رحمهم الله.
أيا الحياة.. أنتِ وحكاياتك.. رفقاً بنا.

–النهاية

تاريخ النشر : 2018-07-11

البراء

مصر - للتواصل: [email protected] \\ مدونة الكاتب https://baraashafee.blogspot.com/
guest
105 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى