منوعات

"تعددت الاسباب" : الثور البرونزي

بقلم : اياد العطار
للتواصل : [email protected]
هناك انابيب داخل الثور لنقل الصوت واخراج الدخان
على مر العصور تفتق عقل الانسان عن اختراعات وابتكارات لا تعد ولا تحصى ، وما حياتنا الحديثة بكل رفاهيتها ورونقها إلا نتاج لذلك التراكم المثمر لمخرجات العقل البشري  , ولحسن الحظ كانت معظم الابتكارات مسخرة لصالح وخير البشرية ، ما عدا نسبة ضئيلة ارتأى اصحابها أن يوظفوها لأغراض ومقاصد شريرة ، تماما كما فعل بطل قصتنا السيد بريلوس ، الذي عاش في بلاد اليونان القديمة ، وأشتهر بأنه الاستاذ الاكثر حرفية في أثينا بمجال العمل على مادة البرونز.

يوما ما خطرت على بال بريلوس فكرة جهنمية لصناعة جهاز رهيب لا مثيل له في عموم بلاد الأغريق والعالم القديم .. محمصة بشرية! ، عبارة عن ثور مجوف مصنوع بالكامل من البرونز ، له باب جانبي لادخال المحكوم عليه إلى داخل الثور ، ثم يغلق الباب وتوقد النار تحت الثور ، وتبدأ حفلة الشواء بالنسبة للمسكين المحبوس في الداخل ، فيظل يتقلب ويتلوى ويصرخ على الصفيح الساخن حتى يفارق الحياة. ومن أجل بث المزيد من الرعب ابتكر بريلوس نظام انابيب يعمل على نقل صراخ المعذب إلى الخارج على شكل خوار ، وهناك أيضا انابيب تعمل على سحب دخان الشواء واخراجه عن طريق انف الثور. وكانت النار تبقى مشتعلة تحت الثور حتى يصبح لونه أحمر كالجمر ويتفحم المعذب فلا يتبقى من جسده سوى العظام.

"تعددت الاسباب" : الثور البرونزي
محمصة بشرية على شكل ثور

بريلوس قرر أن يهدي ابتكاره الرهيب إلى طاغية في جزيرة صقلية يدعى فلاريس ، وبطبيعة الحال فقد توقع بريلوس أن يحصل على جائزة مجزية مقابل اختراعه الفريد ، وفعلا فقد اعجب الطاغية أيما اعجاب بهذا الثور البرونزي الذي له خوار وينفث الدخان .. لكنه أراد تجربته أولا ليرى أن كان عمله مطابقا للوصف الذي قدمه بريلوس.

والمفارقة هنا أن الطاغية الشرير قرر أن يكون الضحية الأولى لهذا الثور البرونزي هو المخترع نفسه .. أي بريلوس .. ولم تنفع توسلات وتضرعات هذا الاخير في ثني فلاريس عن قراره ، وهكذا تم وضعه داخل الثور وشويه بالكامل حتى لم يتبق منه سوى العظام .. وبهذا فقد انطبق عليه المثل القائل : “من حفر حفرة لاخيه وقع فيها” ..

بحسب المؤرخين فأن الثور البرونزي بقي قيد الاستعمال لعدة قرون في بلاد الأغريق ، ولاحقا استخدمه الرومان أيضا لتعذيب وقتل الاشخاص المغضوب عليهم من قبل الامبراطور ، ويقال بأنه استعمل في تعذيب المسيحيين الاوائل في روما.

بيد أن بعض الباحثين يشككون في حقيقة قصة الثور البرونزي ويعتبرونها أقرب إلى الأسطورة منها إلى الحقيقة ، فيما أجدها أنا قريبة جدا من قصة الصنم مولوخ الذي قيل بأن سكان بلاد الشام القدماء عبدوه ، وقد كتبت عن ذلك بالتفصيل في مقالي عن البستان البوهيمي ، وأقتبس هنا مما كتبته التالي :

 

"تعددت الاسباب" : الثور البرونزي
الصنم مولوخ

” وعلى ما يبدو فأن مولوخ كان نوعا من الأرباب ذات الطبيعة الشريرة , ربما كان ربا للتطهير والتكفير عن الذنوب , ولهذا كان الناس يقدمون له أطفالهم كقرابين لكي يدفعوا الشرور ويتطهروا من الذنوب . كان الصنم على هيئة إنسان برأس ثور , وهو مصنوع من المعدن , ربما من النحاس , يظهر جالسا على عرشه وهو يمد يديه كأنما يستعد لاستلام شيء ما , وكان الكهنة يضرمون النار تحت كفيه حتى تصبح حمراوتان كالجمر , ثم يأتي والد الطفل الضحية فيضع أبنه بين راحتي الصنم فيحترق الطفل حتى الموت .

بعض المصادر الإغريقية تزعم بأن الصنم كان على طبقات , كل طبقة يتم وضع صنف معين من القرابين داخلها , يعني في الطابق الأول توضع الحيوانات , في الثاني توضع الفواكه والخضروات , في الثالث يوضع الأطفال وهكذا .. ثم يتم تسخين الصنم حتى يغدو لونه أحمر كالجمر فتحترق وتتفحم القرابين داخله , وقد زعموا بأن الصنم يبدأ بالضحك والقهقهة عند إشعال النار فيه . وكان على أم الطفل أن تقف وتشاهد وتستمع لعذابات ونحيب طفلها وهو يشوى حيا داخل الصنم من دون أن تذرف دمعة واحدة , لأنها لو بكت فأن قربانها لن يقبل .

………….. الغريب في كل ما ذكرناه أعلاه هو أن الفينيقيين والكنعانيين أنفسهم سكتوا تماما عن ذكر مولوخ في مصادرهم , لم يتحدثوا أبدا عن أله يقدمون له أطفالهم حرقا ! . ولم يتم العثور أبدا على أي صنم لمولوخ في الخرائب والآثار المنتشرة في طول وعرض بلاد الشام , باستثناء بعض الأدلة الغير قاطعة التي تم العثور عليها في معبد عموني وتشير على ما يبدو إلى التضحية بالأطفال حرقا .

في الواقع كل ما لدينا من قصص عن مولوخ مصدره أعداء الفينيقيين والكنعانيين”.

 

لكن إذا كانت الشكوك تحوم حول قصة الثور البرونزي والصنم مولوخ ، فأن هناك قصة أخرى مؤكدة الحدوث في تاريخنا العربي في ذات المعنى تقريبا ، وبطلها يدعى ابن الزيات ، وكان شاعرا مفوها وكاتبا من بلغاء العصر العباسي ، استوزره الخليفة المعتصم ، ومن بعده الخليفة الواثق بالله.

كان الزيات قد خطط وعمل على أن يورث الخلافة إلى ابن الواثق من بعده ، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ، وذهبت الخلافة إلى اخو الواثق ، أي المتوكل بالله ، وكان هذا الأخير ناقما بشدة على الزيات لأنه أراد إبعاد الخلاقة عنه ، فقرر أن ينكبه ، وقام بمصادرة امواله وحبسه ، وعذبه بألون العذاب ، منها ما ذكره الطبري :

” ثم أمر بتنور من خشب فيه مسامير حديد قيام … قالا: هو أول من أمر بعمل ذلك (أي ابن الزيات)، فعذب به ابن أسباط المصري حتى استخرج منه جميع ما عنده، ثم ابتلي به فعذب به أياما.

فذكر عن الدنداني الموكل بعذابه أنه قال: كنت أخرج وأقفل الباب عليه، فيمد يديه إلى السماء جميعا حتى يدق موضع كتفيه، ثم يدخل التنور فيجلس، والتنور فيه مسامير حديد وفي وسطه خشبة معترضة، يجلس عليها المعذب، إذا أراد أن يستريح، فيجلس على الخشبة ساعة، ثم يجيء الموكل به، فإذا هو سمع صوت الباب يفتح قام قائما كما كان، ثم شددوا عليه.

قال المعذب له: خاتلته يوما، واريته انى اقفلت الباب ولم أقفله، إنما أغلقته بالقفل، ثم مكثت قليلا، ثم دفعت الباب غفلة، فإذا هو قاعد في التنور على الخشبة، فقلت: أراك تعمل هذا العمل! فكنت إذا خرجت بعد ذلك شددت خناقه، فكان لا يقدر على القعود، واستللت الخشبة حتى كانت تكون بين رجليه، فما مكث بعد ذلك إلا أياما حتى مات”.

المفارقة هنا ، هي أنه كما في قصة الثور البرونزي ، فأن ابن الزيات كان هو من مخترع هذا التنور لتعذيب الناس ، فإذا بالأيام تدور وينتهى هو نفسه إلى داخله! ..

المصادر :

–  Brazen bull – Wikipedia

7 inventors killed by their inventions

تاريخ الطبري تاريخ الرسل والملوك وصلة تاريخ الطبري

البستان البوهيمي والصنم الذي يلتهم الأطفال

تاريخ النشر : 2018-10-22

guest
30 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى