أدب الرعب والعام

تذكرة نحو المجهول

بقلم : هدوء الغدير – العراق

تذكرة نحو المجهول
هل تراجع حفيظ عن ندائه وقرر أن يعيدني من حيث أتيت؟!

– كيف حال صحته يا دكتور ، هل سيمكث كثيراً هنا؟.

-أخشى أن صحته في تدهور مستمر ،على أي حال سنبقيه هنا تحت المراقبة خشية أن يتعرض لنوبات اختناق أشد.

قاطعهم صوت مرتجف ومتعب:

-هاني..ناولني ورقة وقلم..

نظر الدكتور الى طارق العجوز المستلقي على سرير المستشفى وأمارات التعجب بادية على محياه من طلبه الغريب،،قال هاني مفسراً:

– يا دكتور أظن أن والدي مؤخراً بدأ يعاني  من الخرف، فمنذ دخوله عقده السبعين بدأ يتمتم بأمور غير مفهومة أطلاقاً ، يتحدث عن جزيرة وعن أمور غريبة و…

والده مقاطعاً :

-أسرع يا ولدي ما دام الرمق مازال يسري في عروقي، يجب أن أكشف ما أثقل كاهلي منذ سنوات..لا يجب أن يموت السر معي .

– ناوله هاني بسرعة الورقة والقلم وبدأ يخط بأنامله المرتجفة تلك الأسرار  المخفية التي آن أوان كشف الأستار عنها…

*  *  *  *   *

نعم إنه غريب …غريب عالم الأحلام بما يرسله من رسائل خفية من أماكن مجهولة وعوالم أخرى ،عجباً!! ألم يحشروا بأدمغتنا أنه  نسق جديد لما مررت بهِ من أحداث يومية حجمها حاجز الروتين عن إثارة اهتمامي !!!

لم أكن يوماً ممن يلقون بالاً لتلك الأحلام، لطالما تمسكتُ بما هو مادي، ولكن أحياناً تجبرك قوة هائلة على إدارة دفة معتقداتك إلى الجهة المعاكسة، ونبذ ما آمنت به من منطقية في حياتك ، مع تكرار ذلك الحلم الغريب لازلت لا أذكر  متى رأيته أول مرة، فعادةُ لامبالاتي بترهات الأحلام كانت سائدة آنذاك ،لكن أظن أشهراً متوالية مضت وتكرار الحلم سيدُها ، بتلك الأماكن  التي ما وقفت على أطلالها يوماً، وذلك الإحساس الغريب بأنني عاصرت كل ذلك، رذاذ  التراب،الأرض المبتلة بالمياه،القصب والبردي الباسقة برؤوسها في الأهوار ، حرارة الشمس اللاهبة، تلك الحروق الشمسية المنتشرة في جسدي في كل مرة تخترق حاجز الأحلام وتتخذ بُعداً واقعياً ، عندما أستيقظ أجد تلك البقع الحمراء منتشرة في جسدي،ربما سأعتبره مصادفة لكن تكرار نفس الحلم بأدق تفاصيله غريب.. بل غريب جداً،حتى نُسف جدار اللامبلاة الذي تعمدت تشييده كي لا أغرق نفسي بتفاصيل ميتافيزيقية غريبة ..

كانت تلك الشرارة التي أشعلت جذيل صبوتي وشحذت همتي، بل الأنسب نومتني مغناطيسياً وغيبتني عن وعيي ..لا أذكر متى وضبت حقيبتي وكيف قررت السفر أصلا لأجد نفسي أنزل من تلك الحافلة للنقل العام ،تصفعني حرارة تموز الحارقة ورياح السموم ليعيدني إلى وعيي ضجيج نزول الراكبين..

حثثت خطاي على النزول من الحافلة وكأنني قد مررت مسبقاً بهذه المواقف، ابتعدت عن ذلك المكان المزدحم بزعيق السائقين ”حفيظ ….أيشان حفيظ“..عاد ذلك الوسواس بقوة يدق كالمطرقة في رأسي فصممت أذني عن ذلك الفحيح الذي كان أشبه بفحيح الكوبرا، مشيت تلك الشوارع الترابية مجتازاً بيوت القصب المترامية على  الطريق بتباعد حتى شعرت بنداء أقدامي تستغيث بي لأستريح قليلاً، أدرت رأسي يميناً وشمالاً فلاحت لي على مسافة ليست بقريبة سقيفة مصنوعة من  الخوص وعدد من بسيط من الكراسي الجاثمة تحتها ، جررت خطاي المثقلة نحوها وسحبت أحد الكراسي رامياً عليه حقيبتي.. ورميت على الكرسي الآخر ثقل جسدي ’’المجهول يجتذب الضال ’’ عاد الصوت مرة أخرى..

– كفى …..!!

– مابك يا ولدي ما الذي يحدث معك؟!

رفعت بصري فوقع  نظري على رجل بزي ريفي، قصير القامة ببطن منتفخة، يجلس أمامي ويتفرس في وجهي..

– سآتي لك بكأس من الشاي يريح لك عقلك .

لم أنبس ببنت شفة .

– يبدو أنك متعب..من أين اتيت؟!.

لازال الرجل ينظر لي متفحصاً وجهي المرهق،انفرجت شفتاي لتشي بما أداريه في داخلي “أيشان حفيظ” .

استطعت أن أرى الوجوم الذي كسا وجهه وتلكئه في الكلام وهو يتلفت يميناً وشمالاً ليتأكد من خلو المكان من الأذان الملتقطة للكلمات لتصوغها في حكاية وتنشرها في القرية..

– لماذا لا تأتي معي للبيت كي ترتاح، الوقت ظهر الآن وأنت تعلم قيظ تموز في الجنوب..

ربما لا يحتاج المرء لكثير من النباهة ليفطن ما كان يرمي إليه وحالة الارتباك المهيمنة على معالمه ، ونبرة صوته وشت بما يحمله في جعبته من أسرار،وهل كان أمامي خيار سوى التشبث بما رماه حفيظ في طريقي يبدو أنه حلقة الوصل المفقودة في سلسلة الأحلام التي زخرت بها لياليَّ الطويلة…

قادني الرجل معه إلى بيته ، دخلت الديوان كما يطلق عليه في الجنوب، أي غرفة استقبال الضيوف ،أفقت من شرودي على صوت الرجل يزعق بقوة:

– تعال إلى هنا جاسم ،،اصحب عمك ليأخذ حماماً ساخناً وأعدّوا لنا الغداء..

حاولت التملص من عرضه، كل ما أردته  هو أن يزودني بما يحمله من معلومات وأذهب في حال سبيلي نحو المجهول ، دلف ذلك الصغير مجتازاً الغرفة مهرولاً بثيابه الرثة والمتسخة بالطين ، ولم يترك لي خيار سوى الرضوخ لكرم عرضه..

جلست مع أبو جاسم مفترشين الأرض لا يفصلنا عن سخونتها سوى حصير  بسيط ، ولازال  يثرثر بأحاديث جانبية عن خطر جفاف الأهوار وما سيترتب  عليه من عواقب وخيمة،حتى بادرته بسؤال ألجمه عن الكلام:

– ماذا تعرف عن إيشان حفيظ ؟!..

اعتدل في جلسته وخاطب ولده جاسم:

-قم وأجلب لنا بعض الماء .

أدركت أنه على وشك  الخوض في حديث يبدو أنه محرم  التطرق إليه في القرية.

-هل هذا ما أتى بك ؟!

-تستطيع أن تقول ذلك..

–  وما الذي تعرفه عنه حتى تأتي إلى هنا؟.

كانت المرة الأولى و الأخيرة التي أبوح بها بما شاهدته في ذلك الحلم الشيطاني ،كان سؤاله كمشرط شق جوفي ليفرغ ما أثقله وحرم عليه خطفات الوسن..

– كان مجرد حلم رأيته،في أول مرة أغفو أرى نفسي أسير مع والدي على جرف الهور بالقرب من القصب والبردي المطلة برؤوسها من مياه  الهور الضحلة، تكوي وجوهنا حرارة تموز اللاهبة ويصفع وجوهنا رذاذ التراب المحمل برياح السموم، ثم  يتوقف والدي ويحتضنني بشدة ويتركني عند الجرف ويمضي إلى مشحوفه ، يركبه ويجذف مبتعداً وأنا أراقبه من مكاني ،ثم تهيج مياه الهور الضحلة بدوامة ضخمة تلتقمه ثم تعود هادئة كما كانت ، ناديت بأعلى صوتي وأخذت أنشج “أبي” فهمس لي ذلك الفحيح ” إيشان حفيظ ” المجهول يجتذب الضال ” ، أدركت بعد ذلك أني سأجد ضالتي هنا في الأهوار لذا جئت باحثاً عن تفسير لما يحدث لي..

حدثته بكل ما رأيته وأنا أرقب ملامح وجهه المتغيرة كبحيرة تعصف بها رياح كلماتي..

– وهل سمعت عنه شيئاً قبل هذه  الأحلام؟!

-تقصد إيشان حفيظ ؟!

– نعم .

– لا لم أسمع به أطلاقاً..

-أجبته ثم استرسلت :
أنا رجل ترعرعت في بغداد في كنف عائلة ميسورة الحال حتى اليوم الذي فُقد فيه والدي ، لطالما كان يحب زيارة الآثار مع رفاقه ، عاد ذات يوم  من الحرب وقد أكلت نيران الحرب دواخله فعاد معطوباً من الداخل ، كان جسداً بلا روح ، اقترحت عليه والدتي ذات مرة أن يسافر مع رفاقه لأحد المناطق الأثرية علها تفعل مفعولها الساحر في إعادته إلى سابق  عهده، لكن والدي لم يعد إطلاقاً..

راح جدي يسأل رفاقه لكنهم جزموا أنهم افترقوا عنه في محطة ركوب الحافلات عند صعوده الحافلة قاصداً العودة إلى البيت ، مرت الأيام والشهور مثقلة بحمى البحث التي أصابت عائلتنا حتى رسم اليأس خطوطه بداخلنا، فشرع كل منا يجهد بشق طريقه في الحياة ولم تبقَ سوى والدتي تجلس كل يوم تغزل خيوط انتظاره حتى نخر عظامها أمل عودته، وجعلها طريحة الفراش إلى أن توفيت .
فتحت لي الحياة أبوابها لأهرب من فقري المدقع وشظف عيشي، فعملت بأحدى  الشركات الصناعية متناسياً  الماضي , وهذه مرتي الأولى التي أزور فيها  الأهوار ولا أعلم سبب مجيئي أصلاً..

استوى أبو جاسم في جلسته ونظر نحو اللاشيء وقال:

– الرسالة واضحة..لكن يجب ألا يشك أحد بشيء، يبدو  أن المعرفة ستهدم كل شيء وتقطع اتصالك معه،لكن هل تجيد تجذيف المشحوف؟!

استغربت سؤاله فهززت رأسي نافياً .
– سأعلمك عصراً كيفية ذلك فموعد انطلاقك نحو المجهول الليلة، من الجيد أنك وصلت الخميس فكما تقول الروايات أن الضوء ينبعث من إيشان حفيظ ليلة الجمعة عند اكتمال القمر.. جذف في الهور واجعل دليلك الضوء الساطع هي علامة نداء حفيظ لك.

**

حل  العصر بساعات مثقلة خلقت رأسي  آلاف من علامات الاستفهام حول ذلك الكيان المجهول، حاولت جعل أبو جاسم يرضخ لطلبي فلم أفلح سوى بالحصول على معلومات كانت أسئلة أكثر منها أجوبة..

إيشان حفيظ تل يزعم البعض أنها بقايا من حضارات مندثرة لم تترك سطراً يذكر في سجل  التاريخ، ويزعم البعض رؤيتهم لأشخاص بملابس من عصور سحيقة عند ذلك التل وكأنهم يمارسون نشاطاتهم اليومية وقبل أن تعي عقولهم حقيقة ما رأوه يكون كل شيء قد اختفى هذا ما أخبرني به أبو جاسم ..

من هو حفيظ ، هل هو سيد هذه القرية ؟! لمَ يطلبني بالذات ؟! كيف تحكم في أحلامي ؟! كل ذلك كان يدور  في رأسي تمثل بصداع شديد ، و مازال أبو جاسم مستمراً بتقديم نصائحه وتعليمه إياي تجذيف المشحوف حتى دخل الغسق مفترشاً سماء القرية بحلته الدموية وشارفت الشمس على التواري خلف الأفق ..

-حان الوقت الآن..

-لكن إلى أين سأتجه ؟!

-كما أخبرتك دليلك الضوء.. هذه إشارة حفيظ لك.

ركبت المشحوف وبدات أتلوى مع تعرجات الهور شاقاً طريقي بين القصب بالمردي، مضت فترة وأنا أسير نحو اللاشيء، في سكون الليل المهيب تتزاحم الافكار في دوامات لا آخر لها وشيئاً فشيئاً بدأت قواي تضعف وتسرب اليأس إلى نفسي ، عندها استلقيت في المشحوف أرقب صفحة السماء المتلألئة علني أجد نفسي في أحد كوابيسي المعهودة ولكن يأبى الواقع إلا أن يعلن عن حضوره ..

– ما هذا ؟!

قمت فزعاً على صوت صرخة شقت الهدوء وأعقبها نواح طفيف ثم هسهسة بدأت تعلو وكأنها تدخل في رأسي تشنجت عضلات جسدي ” تباً إن ما قاله أبو جاسم حقيقة..”
ــ لا تخشى الصرخات التي تسمعها ستحاول أرواح الأهوار عند إيشان أم حناء إخافتك وإبعادك عن الطريق لكن لن تدوم طويلاً..

استغرق ذلك دقائق فقط ليولد الصمت من جديد محتضناً المكان ومغرقاً إياه في سكينة موحشة،بدأت النسمات ترق وتهب بخفة جعلتني أنسى ما أنا  عليه ،وخالجني شعور جميل كأني أعتلي النسمات وأحلق،أطرقت أجفاني مغمضاً، لكن هذا  الضوء أزعج عيناي ، ما هذا ؟! وضعت يدي على  عيني مخففاً شدة الضوء  ولكن ما الذي أراه ، ضوء يلوح في الأفق  البعيد أبو جاسم محق ثانية في ما قاله علي أن أجذف نحوه ،تصاعدت همتي وتلاشى الخوف المعشش في داخلي وأخيراً سأضع نهاية لهذه القصة أو ربما سيضعها أبو جاسم مخبراً أهل القرية عن رجل دعاه حفيظ ولم يعد من المجهول..

مازلت أجذف لكن هل الضوء يبتعد  أم أنه يلوح من مكانٍ بعيدٍ؟ّ كم من  الوقت يلزم حتى أصل؟!

قطع سيل أفكاري ثورة المياه هل حدث أن رأيت دوامة كبيرة تولد من مياه  الهور  المسالمة؟! هذا  ما حدث.. أشتدت  شراسة المياه وأنا أحاول  التشبث بآخر خيوط النجاة ،لكن بدات الدوامة تسحب القصب والبردي وتشق  وحدة صفوفها على طول الجرف لا أمل لي في النجاة علي أن أستسلم للتيار فقط ،دارت بي الدوامة بقوة وأجتذبتني كقشة صغيرة، أيقنت أن لا مفر والأمر مختوم هنا ،تباً للشياطين التي أتت بي إلى مكان مجهول لتضيع خبر موتي مع الملايين ،ولأغدو لغزاً آخر من ألغاز الأغراب التائهين .
لعنت في سري ذلك الكيان واستمريت بالتشبث مغمضاً عيني حتى تنبهت إلى صوت ارتطام قوي وكأن كل شيء قد هدأ وعاد لسابق عهده وكأنه لم يكن..

كشف لي نور القمر عن ماهية سبب الارتطام للمشحوف ،إنه الجرف!!! هل أعادتني الدوامة إلى اليابسة؟! هل تراجع حفيظ عن ندائه وقرر أن يعيدني من حيث أتيت؟! من المشحوف تحسست  اليابسة في الظلام وهويت بجسدي المنهك على الأرض،وفتحت أجفاني المسدلة بتثاقل…

أقسم أنني رأيت أبي يمسح  على رأسي رغم بصري المشوش لكنه اختفى ما أن اتضحت الرؤية..لا زال الليل مسدلاً أستاره على المكان هل الليل بدا أطول أم أن ما حدث كان كثيراً بالنسبة لليلة واحدة؟!..أظن أن هناك شيئاً غريباً في هذا المكان الرائحة المنبعثة,والأشجار الكثيفة والزروع المنتشرة كأنني ولجت غابات الأمازون هل انتقلت الى بُعد آخر؟!

بدأت أسير بحذر متوجساً وفي غضون فترة يسيرة خبا فيها نور القمر ولملم الليل قطع سواده ليفترش الغبش في السماء تكشفت لي ماهية هذه  الأجسام المتحركة ،أنهم اشخاص بملابس قديمة أظن أنها تعود لعصور قديمة جداً إذن الأمر يحدث حقاً ,أنا على جزيرة حفيظ المجهولة !

اختبأت خلف أحد الأشجار وبدأت أرقب تحركات القوم لم يكن هناك شيء غير طبيعي ، إنهم يقومون بجني الثمار أو حرث الأرض ويتحادثون فيما بينهم بإشارات غريبة، أما النساء وما أدراك ما نساء القرية، لمحت من بعيد حسنهن الخلاب بشعورهن الطويلة وأجسادهن الممشوقة يشاركن الرجال في أعمالهم ويترنمن بأنغام موسيقية ساحرة لكن ..لحظة إنهم لا يجنون الثمار ،أدركت ذلك عندما لاح البريق الذهبي أنهم يستخرجون الذهب إذن إنها مدينة الذهب الضائعة ،’’الضال سيهتدي الى الحقائق’’عاد الفحيح مجدداً حاولت صم أذني لكن لا زال يتردد مخترقاً جمجمتي ،فوقعت مغشياً علي..

**

-لقد أتيت أخيراً،،كنت انتظرك منذ فترة ..

أفقت على هذه الجملة سمعها قلبي قبل أن تسمعها أذني ،دارت في رأسي ذكريات والدي وهو يمسح بحنو على رأسي ..فتحت عيني التي كانت تأبى إلا أن تبقى في ذلك الحلم الرقيق ،،لكن مهلاً هل يمكن للحلم أن يستأنف رغم كون الشخص مستيقظاً ؟!هل مازلت أحلم؟!

-هل أنا أحلم؟..سألته متعجباً ..

-ليس تماما..لكن كلامنا سيطول الآن..

وقف والدي الذي كان يجلس الى جانبي،وأخذ بيدي وبدأنا نتمشى بين الأشجار بظلالها الوارفة.. لم يكن حلماً..
– هل تعلم أين أنت الآن؟!

– جزيرة حفيظ أليس كذلك؟!

-صحيح أنت على جزيرة حفيظ..كبير مردة الجن وحارس كنوز الأرض ..إنه يتحكم بهذه الجزيرة وبما يحدث عليها ،بالطبع تتساءل الآن عن سبب وجودي هنا ؟!

هززت رأسي موافقاً ولم تخفَ على والدي التساؤلات والحيرة البادية على معالمي …

– ربما كنت صغيراً ولا تذكر عودتي من الجيش،عدت إلى البيت وقد أنهكتني المشاهد  المروعة، كنت أموت في كل مرة يموت فيها أحد أصدقائي أو أضطر لقتله استجابة لتوسلاته في إنهاء معاناته ،عندما عدت غادرتني المشاعر والكلمات ولم يبقى سوى جسد صيرته الحروب رماداً ..استجبت لمقترح والدتك بالذهاب مع رفاقي في رحلة إلى الآثار ،،آملاً أن تمنحني أملاً ويعود هذا الرفات إنساناً… غادرت  البيت بعد أن جاء رفاقي
محمد السعدون ومنذر عطوان وأخوه الأصغر عماد،توجهنا إلى آثار الحضر في الموصل قضينا هناك أربعة أيام في التجوال كان كل شيء مثالي . بدأت شيئاً فشيئا أنجرف معهم في الأحاديث وأشاركهم الطرائف وبعدها قررنا العودة لكن اقترح عماد قائلاً :
-لم لا نطيل الرحلة بجعلها جولة  في آثار العراق؟!

سألنا مستفهمين عما يقصده فأجاب:

-أعني لنزر منطقة أخرى، سمعت أن أهوار العراق رائعة وزاخرة بالآثار والأساطير المتناقلة  عبر الأجيال ..

اعترضنا في بادئ الأمر لكن أخيراً وافقنا على الذهاب معه رغم أن الرحلة ستكون شاقة من شمال العراق إلى جنوبه وتقتضي ساعات كثيرة بالحافلة.

وصلنا الى الأهوار بعد ساعات طويلة وكنا أحد السائحين المرحب بهم ،وتعرف محمد على رجل استضافنا في بيته لنقضي وقت الظهيرة  عنده اجتناباً للقيظ الشديد ،خرجنا عصراً نتجول مع دليلنا السياحي الذي كان ذاته الرجل الذي استضافنا ،نظر إلي عماد ولكزني بكوعه غامزاً وهو يخرج قنينة من النبيذ من حقيبته..

-ستكون ليلة ممتعة..

قلت بغضب:
-من أين حصلت عليها؟ألن تمتنع عن هذا السم؟

-لا يهم ، الأهم سنكلل الرحلة بأمسية رائعة ، لا تقلق سنجد مكاناً نحتسي فيه  المشروب ..ثم أخبر محمد ومنذر عن تخطيطه لقضاء الليلة بسهرة على أحد المشاحيف في الأهوار فوافقاه الفكرة ،،لم يجدِ اعتراضي وقعاً لديهم، فكنت مجبراً على الذهاب معهم وأين سأبقى ومن أعرف في هذه القرية لأجالسه..؟

ركبنا  المشحوف الذي استعرناه من دليلنا  السياحي وأكرمناه بالمال حتى وافق على منحنا إياه، ثم غادر وتركنا،ملؤوا كؤوسهم وتعالت أصواتهم بالغناء,بدأت أشعر بصوت خفيف التفت إليهم فوجدتهم لازالوا على حالهم لذا لا طائل من إخبارهم على أي حال لن يستمعوا لي ،وأستمرينا بالتجذيف 
لمحت من بعيد ضوءاً ينبعث ظننت أنه ضوء بيت أو  مسجد أو شيء ما على الجرف لذا قررت التجذيف نحوه معلناً في سري انتهاء سهرتهم ،لكن سرعان ما أفاق الجميع من نشوة سكرتهم على دوامة كبيرة بدأت تجرفنا نحوها حاولنا التشبث لكن لا فائدة ..

-لكن لم يخبرنا محمد ومنذر وعماد عن شيء من هذا..

-بالطبع ما سأخبرك به سيجعلك تعلم سبب إخفائهم لهذه الحقيقة ..

عندما أفقنا وجدنا أنفسنا هنا كما حدث معك  تماماً،رأينا أهل القرية قادمين فاختبأنا خلف الأشجار وبقينا نرقبهم ولاح لنا بريق الذهب فأغرى عماد ومحمد ومنذر بسرقته، ولزمنا أماكننا مأخوذين بما يستخرجه القوم من ذهب وبأجساد فتياتهم وبالطبع لن يجازف أحد منا بالتعرض لهن فنحن لم نعلم بعد ماهية هذه  الأرض ولا هذه الأقوام

انتظرنا إلى أن غادر القوم وتركوا بعض الذهب من الذي استخرجوه على الأرض يبدو أن وقت الضحى لديهم هو وقت الراحة،فتسللنا من مخبئنا على حذر ووصلنا  إلى أكوام  الذهب المنتشرة على الأرض لم تصدق أعيننا ما رأيناه وبدأنا نتلمسه لنرى إن كان ما أمامنا حقيقة وليس خيالا.. أستوقفتنا تلك الأعين الصغيرة لفتاة صغيرة رثة الملابس..

– أرجوكم دعونا وشأننا ولا تسرقوا ما جهدنا من أجله ،،قالتها متلكأة بالكلام.
.
فتوجه إليها عماد عازماً على قتلها حتى لا تخبر البقية وتوجه معه محمد ومنذر لتسهيل الأمر عليه بتكميم فمها ، حاولت إعادتهم إلى رشدهم وثنيهم عن قتل الفتاة فنشب شجار بيني وبينهم أنهاه عماد سريعاً بطعني بسكينه في بطني..

-ماذا ؟! لكن كيف بقيت حياً ؟!وكيف تمكنوا من الفرار؟!

-أخبرتك مسبقا أنك على جزيرة حفيظ ،وهو المتحكم بها لذا لست سوى انعكاس خلقه حفيظ لأروي لك ما حدث حتى ترقد روحي بسلام،أما كيفية  هروبهم بفعلتهم فبعد ما حدث هبت عاصفة هوجاء ابتلعت الجزيرة وأخذتني معها ولفظتهم خارجاً خالِي الوفاض ولم يأخذوا منها شيئاً ..

– لكنهم أخبروا جدي أنك افترقت عنهم عند محطة الحافلات

-وما الذي قد يقولونه غير ذلك؟! هل سيعترفون بجرمهم؟عدا عن هذا  سيتهمون بالجنون ما إن يذكروا وصلوهم للجزيرة المجهولة..

-لكن ما علاقة الأحلام التي شهدتها بكل هذا؟!

-لا بد أن أنتقم منهم حتى أرتاح،وبما أني على هذه الجزيرة لا أستطيع الخروج أجتذبتك بواسطة الأحلام إلى هنا بعد موافقة حفيظ..

ـ وكيف سأفعل ذلك؟!

-لا تقلق لقد أعددت لهذا الأمر ،خذ هذه والعدالة ستسير كما هو مقدر لها .

مد يده وناولني ثلاث أحجار صغيرة  أشبه بالحصاة أخذتها منه وسألته عما سأفعله بها فأخبرني أنه لا بد من إيصالها لمحمد ومنذر وعماد فقط أردت الاستفسار أكثر لكن  الطيف اختفى، وهبت عاصفة شديدة فركضت بين الأشجار إلى المشحوف الذي تركته عند اليابسة، وهاجت المياه المسالمة تارة أخرى ثم هدأت ،أزحت يدي عن عيني ،لقد  عدت إلى مياه الأهوار مجددا لكن هل ما حدث كان حقيقة ؟!..نظرت إلى يدي لا زلت ممسكاً بالحصى إذن فما حدث ليس أحد كوابيسي المقيتة..

**

عدت ناحية الجرف مرة  أخرى وأخذت المشحوف إلى أبو جاسم  الذي رحت أسأل عنه في القرية ويبدو أنه كان معروفاً عندهم ،سألني عما حدث فأخبرته أن الأمر لم يكن سوى مضيعة للوقت ،استشعر أن شيئاً ما حدث لكني جزمت أن الجزيرة وما عليها ليست سوى خرافة ،كنت خائفاً من إخباره  بشيء ربما سيداخله الطمع ويبدأ بالبحث عنها وينتقم مني حفيظ ،أو  ترسل روح والدي إلى الجحيم بسببي لذا طمرت ما حدث في جوفي وعدت أدراجي الى البيت وقد تكشفت لي الحقائق ..

* * * * *

بعد أيام بدأت أفتش عن محمد ومنذر وعماد من خلال أصدقاء والدي القدامى الذين كنت أراهم يزورون جدي للتخفيف عنه وتارة للسؤال عن أحوالنا,حصلت على معلومات كافية  عنهم وعلمت أن محمد أصبح رائداً قي الشرطة ,ومنذر أصبح رئيس فرع في دائرة الزراعة أما عماد فقد أحيل للتقاعد منذ سنين بعد إصابته بجلطة جعلته مقعداً ، زرت محمد ومنذر متحججاً برغبة صديق لي يبحث عن عمل علّهم يساعدونه عن طريق شبكة معارفهم في إيجاد عمل، وتركت حجرين لدى كل منهما من دون أن يلحظا ذلك طبعا,أما عماد فقد زرته بسبب أني أسفت على صديق والدي القديم، لاسيما أنه كان يتردد على منزلنا كثيراً سابقاً يبدو أنه كان يريد الاطمئنان من أن والدي لم يعد بعد ،وفعلت معه  كالآخرين ودسست  الحجر  الأخير في أغراضه..

ترقبت ما يمكن أن يحدث لهم ..

وبعد أسبوعين ذهبت لأتقصى أخبارهم ولقد أذهلني ما سمعت ،أن محمد منذ أيام  لقي حتفه على أيدي  مجهولين ولم يتم  التعرف على هويتهم بعد ،أما منذر فقد شب حريق في بيته مات على إثره أولاده وزوجته وأصيب هو بحروق من الدرجة الثالثة ومات بعد أن بقي خمسة أيام يصارع الآلآم ،ولكن كان أشدهم خاتمة وأسوأهم مآلاً هو عماد لقد أخذ جزاءه بشكل واف,أخبروني أنه أصيب مؤخراً بنوبات غضب شديدة أشبه بالجنون وذات مرة نشب شجار بينه وبين ابنه الأكبر ففقد الابن رباطة جأشه وطعن والده ليرديه قتيلاً ووهو قابع الآن في  السجن ينتظر محاكمته,عندها أدركت  أن روح والدي حل عليها السلام..

*  *  *  *  *

انتابته نوبة اختناق حادة ،يبدو أن براثن الموت دنت منه وقريباً ستنشب أظفارها به وتطوي صفحته.

إن كتم السر جحيم وإفشاءه مميت هذا ما أدركه عندها.

تــمــت

ملاحظة :
إيشان : مفردة عراقية قديمة وتعني تل ترابي وسط الماء.
إيشان أم حناء : كانت في السابق أرض ترابية يحيط بها الماء وتحديدا كانت مقبرة.
المشحوف : قارب صغير يستخدم كوسيلة نقل في أهوار العراق.
المردي : مجداف بشكل عصا طويلة يستخدم في تحريك القوارب الصغيرة كالمشاحيف.

تاريخ النشر : 2018-07-15

guest
59 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى