أدب الرعب والعام

جريمة شبه كاملة

في إحدى الليالي الشديدة البرودة في سجن مشدد الحراسة، جلست مجموعة من عتاة المجرمين شبه ملتصقين ببعضهم طلباً للدفء. يتحادثون و يتمازحون قتلاً للملل و الفراغ. و بينما هم منسجمون تقدم منهم السجين الجديد الذي يحمل رقم 14، كان صموتاً منعزلاً منذ مجيئه، جلس حاشراً جسده الضخم بينهم.

كان أشقراً وسيماً. لا توحي ملامحه أنه ارتكب جريمة قتل مزدوجة وحشية. نظر إليه قائد المجموعة شزرا، و طلب منه أن يسرد لهم قصته.

جال ببصره بينهم، كأنه يتفحص تركيزهم. ثم بدأ بالكلام بصوت عميق يليق به:

ــ بدأت قصتي منذ دخولي الجامعة، كنت ذكياً و طموحاً، و لدي أحلام لانهائية. لا أخفي سراً إن قلت أنني كنت متفوقاً في دراستي، و الأول على الدفعة غالباً، لكن كل هذا كان غير كافي.. فالحصول على وظيفة يحتاج إلى شبكة معقدة من الوساطات والمحسوبية و الرشوة. حتى ظهرت هى في الصورة فجأة، فتاة رائعة، و ابنة رجل أعمال كبير في البلد، لقد كانت تمثل الحل الأنسب لكل مشاكلي العاطفية و الاقتصادية.

إقرأ أيضا: في الحب و الأمانة .. الغدر و الخيانة

قاطعه أحد المساجين:

ــ و هل قتلتها و استوليت على أموالها ؟

ــ طبعاً لا أيها الذكي ! دعني أكمل .. تقربت منها مستغلاً كل إمكانياتي، و بعض الادعاء و التمثيل. شعاري الرسمي ” الغاية تبرر الوسيلة “، حتى وقعت في شباكي. تزوجنا بعد التخرج مباشرة، و قد وظفني والدها في شركته مباشرة، و منحها شقة فاخرة كهدية زواج.

لكن الأيام الوردية لا تدوم. فما كادت تنتهي سنتنا الأولى مع بعض حتى دب النزاع بيننا. كانت زوجتي ابنة أبيها بامتياز، مدللة فوق اللزوم و لا يرضيها أي شيء. تتصرف كأن العالم كله مجند لخدمتها، و تلبية رغباتها، و لا يرضيها أي شيء.

حاولت في البداية إقناعها بتغيير بعض التصرفات والتحاور معها بهدوء، لكنها عنيدة كصخرة. ثم بدأت مرحلة جديدة عنوانها الأبرز، هو إهانتي، و السخرية من فقري قبل زواجنا، و من ظروف عائلتي. لقد كانت تلك المرأة أنانية جداً، باردة و قاسية بطريقة سايكوباثية. و القشة التي قصمت ظهر البعير، هى خروجها المتكرر من البيت في أي وقت، دون إذن، و السهر طويلاً و العودة في أوقات متأخرة.

إقرأ أيضا: متمرد بدون قضية

كل هذا جعل الدم يغلي في عروقي. لم أكن قادراً حتى على تطليقها، فوالدها له سلطة و نفوذ رهيبان، و بمكالمة هاتفية يقدر على تدمير حياتي.

توقف السجين رقم 14 عن الكلام، و قد اغرورقت عيناه بالدموع، فربت أحد زملائه على كتفه بكل عطف و واصل قصته ..

ــ جمعت كل ما ادخرت من أموال، و قررت فتح شركتي الخاصة، في دولة مجاورة، فراراً من تسلط زوجتي و الجحيم الذي عشته معها. تقبلت هى قراري بكل برودة كعادتها، و لم تتجادل معي كعادة أي عروس جديدة. وعدتها بزيارتها كل ما سنحت لي الفرصة، و كلانا كان يعلم أنني أكذب.

بدأت نشاطي الجديد بكل جد و تفاؤل. و رغم انهماكي في تأسيس مؤسستي .. إلا أنني لم أكن أغفل أمر تلك المدللة، و كنت أراقب تحركاتها عن بعد، تسألوني كيف فعلت ذلك صحيح ؟

قال زعيم المجموعة:

ــ لا شك أنك كلفت والدتك بمراقبتها، فالعجائز لا تخفى عليهم هذه الأشياء.

ــ لا ، لم أفعل ، الأمر بسيط جداً، لقد كلفت أحد الهاكرز باختراق كل حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، فأصبحت أمامي مثل كتاب مفتوح. حتى تحركاتها كنت أتابعها عن طريق الجي بي إس. رغم أنني رجل أعمال مثقف، إلا أنني أحمل جينات فلاح الشرقية المستعد دوماً للقتل في سبيل الحفاظ على شرفه.

***

كانت زوجتي قد دخلت في علاقة غرامية مع أحد أبناء كبار الشخصيات في البلد. لن أشك لحظة في انسجامهما مع بعضهما فهما على نفس الشاكلة. لا يهم، تطورت علاقتهما بسرعة حتى وصلا للخطوط الحمراء، كل هذا و أنا أراقب كل شيء و أكاد أموت غيظاً.

إقرأ أيضا: في الردهات السوداء

في آخر محادثة بينهما اتفقا على قضاء عطلة نهاية الأسبوع مع بعضهما في فيلا منعزلة ملك له. يبدو أن هذا الأحمق يحتقرني، و يظن أن التلاعب بزوجتي و شرفي مباح بحكم نفوذه وسلطته، لكن لا .. سيدفع الثمن غالياً، و ثمن الشرف هو الدماء.

لم أفكر كثيراً في القرار، و رسمت خطتي بكل هدوء، و بدأ التنفيذ. غيرت من شكلي قليلاً، ووضعت قبعة، و نظارات سوداء. غادرت بيتي ليلاً من نافذة خلفية غير مراقبة بكاميرا. لم أكن أحمل معي إلا رزمة نقود، و خنجرا جميلا.

وكنت قد اشتريت هاتفاً مستعملاً من سوق مشبوه، لم أشك لحظة أنه مسروق، و هذا حتى أترك هاتفي في بيتي على أساس أنني قضيت عطلة نهاية الأسبوع وحيداً هناك.

اتفقت مع أحد الأشخاص على تهريبي عبر الحدود، و قد دفعت له مبلغاً فادحاً من المال، و وعدته بضعفه عند إرجاعي.

لم تمض إلا سويعات قليلة، حتى كنت أتجول في تلك المنطقة الجميلة التي تقع بها فيلا ذلك اللعين. جلست في مكان بعيد عن أعين الناس، تفادياً أن يلاحظني أحدهم، و يكون صاحب ذاكرة فولاذية.

انتظرت حتى غربت الشمس، و انطلقت كذئب جائع يوشك على دخول إسطبل الخراف. كنت واقفاً أمام تلك الفيلا، مرت بذهني عدة صور، كنت أعلم أن حياتي ستتغير بعد أن أقدم على فعلتي. لكنني لا أبالي، فشرفي فوق كل اعتبار.

إقرأ أيضا: وحوش ومشاعر..

تجولت قليلاً في أنحاء المكان بكل حذر. لاحظت أن الحديقة مهملة جداً، و متسخة، و كان هناك حوض كبير أمام المدخل. قلت في نفسي أن هذا الحوض يصلح تماماً للزهور. ثم خطرت لي فكرة أفضل، فابتسمت في سري. ارتديت قفازين، و حضرت خنجري، تسلقت من نافذة خلفية تركت مفتوحة، و خطوت بكل هدوء إلى الداخل.

لاحظت أن صوت الموسيقى كان صاخباً في الداخل، لا شك أن الحفلة قد بدأت، لكن حفلتي على وشك ذلك. أسير في الداخل متتبعاً الأصوات، حتى وصلت إلى غرفة بابها نصف مغلق، إنهما هنا بدون شك.

تخوفت قليلاً من مقاومة عشيقها، فاختلست نظرة إلى الداخل و رأيته. فجأة زال كل خوفي، و دخلت عليهما كالبرق، جاءت إلي هى مسرعة و صائحة طالبة الرحمة، فصفعتها بكل قوتي حتى ارتطمت بالجدار.

أما هو فقد كان أجبن مما يبدو، و لم يبدِ أي مقاومة و أنا أنحر عنقه لينهمر شلال الدم، و فعلت نفس الشيء معها. قمت بلف الجثتين في بطانيتين، و حملتهما إلى الخارج متستراً بظلام الليل، لأضعهما داخل الحوض، متجاورتين كما كانا دائماً في ِ الحياة، و أهلت عليهما التراب شاعراً بخليط من الاشمئزاز والتقزز منهما.

لم أكن قد خططت جيداً لهذه المرحلة، لكن إخفاء الضحيتين بدا لي شيئاً مطمئناً. و الآن قد مضى شطر الليل، و أنا أنظف مسرح جريمتي بكل حرص، و أكاد أجزم أنني لم أترك ورائي أي خيط يدل على، خاصة أن حجة غيابي ستكون دامغة.

الكل يعلم أنه لا جريمة دون جثة. لذا فإنني سأحرص في ليلة الغد على نقلهما إلى مكان آخر، فخيوط الفجر بدأت في الظهور، و أنا الآن تعبان و مشوش التفكير، و هذه هي الظروف المناسبة لارتكاب الأخطاء، فأنت لن تعلم أبداً متى يظهر ذلك الشاهد صاحب ذاكرة الفيل ويورطك. لن أجهد نفسي في التفكير أكثر من هذا، سأنام الآن و فوراً.

إقرأ أيضا: خمس جثث!!

نمت تلك الليلة كطفل رضيع و لم أشعر بأي شيء حتى أشرقت الشمس. و بدأت أتخيل كأنني أسمع أصوات خطوات تقترب من البيت. نهضت فزعاً، و استرقت النظر، لأرى شاحنة عليها رسم زهور و أشجار ما، و بعض العمال بزي موحد “من هؤلاء ؟”.

بدأ بعضهم يحفر في الحديقة، و اتجه أحدهم مباشرة إلى الحوض. لن أنتظر أكثر من هذا، حملت أغراضي، و غادرت البيت مسرعاً من النافذة كما دخلت. فررت من الجهة الخلفية للبيت، و أنا أتمنى أن لا يكون قد رآني أحد منهم. كانت لحظات مجنونة، غادرت البلاد عن طريق التهريب كما دخلت، و بدا أن الكابوس قد انتهى.

بعد اكتشاف الجثتين تم استدعائي بسرعة. و حاولت بكل ما لدي أن ألعب دور الزوج المكلوم بفقدان حبيبته، و أظن أني نجحت إلى حد ما. لكن نظرات والدها تجاهي كانت تخترقني كسهام نارية/ كأنه يعلم كل شيء ” اللعنة ” .

***

الشرطة و المحققين قلبوا البيت، و فتشوا كل شبر بحثاً عن أي دليل دون جدوى. كما أن حجة غيابي كانت قوية، فأنا غير مسجل على أني عبرت الحدود.

بعد انتهاء الجنازة كنت سأعود إلى شركتي، لكن في المطار استوقفني أحد الضباط المتشككين، و طالبني بمرافقته إلى مكان ما. بعدها حضر دزينة من زملائه، و فتشوا أغراضي، حتى عثروا على كيس كبير مليء بالمخدرات. شعرت بالذهول والصدمة. اقتادوني مكبلاً خائر القوى إلى مركبة خاصة بهم. و في أثناء الطريق إلى السجن، كان يرافقني أحد الضباط في الخلف. فبدأت أقسم على براءتي و أصرخ، فقال:

ــ أصدقك سيدي.

_ ماذا؟

ثم أردف بابتسامة ساخرة:

ــ كما سمعت أنت بريء، لكن السيد (…) “صهري” يرسل إليك تحياته .

مصطفى 2018

- الجزائر - للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى