قتلة و مجرمون

"تيد باندي" … السفاح الوسيم

بقلم : صبا – مصر

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
 

اعتدنا جميعاً و منذ نعومة أظفارنا على أنّ الشر قبيح، و يصبغ بقبحه سنح مرتكبيه فتبدو ملامحهم مخيفة و بشعة “تنم عن غضب الله ” عليهم، و أنّ الجميل خيّر بطبعه، فمن منّا لم يشاهد أو يقرأ في طفولته قصص الأميرات الحسنوات الطيبات اللاتي يعشن في سعادة إلى الأبد مع أمراءهن الوسيمين بعد القضاء على الساحرات البشعات صاحبات الوجوه المشوهة و القلوب الحاقدة .

و هكذا جُبلنا على الاعتقاد الأعمى بأنّ كل جميل طيب، و كلّ مختلف عن مقاييسنا الجمالية (أنا في الحقيقة أرفض استعمال كلمة قبيح تلك لأنني أؤمن أن لا وجود حقاً لهذه المعايير السخيفة لتصنيف البشر وفق اللون أو حجم العيون أو الأنوف) هو بالضرورة شيطاني ملعون.

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
ملامحه لا توحي بأنه سفاح و قاتل !

و لعلّ السيد “تيد باندي” كان خير مثال عن سخافة هذا الاعتقاد السائد.. فلما قمت بعرض صورة الفتى على بعض المحيطين بي متسائلة عن هويته و رأيهم فيه، سارع الجميع من الإناث و الذكور ممن لا يعرفونه إلى القول بأنه ربما نجم سينمائي، أو موسيقي أو ربما طبيب ناجح أو محام مخضرم و لكن من أطرف الاقتراحات كان قول صديقة لي بأنه ناشط في حقوق الإنسان..!

حسناً ربمّا قد يكون كذلك ..و لكن في عالم موازٍ من عوالم القصص الخيالية ذات النهايات السعيدة، أمّا في عالمنا الواقعي، فإنّ الفتى الوسيم “تيد باندي” يشغل مقعداً متقدماً في ترتيب القتلة المتسلسلين الأكثر شراسة و سادية في تاريخ عالم الجريمة في الولايات المتحدة و في العالم.

تيد باندي : حياة حافلة بالأسرار

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
تيد باندي في طفولته

ولد “ثيودور روبرت باندي” في 24 نوفمبر سنة 1946، كثمرة علاقة آثمة بين والدته الشابة “لويز كويل” ذات 22 ربيعاً و رجل ظلت هويته الحقيقية لغزاً غامضاً حيث ذكرت الفتاة أسماء كثيرة لرجال تظن بأن أحدهم هو الأب البيولوجي لطفلها، مما تسبب في إلحاق العار بعائلتها المتدينة، فما كان من والديها إلا أن تبنيا الطفل درءاً للفضيحة.. فكبر “تيد” ظاناً بأن جدته و جده هما أبواه و أن أمه “لويز” هي شقيقته الكبرى.
لم يتكبد بعض أفراد العائلة و المقربين من آل “كويل” عناء إخفاء شكوكهم بأنّ والد “تيد” ليس سوى جده “سامويل كويل” الذي كان رجلاً عنيفاً و قاسياً و يعاني من إضطرابات سلوكية شديدة رغم تظاهره بالورع .

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
لويز باندي في شبابها و كهولتها

سنة 1951، تزوجت لويز رجلاً يدعى “جوني باندي” و وافق على أن يمنح الصغير “تيد” إسمه، و هكذا اكتسب “ثيودور روبرت” كنيته التي سيعرف بها فيما بعد ، و إن كانت علاقته بـ “جوني” سيئة فـ”تيد” يظن بأن زوج شقيقته “لويز” رجل بليد الفكر و ضيق الأفق و عديم الطموح.. بينما كان يكن احتراما كبيراً لوالده (جده) “سامويل كويل” و يعتبره رمز الرجل القوي و المثابر .

كان الفتى ذكياً جداً ، سريع البديهة و منذ نعومة أظفاره تفوق على من هم في سنه و أكبر منه في اكتساب المهارات وفي التحصيل الدراسي مما جعله محط إعجاب الجميع ، و قد تخرج من المدرسة الثانوية سنة 1965 ليلتحق بجامعة واشنطن حيث زاول دراسة اللغة الصينية و لكنه غادر مقاعد الدراسة بعد سنتين فقط و التحق كمتطوع في حملة “نيلسن روكفيلر” للانتخابات الرئاسية الأمريكية ، مما دفع صديقته إلى هجره بسبب عدم قدرته على الالتزام بالدراسة أو بعلاقتهما، فكانت هذه أولى صدمات “باندي” و تلتها صدمة أكبر عندما اكتشف حقيقة والديه سنة 1969 مما ولد عنده غضباً عارماً و عمّق كرهه و احتقاره لأمه الحقيقية “لويز” و من ورائها جميع النساء.

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
نجح باندي في ميدان القانون و العمل السياسي

عاد “تيد” إلى مقاعد الدراسة و اختار هاته المرة “علم النفس” و ما إن تحصل على شهادته حتى تطوع في الحملة الانتخابية لـ “دانيال.ج. ايفانز”، حيث لم يخفي الفتى طموحه المهووس بالعمل السياسي و كان يحلم بأن يكون له شأن كبير في مجلس الشيوخ الأمريكي و ربما البيت الأبيض.. و بعد فوز “ايفانز” كوفئ “باندي” بأن قبل في كلية الحقوق في “أتوا” رغم فشله في متحان الالتحاق الإجباري! و نجح الشاب في الالتزام بدراسته في ميدان القانون و العمل السياسي و بدأ يهتم بشكله ليصبح الرجل الوسيم و الناجح مطمع الفتيات ، و قد خاض علاقات متعددة باءت كلها بالفشل بسبب مشاكله النفسية التي كانت تطفو على السطح أحياناً ، كعدم قدرته على التحكم في غضبه و عنفه و ممارساته الجنسية المريضة، و لعل السبب الأهم أن “باندي” وجد هواية جديدة.. القتل !!

اختفاءات غامضة …

صبيحة الأول من فبراير سنة 1974 ، استيقظت زميلة “ليندا هيلي” طالبة القانون في جامعة واشنطن و مقدمة أخبار الطقس في الإذاعة المحلية على صوت المنبه المزعج الذي واصل الرنين على غير العادة ، فاتجهت إلى غرفة زميلتها لتوقظها، و لكنها لم تجدها .. و كان السرير مرتباً ، فاستنتجت أنّ “ليندا” قضت ليلتها في الخارج.

و لكن اتصالاً هاتفياً من مدير “ليندا” في العمل يتساءل عن سبب غيابها غير المبرر، ثم اتصال في وقت متأخر من اليوم من عائلة “ليندا”، جعل صديقتها توقن بأنّ مكروها ما قد حصل لها، فاتصلت بالشرطة.

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
ليندا هيلي

عند فحص الغرفة من قبل رجال الشرطة، كان كل شيء يبدو عادياً في البداية ، و لكنهم تفاجؤوا بغياب بعض أغطية السرير، و بالتدقيق في بقية الملاءات اكتشفوا وجود قطرات صغيرة من الدّم و بدا بأنها حديثة .. فعلم المحققون بأنهم قد يكونون أمام قضية اختطاف أو ربما قتل حتى، إذ توصلوا كاستنتاج أولي إلى أن شخصاً ما قد تسلل إلى غرفة “ليندا” ذات 21 ربيعاً , و فاجأها و هي نائمة بضربة من أداة ما، ثم قام بلفها في أغطية السرير و غادر

و إن بدا الأمر مستحيلاً بالنسبة لبعض المحققين إذ كيف لغريب أن يتسلل و يقوم بعمل مماثل دون أن تنتبه زميلتها “ليندا” لما يحصل، كما أن الفترة الزمنية التي استغرقتها العملية وجيزة جدّا (فـ “ليندا” عادت من الحانة قبل الفجر، و من عادتها تعديل منبهها على الساعة الخامسة صباحاً) هذا إذا ما أضفنا غياب أي دليل من شأنه مساعدة المحققين على معرفة حقيقة ما حدث سوى بضع قطرات من دم الضحية !!

تواصل اختفاء فتيات المهاجع الجامعية الغامض، ففي 12 مارس من سنة 1974، اختفت فتاة ثانية لم تتجاوز التاسعة عشرة من عمرها و تدعى “دونا جيل مانسون” و هي طالبة في جامعة “إيفر جرين” في مدينة “ألومبيا” التي تبعد حوالي 97 كم جنوب غرب “سياتل” و كانت الفتاة قد غادرت المسكن الجماعي لحضور حفلة جاز بالمركب الجامعي، و لكنها لم تشاهد بعد ذلك.
و تكرر السيناريو الغامض مجدداً في 17 أبريل من نفس السنة، مع “سوزان رانكورت” ذات 18 ربيعاً ، و التي اختفت بعد ذهابها لحضور فلم بالسينما بـ “إلنسبورغ” و التي تبعد 180كم جنوب شرق “سياتل”.
كما شهد يوم السادس من مايو، اختفاء “روبرتا باركس” التي لم تتجاوز الـ 22 من عمرها في ظروف مماثلة في “كورفاليس”، أمّا شهر يونيو فقد شهد ارتفاعاً في عدد الضحايا ..إذ استفتح المجرم الغامض شهر يونيو باختطاف “بريندا بال” و بعدها بـ 10 أيام فقط، اختفت “جيوركان هاوكنز”.

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
ضحايا السفاح تيد باندي

ارتفاع عدد الضحايا في هذا الشهر، زاد من مستوى الذعر في صفوف المحققين ، فتضاعف عدد أفراد فرق التحقيق و كثفوا مساعيهم ، خاصة و قد بدأت حقيقة وجود قاتل متسلسل طليق في الأرجاء تلوح في الأفق و تقض مضاجعهم..
و لكن و لأوّل مرّة منذ بدء التحقيقات، ظهر عدد من الشهود و بلغ عددهم الثمانية، تزامن تواجدهم في مواقع الجريمة مع اختطاف كل من “بريندا بال” و “جيوركان هاوكنز” أكدوا جميعهم بأنهم رأوا شاباً وسيماً ذو شعر بني على الشاطئ رفقة الضحيتين و كان يضع جبيرة على يده اليمنى و يطلب المساعدة من الفتيات لإنزال قاربه الشراعي من سيارته ال”فولزفاغن” بيتل.. بل إنّ خمسة من بينهن قد ذكرن أن الشاب طلب مساعدتهن قائلاً بأن إسمه “تيد” و أشرن بأن لكنته كانت غريبة كندية أو بريطانية ربما ، و بأنهن رفضن المساعدة خاصة عندما اكتشفن أن السيارة لا تحتوي مركباً شراعياً رغم زعمه بأنه وضعه بعيداً قليلاً عن مكان ركن السيارة.

كما قال عدد جديد من الشهود بأنهم شاهدوا المشتبه فيه يرافق كلا من “جانيس أوت” و “دنيس ناسلند” اللتان اختفتا في نفس اليوم أي 14 من يوليو سنة 1974.

و أخيراً بدا و كأن أيام حرية المجرم الغامض قد باتت معدودة، فقد عممت الشرطة أوصافه التي تحصلت عليها من الشهود في كل الصحف المحلية و قنوات التلفاز..
أثارت صورة المشتبه به شكوك كل من صديقة “باندي” الحميمة أنذاك “إليزابت كاندل” (إسم مستعار) و زميلته في العمل “آن رول” فإتصلتا و أبلغتا المحققين عنه، و لكن لحسن حظه كانت الشرطة منهكة من عدد البلاغات الضخم الذي يصلها كل يوم، و التي تكون في معظمها بلاغات كاذبة أو كيدية، فلم تلقي بالاً لبلاغي “رول” أو “كاندل” نظراً لأنّ “باندي” طالب حقوق ذو سجل ناصع…لا غبار عليه!!

بلغت حصيلة ضحايا الاختطاف في “سياتل” الثمانية، كلهن كنّ فتيات شابات جامعيات، و لكن المحققين وقفوا على نقاط تشابه غريبة تجمعهن بشكل ملفت، فكلهن كن طالبات جامعة ، تراوحت أعمارهن بين 18 و 22 سنة، بيضوات، نحيفات و شقروات أو من ذوات الشعر الفاتح اللون، غير مرتبطات و جميعهن اختفين ليلاً .
فلم يعد هناك مجال للشك لدى رجال الشرطة المحلية بأنهم أمام جرائم قتل متسلسلة مرتكبها رجل واحد .. “تيد” الغامض

المثير للحيرة أن “باندي” كان في هاته الفترة بالذات يعمل في قسم الخدمات التابع لولاية واشنطن و الذي كان جزء من الفرق المهتمة بعمليات الاختفاء المريبة لهؤلاء النسوة !!!
و فجأة، توقفت حالات اختفاء فتيات “سياتل” دون العثور على خيط يدل المحققين إلى المجرم أو حتى مشبه به، و دون ظهور أية أدلة عن مصير المختفيات ، إلى أن عُثر يوم السابع من سبتمبر و على بعد ميل واحد من منتزه المدينة عن جثتي كل من “جانيس أوت” و “دينيس ناسلند” أو بالأحرى ما بقي منهما، كما عثر بنفس الموقع على عظمة فخذ و بعض الفقرات المجهولة..

اكتشاف لم يعد بفائدة تذكر، بل زاد من حالة الرعب و العجز التي عانتها وحدة التحقيقات التي وصلت إلى طريق مسدود.
و لكن في المقابل أفاقت مدينة “سالت لايك” بـ “أوتا” يوم 2 من أكتوبر عام 1974 على أول كوابيسها المرعبة باختفاء الصبية “نانسي ويلكوكس” التي لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها.. اختفاءها الغامض كان فاتحة لسلسلة من حوادث مماثلة ذهبت ضحيتها ثلاث فتيات أخريات كلهن كن بالسابعة عشرة، من ضمنهن “مليسا سميث” ابنة رئيس شرطة “ميدفيل” و بالرغم من الغضب العارم الذي تملكهم لاستهداف عائلة زميلهم “سميث” في سابقة هي الأولى من نوعها منذ انتشار حوادث الاختطاف، وقف رجال الشرطة عاجزين عن حل لغز الاختفاءات المحير.

يوم الثامن من نوفمبر، تاريخ اختفاء آخر ضحية ظهرت فتاة تدعى “كارول دارونش”، أبلغت رجال الشرطة بأنها بالكاد استطاعت النفاد بجلدها من رجل أمن يدعى “روزلاند”، طلب منها مرافقته إلى مقر شرطة “مراي” لتسجيل بعض المحاضر بعد أن ادعى بأن هناك من كان يحاول سرقة سيارتها.. إلا أنه فاجأها بتقييد إحدى يديها بقيود حديدية و لكنه لحسن حظها أخطأ اليد الأخرى، مما مكنها من فتح باب السيارة و الهروب. 

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
كارول دارونش

بحروف متلعثمة و صوت مرتعش من هول ما مرت به، أدلت “كارول” بمواصفات رجل الأمن الذي استهدفها و سيارته، و في ظل عدم وجود فرد من قسم “مراي” بإسم “روزلاند”، سارع رجال الشرطة إلى مكان الواقعة و قاموا بتطويقه و الانتشار في الأرجاء بحثاً عن الجاني و لكن دون جدوى، لقد اختفى و كأنه شبح ما .

كل ما توصل إليه المحققون بعد أيام من البحث المتواصل كان بضعة قطرات من دمّ “روزلاند” المزعوم على معطف “كارول” حيث يبدو بأن الفتاة و أثناء استماتتها للنجاة بنفسها قامت بجرحه، و بعرضها على مختصي الطب الشرعي توصل هؤلاء إلى أن زمرة دم المعتدي هي O+.
و بذلك يكون “روزلاند” واحدا من بين ال30% من الشعب الأمريكي الحامل لهاته الزمرة و إن تحدثنا عن “أوتا” التي تضم أنذاك قرابة المليون و 200 ألف ساكن، فهذا يعني 360 ألف مشتبه به… إنه الجنون بعينه..

لم يدم الهدوء طويلاً إذ شهدت ليلة الثاني عشر من يناير من سنه 1975، اختفاء “كارين كامبيل” الممرضة ذات الـ 23 عاماً أثناء قضائها عطلتها رفقة خطيبها و طفليه من زواج سابق، في فندق في منطقة “أسبن” في كولورادو ..
و رغم اتصال الخطيب بالشرطة، إلا أنهم لم يعثروا لها على أثر، حتى أُكتشفت جثتها العارية صدفة من قبل بعض المتزلجين مدفونة في الثلج بعد شهر من الحادثة.
و كانت تحمل آثار ضربة عنيفة على مستوى الرأس، و لكن نظراً لمواصفات الضحية المختلفة نسبياً عن بقية ضحايا الاختطاف السابقة، و لحدوث الجريمة في ولاية كولورادو صنفت بأنها حادثة منفردة ضد مجهول!..

الوقوع في قبضة الشرطة و محاولات الهروب

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
تم اعتقاله للمرة الأولى في عام 1975

عندما اعتقد “تيد” جازماً بأنه قد أفلت من قبضة العدالة، وقع ما لم يكن في الحسبان..إذ اعتقل في السادس عشر من أغسطس سنة 1975، لعدم امتثاله لأوامر الشرطة بالتوقف، و عند تفتيش سيارته، عثر على قناع، و عتلة، و أصفاد معدنية بالإضافة إلى معدات تزلج و تذكرة لدخول حلبة التزلج بنفس المنتجع الذي وجدت فيه جثة “كارين كامبل”، مما دفع الشرطة إلى اعتقاله و استجوابه.

و في الأثناء، تم تفتيش منزله و العثور على ملابس شرطة رسمية مطابقة لتلك التي كان يرتديها الشرطي “روزلاند” المزعوم و مزيداً من الحبال و الأصفاد و الأشرطة اللاصقة، فاستطاع المحقق “جيري طمسون” المسؤول عن القضية الربط بين ما وجدوه في سيارة “باندي” الفولزفاجن بيتل و التي تتطابق أوصافها مع ما أدلى به الشهود في قضايا اختفاء لنساء سابقاً في كل من “أوتا” و “سياتل” و موجة الاختطافات الغامضة… و لكن القضية الوحيدة المكتملة الأركان كانت محاولة اختطاف “دارونش” و التي حكم علي “تيد” فيها بـ 15 سنة في سجن “أوتاه” .

و لكنها ليست سوى البداية، فسلطات الادعاء في ولاية كولورادو كانت تسابق الوقت لاستكمال ملف قضية قتل الممرضة “كارين كامبل” لتقديمه للقضاء ، و قد كان لها ما أرادت ، ففي شهر أكتوبر 1976 ، اكتملت أركان القضية و تم توجيه الاتهام رسمياً إلى “تيد باندي” بجريمة خطف و اغتصاب و قتل “كامبل” و تقررت محاكمته في “أسبين” في شهر يناير من العام 1977 .

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
قرر باندي أن يتولى الدفاع عن نفسه في المحكمة

و خلال أولى جلسات الاستماع، قرر “باندي” بأن يتخلى عن حقه في توكيل محام يدافع عنه و استغل قانوناً يمكنه من الدفاع عن نفسه ليتمكن من الولوج إلى مكتبة القصر العدلي بولاية كولورادو بحجة تحضير مرافعة الدفاع و لكن في الحقيقة كان “باندي” يخطط للهرب و هو ما أقدم عليه في السابع من يونيو 1977، حيث غافل الحراس المكلفين به و قفز من نافذة الدور الثاني و اتجه نحو الجبال، حيث سرق بعض الطعام و الملابس و سلاح ناري من أحد المنازل المنعزلة قبل أن يقبض عليه بعد أسبوع من هربه و يعود إلى زنزانته في السجن.

ليعاود الكرة بعد ستة أشهر، و يهرب على طريقة فيلم ” the shawshank redemption” الشهير و ينجح هاته المرة (حسناً قد يكون مجرمنا الوسيم مصدر إلهام “ستيفن كينج” في قصته الأسطورية “الهروب من شاوشينك)، و سيكون هروبه هذا هفوة كبيرة من سلطات السجن ستدفع ثمنها فتيات ٱخريات ستقعن بين براثن السفاح الوسيم الذي خرج أكثر تعطشاً للقتل و الدماء !

لقد تلافى “تيد باندي” هفوات المحاولة الأولى، فغادر ولاية كولورادو بأسرع ما يمكنه متوجهاً إلى ولاية فلوريدا، حيث انتحل شخصية “كريس هايجن” و تسوغ غرفة في مهجع خاص بالقرب من جامعة فلوريدا ليكون قريباً من صيده الثمين، متنظراً الفرصة المواتية للانقضاض على أكبر عدد من ضحاياه الحسنوات الجامعيات الشابات.

لم يطل انتظاره كثيراً ، فبعد أسبوع واحد فقط، اقتحم “باندي” ليلة 14 يناير 1978 أخوية “تشي اوميجا” و قتل فتاتين و تسبب بإصابات خطرة لفتاتين أخريين و كأن حصيلة تلك الليلة المرعبة لم ترضِ السفاح المجنون، فقرر أن يتسلل إلى شقة “شيرلي توماس” و يهاجمها مسبباً لها خمس كسور بالجمجمة و كسر بالفك و خلعاً بالكتف بعد أن استماتت الفتاة في الدافاع عن نفسها.

ترك مجرمنا وراءه تلك الليلة بعضاً من سائله المنوي و عدد من شعيراته في مسرح الجريمة فيما قامت “ليزا ليفي” إحدى قتلاه في تلك الليلة المشؤومة بعضه مخلفة جرحاً عميقاً ، سيكون أحد أهم أدلة إدانته فيما بعد.

آخر ضحايا الوحش الوسيم كانت الفتاة “كمبرلي ليش” التي لم يتجاوز عمرها عند وفاتها 12 عاماً ، و وجدت بقاياها المتعفنة قرب نهر “سواني” بعد أن اختفت في الثاني من فبراير 1978.

تيد باندي و محاكمة القرن

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
تم بث محاكمته على التلفاز الوطني في أمريكا مباشرة..

انتهت مغامرة “باندي” المرعبة في فلوريدا في 15 من فبراير 1978 عندما قبض عليه شرطي مرور، لهروبه من دورية على الطريق السريع كما حصل معه في المرة السابقة ! و لم يكن الشرطي يعلم و هو يقتاده إلى مركز الشرطة بأنه قد ألقى القبض على أخطر مطلوب للشرطة الفيدرالية و أحد أعتى السفاحين في الولايات المتحدة الأمريكية بل و في العالم .
و كما كانت جرائمه مدوية و شغلت الرأي العام لسنوات طويلة، فإن محاكمته كانت أسطورة عدلية لم ترَ لها أروقة المحاكم مثيلاً من قبل ..

حيث حازت اهتماماً شعبياً غير مسبوق ، مما جعلها أول محاكمة يبثها التلفاز الوطني في أمريكا مباشرة.. و أصبح السفاح الوسيم ذو الكاريزما الساحرة و الابتسامة الواثقة حديث الساعة، و احتلت صوره الصفحات الأولى للمجلات و الجرائد و عناوين الأخبار..و تأثر عدد كبير من الناس بكلمات “باندي” المنمقة المنتقاة بعناية و بثقافته الواسعة و حضوره الطاغي حتى نسووا أو كادوا ما فعله ، و طالب عدد لابأس به خاصة من الفتيات المراهقات بالتخفيف قدر الإمكان من عقوبته نظراً لظرفه القاسي و طفولته الصعبة !
 

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
أصبح باندي وجها إعلاميا بارزا و نشرت عدة كتب تروي سيرته

طبعا لم يفوت “باندي” الفرصة ليرضي غروره ، و لم يقبل بأن يخرج من الباب الخلفي ، فأصر على تمثيل نفسه على منصة الدفاع ، في ثلاث محاكمات متتالية في ما عرفت فيما بعد ب”ثلاثية باندي” : جرائم قتل فلوريدا و اقتحام “تشي اوميجا” ، و جريمة قتل “كيمبرلي ليش” و أخيراً جرائم قتل “كولورادو” و التي نال فيها ثلاثة أحكام إعدام بالكرسي الكهربائي.

و إن كان “تيد باندي” قد فشل في مهمته كمحام فإنه بالتأكيد قد نجح في أن يتحول إلى وجه “إعلامي شهير” حيث كان بطل سلسلة من الحوارات الصحافية و التلفزيونية مع كل من “ستيفن ميشو” و “هيوج انيسوورث” و التي اعترف فيها بتفاصيل مرعبة لثلاثين جريمة قتل ارتكبها في ولايات “واشنطن”، “فلوريدا” ، “اوتواه”، “اداهو” و غيرها؛ و لعلّ أكثر اعترافاته فظاعة كانت تلك المتعلقة بـ “النيكروفيليا” التي مارسها على جثث ضحاياه ، حيث قال بأنه كان يحتفظ بالجثث و كان يلبسها ملابس “الرخيصات”، و يضع لها مساحيق التجميل و العطور و يمارس معها الجنس لمرات عديدة و لأيام و لا يتوقف حتى تتعفن الجثة كلياً و يعود من المستحيل الاقتراب منها !! 
و عندها يتخلص منها بدفنها في الحدائق العامة ليلاً ، و في الغابات القريبة ، أو برميها في مجرى ماء قريب كالأنهار أو البحيرات .

و خلال هاته المقابلات و الحوارات لم يخفِ السفاح عدم شعوره بالندم على ما ارتكبه من فظاعات ، بل تحدث مستفزاً مشاعر عائلات الضحايا و غيرهم قائلاً :..لست نادماً على شيء .. بالعكس أنا أكره المترددين و المتخاذلين”
كما قال واصفاً شعوره عند ارتكاب جرائمه بأنّه “عندما تشعر بآخر نفس في أجسادهن و تنظر مباشرة في أعينهن.. في تلك اللحظة تصبح إلها..” !!!

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
خلال حواراته بدا سعيداً ، واثقاً و متكبراً مما أكسبه شعبية واسعة !!

خلال تلك الحوارات بدا “باندي” سعيداً ، واثقاً و متكبراً ، بل و فخوراً ! مما دفع البعض إلى طلب عرضه على الفحص النفسي للتأكد من مداركه العقلية ، و قد جاء التقرير الطبي ليؤكد بأن السفاح يعاني نوعاً من اضطراب الشخصية و لكنه ليس كافياً لتبرئته لأنه كان مدركاً لما يفعله .

و خلال السنوات التسع الموالية، حاول “تيد باندي” إعادة محاكمته لتخفيف حكم الإعدام إلى السجن المؤبد مستغلاً ذكائه و براعته في الحديث و الإقناع ، و خاصة تلك القاعدة “الجماهيرية” الضخمة من المعجبين و المعجبات المهووسين به ممن كانوا يرسلون له يومياً مئات الرسائل و الهدايا و يطلبون بإلحاح مقابلته ، و إن كان معظم المحللين النفسيين يعزون ذلك إلى وسامته و الكاريزما التي أبداها بكل دهاء أثناء محاكمته المتلفزة ، و منها دغدغة مشاعر المشاهدين من خلال طلب الزواج من صديقته “على الهواء” و في غضون محاكمته!

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
باندي مع زوجته كارول آن دون و ابنته 

و لكنه لحسن الحظ فشل في مساعيه و ثبت حكم الإعدام ضده ، و لم يمنعه ذلك من إتمام زواجه من “كارول ان دوون” و إنجاب فتاة , بل إنه قد عرض في أكتوبر سنة 1984 خدماته على المحققين لمساعدتهم على القبض على قاتل متسلسل آخر عرف بإسم “قاتل النهر الأخضر” ( و قد وثق تعاون باندي مع السلطات و مساهمته في القبض على سفاح النهر الأخضر في فيلم “صمت الحملان” ).

في 24 من يناير 1989، نفذ حكم الإعدام بالكرسي الكهربائي ضد “ثيودور روبرت باندي” ذي 43 عاماً ، و أحرقت جثته و تم ذر رماده في مكان مجهول وفق وصيته ، و إن كان يقال بأنه قد أوصى أن ينثر رماده في مسارح جرائمه ربما في محاولة أخيرة منه لخلق الجدل !!
و قد تجمهر عدد كبير من المطالبين بإعدام “تيد باندي” أمام السجن بعد تسع سنوات من المواجهات و الكر و الفر تمّ فيها تأجيل تنفيذ الإعدام مرات عديدة بسبب صفقات كانت يعقدها “باندي” مع السلطات تنص على تمديد فترة سجنه و تأخير تنفيذ الإعدام مقابل معلومات جديدة يكشفها في كل مرة عن ضحايا جدد.. و ما إن أعلنت وفاة “تيد باندي” حتى أطلق المتجمهرون الألعاب النارية إحتفالاً بالتخلص من كابوس “باندي” المرعب.

"تيد باندي" ... السفاح الوسيم
نهاية باندي كانت الإعدام بالكرسي الكهربائي

اعترف “تيودر باندي” بارتكابه لـ 36 جريمة قتل ، و لكن البعض و من بينهم أحد مستشاريه القانونيين يقول بأن “باندي” قد أسرّ إليه بأن العدد التقريبي لضحاياه قد تجاوز المائة و أنّ أول قتلاه كان رجلاً .

لا تختلف قصة “تيد باندي” عن غيرها من قصص القتلة و المجرمين التي تعج بها صفحات الحوادث، الذين أطلقوا العنان لرغباتهم الأكثر توحشاً و جنوناً لتمزق أجساد الأبرياء و قلوب ذويهم، و لكن “باندي” و أسطورته المرعبة سيظلان محفوران في ذاكرة الإنسانية كوصمة عار و خزي على جبين الإعلام المتجرد من كل واعز و ضابط أخلاقي الذي حوّل سفاحاً أزهق عشرات و ربما مئات الأرواح إلى بطل و “قدوة” و أسطورة..من أجل تحقيق عدد مشاهدات أكبر و بيع نسخ أكثر من كتب السير الذاتية التي تروي تفاصيل مروعة لعلميات قتل و تعذيب و المتاجرة بآلام و أوجاع الآخرين من أجل الكسب و التكسب .

على مرّ 30 سنة فقط، نشر أكثر من عشرين كتاباً يروي سيرة “باندي” ، بعضها بقلمه و قلم مقربين منه ، و اقتبست قصة جرائمه في عدد كبير من الأفلام و حلقات السلاسل البوليسية ، بل و أنشئت مواقع “تمجد” هذا المجرم و تحتفي به ..بينما لايزال عدد كبير من ضحاياه يرقدون في قبور دون شواهد تعزي أهلهم و ذويه ، و لايزال عدد أكبر من العائلات يبحث دون كلل منذ عقود عن أمل ضئيل لمعرفة مصائر أحبائهم..

مصادر :

– Ted Bundy Timeline

– Ted Bundy

– Who Was Ted Bundy?

– 10 Dark and Twisted Confessions from Ted Bundy

– Ted Bundy – Wikipedia

– Bundy (2002)

تاريخ النشر : 2017-07-26

صبا

مصر
guest
82 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى