كشكول

جدهم الأكبر

بقلم : المهدي – المغرب

لطالما اعتبرت أقاصيص أجدادنا الشعبية محض وسيلة للترفيه، ومجرد خيالات وخرافات فولكلورية اعتاد الأولون على التفكه بها في سهراتهم العائلية واجتماعاتهم الليلية..
ذات ليلة حضرت مع أمي حفل زفاف إحدى قريباتها بإحدى القرى الريفية النائية.. وكنتُ في العاشرة من عمري آنذاك، وحل الظلام فظللت وحيدا قرب منزل الحفل، ولم أستطع أن أعقد صداقات مع أطفال تلك القرية الذين حضروا الزفاف ولا استأنست بهم، فهجرتهم وقبعت وحيدا قرب الباب، وكانت أحد البيوت ملاصقا لبيت الزفاف، فرأيت ضوءا خافتا ينبعث من بابه وأحاديث متقطعة تتردد خافتة منه، ثم رأيت أبي قادما فجأة نحوي وكان قد حضر العرس متأخرا، فحياني وجلس إلى جانبي لهنيهة، ثم دخل المنزل وخرج منه بعد دقائق ومعه رجلان من أهل العريس، ودخلا ذاك البيت الذي انبعث منه الضوء الخفيف، فأشار أبي إلي بأن أدخل معهم.. كان في ذاك البيت المتواضع ثلاث أشخاص، أحدهم بدا في الأربعينيات من عمره، والآخر طفل بمثل سني، والثالث شيخ هرم طاعن في السن تهالك على كرسي ووضعوا فوق ركبتيه ملاءة حتى لا يبرد نتيجة لعدم حركته، ذو وجه نحيف الملامح شديد الشحوب، يتكئ بوجهه على كتفه اليسرى كالنائم ويرقب الأرضية..
جلسنا إلى طاولتهم، وراح الفتى الصغير يتأملني وينقل ناظريه بيني وبين الشيخ العجوز، ثم بعد مدة ليست بالقصيرة قرر أن يقترب من مقعدي، وحاول الدخول في الموضوع مباشرة.. فقال لي:” لا شك يا صديقي أنك لست من هذه القرية؟“. فرددت:
– بلى، لست من هنا.
– أترى هذا الرجل؟
وأشار بيده نحو العجوز فالتفت الجميع إليه، ونظروا لثانية إلى الرجل كأنهم يهابون تصرفاته، ثم استأنفوا الحديث.. ثم تابع الفتى كلامه:
–صدقني إنه مجنون، لقد جئت مع أبي إلى هذا المكان منذ ساعتين، وظل فيها يحادثنا بأحاديث غريبة جدا، عن قصص لا يتقبلها العقل، وشخصيات لا تمت للواقع بصلة، إن في جعبته الكثير ليقوله، لكن لا أحد يلقي له آذانا صاغية، ما رأيك لو جلسنا بقربه وسألناه أن يحكي لنا بعضا مما حكى لي ولأبي قبل قليل؟
لم أجد سببا لأرفض، رغم أني شعرت بشيئ من الخوف والتوجس من هذا الرجل.. فقام الفتى بخفة وسرعة وجلس إلى يمين الشيخ، الذي كان يبدو في وضعية نوم بعينين مفتوحتين جامدتين، فتبعت صديقي الجديد، وجلست بقربه وظللت أراقب ما سيقوله للعجوز.. فهز كمه قليل ليوقظه من شروده، ولم يلق له بالا في البداية، فعاود الكرة مرارا حتى بدا واضحا أن الشيخ انزعج وحرك رقبته ثم أمال رأسه ناحيتنا بفزع كمن استيقظ من سبات عميق، تأملنا لدقيقة، فبادر صديقي بالقول:
–الجد الأكبر.. أتذكر؟ كنت قد وعدتنا بأن تتمم الحديث عنهم..
لم أفهم في البداية ماذا قصد الفتى ب”عنهم“ وظننت أنه يقصد بني البشر في البداية.. ثم لاحظت العجوز يتململ في مقعده ويحرك بطانيته لما يناسب جلسته الجديدة، ثم استعد للحديث كمن لم ينطق منذ مدة طويلة.. وارتسمت ملامح جدية على محياه، ولاحظت تجاعيد جبهته تتفاقم وتتكاثف نظرا لرفعه حاجبين للتفكير، ثم قال بصوت مبحوح بطيئ ضارب في الشيخوخة:
–اه يا بني، ما تزال صغيرا جدا على سماع هذه القصص، سيما وأنتم بنوا هذا الجيل ضعفاء… عندما كنت في سنك، كنت قد حفظت قصتهم منذ النشأة حتى انقراض آخر فرد منهم..
وهنا اجتاحتني قشعريرة باردة ورعب من الذي بت أسمعه، عن هؤلاء المخلوقات المجهولة التي سيدور الحديث عنها.. وتابع:
–عكف أبي على تلقيني كل ما عرفه عنهم وعن تاريخهم، وكانت أمي تنهره مرارا وتقابله بالسخرية من خزعبلاته التي يملأ رأس ابنه الصغير بها، لكني كنت أقدس ما يقوله وما زلت أصدق كل كلمة.. وقد بدأت قصتهم مذ هاجر جدهم الأكبر إلى الجبل العظيم، وأقام هناك مع زوجته وبني جلدته ممن نجوا من حملة الملك س على الغيلان، والتي نجح فيها في القضاء على أكثر من مئة ألف منهم، وفشل فيلق كامل من جنوده على القضاء على كبيرهم، بل استطاع هذا أن ينقذ زوجته ومعها أفراد آخرون، واستقر على هذا الجبل الذي لم يكن مأهولا من طرف البشر بعد..
وكان الغول الأكبر من القوة بحيث استطاع القضاء على فيلق مسلح كامل من الجنود، منهم من فقد ذراعه بعضة من أسنانه ومنهم من فقد قدما فهرب على الاُخرى ومنهم من فقد كل شجاعته ورجولته فور أن رأى ملامح وجه هذا الكائن الرهيب، وكان وجهه -كما روى أبي- رماديا تماما كلون شعره، ذو بشرة قاسية كأنها الصخر، تملؤها بثور في كل مكان زادتها قساوة، وأنف أقنى مائل إلى أسفل، وكانت أسنانه قصيرة وغير منظمة ملأت فمه وفاضت خارجا بحيث طمست شفته السفلى تماما، أما عيناه فكانت غائرتان لا لون فيهما، باستثناء سواد خفيف انعكس فيه لون بشرته الرمادية، وكان ذا حاجب عريض امتد من حدود عينه اليسرى إلى يمناه غير منقطع، أي ذا حاجب وحيد متصل، وكانت أذنه محاطة بقطع من الفولاذ صغيرة ثبتت على جوانبها، وواحدة كبرى دائرية الشكل ثابتة وسط أذنه.. وكانت كل ملامحه تدب الرعب في الكيان البشري، وتجعله عاجزا عن التفكير والحركة.. وقد اقتاتت الغيلان على اللحوم كلها واللحوم البشرية خصوصا، وكانوا إذا ما ظفروا بكائن بشري كيفما كان حجمه أو جنسه أو شكله اقتادوه إلى عرين الجد الأكبر، وعلقوه قرب بابه على عمود خشبي يشبه الصليب، وأشعلوا النيران ونصبوا احتفالات ورقصوا وغنوا حتة إذا خرج الجد الأكبر من كهفه ازداد صياحهم ونفخوا في البوق النفخة الأخيرة، فيذبحه بأسنانه ويرمي به إليهم، ويتجاذبون أطرافه ويظفر قلة قليلة منهم بأحد أعضاء جسمه أو بقطعة لحم منه.. وكذلك يعيدون المراسم إذا ما ظفروا بضحية جديدة..
والغيلان أنفسهم كانوا متفرقين إلى قبائل متنافرة، شديدة العداوة فيما بينها، وكانوا يقطنون الجبال، فكانت كل قبيلة منهم تعمد إلى جبل فتتخذ من صخوره بيوتا لها على شكل كهوف ومغارات، وكانت تقوم بينهم حروب طاحنة لم يضع حدا لها إلا سعي الإمبراطور للقضاء عليهم.. فقرروا بعدها عقد الهدنة حتى لا يضعف حالهم بالحرب فينقض الإمبراطور عليهم ويقتلهم في حالة ضعف..
ورغم فشل الجد الأكبر في توحيد القبائل، إلا أن هذه لم تكتم احترامها له ولم تمنعه من عقد اجتماعات بشيوخ القبائل لمناقشة السلم وإمكانية توحيد الصفوف للحتلال امبراطورية البشر والسيطرة على مواردهم..
فكان دائم الإنشغال بخطط الحرب رغم الرفض المتكرر من شيوخ الجبال الاخرى، وكان لا يغادر كهفه لأيام طويلة ولا يجرأ أحد على الاقتراب منه.. وكان إذا ما خرج، يقف عند بوابة الكهف فيهرع الغيلان من كل الأعمار وعلى رأسهم القادة الحربيون للاستماع إلى خطابه، فيشرح لهم بالتفصيل الممل ما خلص إليه من خطط لضرب دفاعات الإمبراطور والاستيلاء على ملكه، ويلقي على مسامعهم تحديثا جديدا لطريقة شن الهجوم والتغييرات التي طرأت على المواقع المستقبلية للمعركة، ونقاط الضعف الجديدة التي بلغته عن طريق أعوانه عن الإمبراطورية، وكان يختم خطابه دائما بأن يدعو القادة بأن يكثفوا من أعمال التجنيد وأن يضغطوا أكثر على القبائل ويزيدوا من إرسال الإنذارات بالهجوم المحتمل للامبراطور ودنو موعد الحرب الكبرى..
وكان الجبل العظيم في غضون السنوات العشر الأخيرة قبل الحرب قد تحول إلى ثكنة عسكرية كبيرة، لا مجرد قرية للغيلان، إذ بات كل فوج منهم يستولي كل مرة على ثروة معدنية من ثروات الإمبراطورية وينقلها إلى قمة الجبل حيث تحول هنالك إلى أدوات وأسلحة، وازداد انهماك الجد الأكبر في تخطيطه وزاد انشغاله، حتى لم يعد يعطي الضوء الأخضر للولائم البشرية ولا يشرف على أي عشاء، وكان كل غول على حد يعرف مدى اغتمام سيده الأكبر وفظاعة المصير الذي ينتظرهم، رغم أن ذلك لم يكن يوقظ فيهم إلا حقدا أكبر تجاه البشر ورغبة أعظم في تقطيعهم إربا، وبالفعل كان هم الجد الأكبر في محله، وذات يوم جاءه أحد أعوانه الذي يعكف على مراقبة جيش الامبراطور، وظل واقفا عند بوابة الكهف إلى إن خرج الجد الأكبر، وبدأ الغيلان يقتربون بدورهم من كبيرهم ليروا ما إن كان سيتحدث مجددا، فما إن سمع هذا كلام رسوله حتى ازدادت ملامحه قسوة وتجهما واكفهرارا، فزاد تكتل بنيه واقتربوا كلهم من موقعه المرتفع قليلا، وأصاخوا السمع واندثر الهمس لمدة وساد صمت ثقيل.. فقال لهم هذا الخطاء الذي نقله أبي عن جدي وتناقلناه مطولا:
”أبنائي.. لقد صدق حدسي المرهف الذي لطالما أرقني وقض مضجعي لسنين طويلة، ولم يكن قلقي من حقد بني البشر وكراهيتهم لنا عن فراغ، وقد وردني خبر الآن من صغيري ”جيتسي“ بأن سيد أولئك الضعفاء المخمليين قد جهز الجيش بالفعل، ووزعه على أسوار إمبراطوريته من الخارج، وأنه جهز جيشا ضخمها يقدر بمئات الآلاف، وأنه يضم آلات حربية ضخمة ومتنا من الأسلحة يكفي لهدم مئة جبل.. وأنا الآن أدعوكم لأن تتجهزوا، وأن يستعد كل فرد منكم باختلاف سنه للحرب الأخيرة، لأنني أؤكد لكم، أننا لن نختبئ بعد الآن، وأن المخلوقات الضعيفة ستصير بعد أشهر قليلة سلسلة وجبات لنا، وأن أول قربان تقدمونه لي سيكون الإمبراطور نفسه.. فتجهزوا.“
ثم أشار إلى خمس من كبار القادة العسكريين، وتبعوه إلى الكهف بخطى يملؤها الوقار.. فاجتمع بهم وأمرهم بأن يستعلموا للمرة الأخيرة بإمكانية تحالف القرى الخمس معهم، وأمرهم بأن ينظموا الصفوف ويستعدوا للحرب. لعل ما جعل الجد الأكبر يا أبنائي ينهزم أمام البشر الضعفاء ليس ضعفه هو أو ضعف قبيلته، إنما خيانة القبائل الخمس الكبرى له، فقد عاد كل من القادة الخمس لجيشه بعد فترة وأخبروه بأن الشيوخ يطمئنونه أخيرا بأنهم سيقفون جنبا إلى جنب مع كبيرهم ضد الامبراطور، وأنهم سيواجهون معا العدوان البشري الصعيف، وأخبروه بأنهم سيبعثون بجيوشهم إلى وادي الثعالب قرب حدود الامبراطورية، وحددوا له تاريخا معينا، مما جعل الجد يجهز جيشه فورا ويبعث به في التاريخ المحدد، وفي ذات الوقت كان الإمبراطور قد أعطى الإشارة لجيوشه بالتحرك نحو الجبال الست المحتلة من طرف الغيلان بهدف القضاء عليهم، فالتقى الجيشان عند الوادي المذكور، وتفاجأ الجد الأكبر بخيانة القرى الخمس وألفى جيشه وحيدا ضد بحر من الفيالق البشرية، فاستشاط غضبا وعاد إلى الجبال الخمس فورا وقتل الشيوخ كلهم ونادى في غيلان الجبال -الذين لم يكونوا بعد مهيئين للحرب – بأن ينضموا إلى جيشه ويسارعوا إلى تدمير بني البشر قبل أن يلقا إخوتهم حتفهم، فمنهم من استجاب له ومنهم من أبى ان يصدق، وفي غضون ذلك كان الإمبراطور نفسه قد خرج إلى المعركة، وشاهد بأم عينه مئات من الغيلان تبتلعها مئات الآلاف من البشر وتقتلها ببطئ، فما إن وصل الجد إلى ساحة المعكرة مجددا حتى شاهد أعدادا من أبنائه وهي ملقات على الأرض يسيل الدم الأسود منها بغزارة، أشار إلى زوجته بأن تعود أدراجها إلى الجبل العظيم، وأجال بعينيه نحو الجبال فلم يجد إلى أعدادا قليلة قادمة، وأيقن أن بني جنسه هالكون لا محالة، فنادى في الوافدين من الجبال الخمسة بأن لا يقتربوا من أرض النزال، وأن يصعدوا هضبة قريبة حتى يتبعهم العدو فينقضوا عليه هناك، وكذلك فعلوا، أما الجد الأكبر فقد قفز وسط المعركة وراح يسفك الدماء البشرية بمقدار من العنف والوحشية والضغب جعل كثيرا منهم ينسحبون هلعا ورعبا وجعل الأمير نفسه يتراجع ويأمر بتكثيف الرماية والهجوم عليه..
لم تكن المعركة بذلك الطول الذي توقعه الجد الأكبر، فقد ساهمت الخيانة وتلك الأعداد البشرية الضخمة في تسريع هزيمته، لكنه ظل محافظا على بأسه يقاتل وحيدا تقريبا طوال ذلك النهار، إلى أن بقي فيلق واحد سرعان ما قرر الانسحاب…
وعلى تلك الطريقة البطولية، أنقذ أربعة من الغيلان الأحياء، والتحق بزوجته إلى الجبل، وكانت غيلان الجبال الخمس قد فرت إلى أقاصي نائية من الأرض، أما هو فلم يستقر في الجبل السادس (الجبل العظيم) إلا لأيام قليلة شفيت فيها جراحه وجراح رجاله الأربعة وغادر إلى جبل أكثر بعدا من ذاك.. وتخلى الجد الأكبر بعد حياة سخرها لخدمة أبنائه عن أحلام سطوته وسيطرته على إمبراطورية البشر، لكنه لم يتخلى عن حقده تجاه الإمبراطور، وحسبه فخرا أنه رأى ملامح الفزع تسيطر على عدوه فور وصوله ساحة المعركة، وكيف أنه تراجع بفرسه خطوات إلى الوراء وأمر بصوت مرتجف أن يكثفوا هجومهم على كبيرهم..
وداهم الموت الغول الأكبر بعد أن عاش خمسمئة سنة وازداد قليلا، وهو أطول عمر يعيشه غول على الإطلاق، وقيل إنه مات بحال جيدة وبدن كالصخر كما كان، أما من بقي بعده فقد ماتوا الواحد تلو الآخر بعد موته، ويقال إن الإمبراطور عثر عليهم بعد موته فقتلهم فلم يبق منهم أحدا.

ما إن انتهى الشيخ من كلامه، حتى لاحظت إن كل من بالبيت كان هادئا يستمع إلى حديثه بتأن، أما هو فقد أنزل ناظريه ببطئ نحو أرضية الغرفة، ومال ببطئ كما فعل من قبل على كتفه اليسرى، وأرخى فكه السفلي، وراوده النعاس كطفل صغير..
لم أدر حينها إن كان ما قاله صحيحا، ولم أؤمن بكلام أبي الذي قاله لي في طريقنا إلى البيت عن أن الغيلان خرافة لا أساس لها من الصحة، وظل شيئ واحد يحيرني ويقض مضجعي إلى اليوم، وهو من أين حصل ذلك العجوز على تلك القصة وتفاصيلها؟ لكن ما لم أستطع نكرانه آنذاك ولا أنكره إلى اليوم، هو مقدار الاحترام الذي اكتسبته تجاه جد الغيلان الأكبر.

guest
6 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى