مذابح و مجازر

جزيرة نازينو : لعبة حبّار القرن العشرين

انتشر في فترة ليست ببعيدة مسلسل كوري تحت مسمى لعبة الحبّار ، حيث تدور أحداث المسلسل حول مجموعة من المتسابقين يشتركون في مسابقة تحسن من حياتهم المعيشية . ولكن بخطأ بسيط يتم استبعادهم بالقتل . وفي هذا المقال سوف نتطرق الى قصة حقيقية وقعت على جزيرة نازينو وتتشابه أحداثها مع المسلسل ولكن بصورة أخرى .

البداية

شباط/فبراير سنة 1933

_ جرينك ياغودا : أيها الرفيق بيرمان لدي فكرة عظيمة ! .

_ ماتفي بيرمان : أتحفنا ، ماهي فكرتك ؟.

_ ياغودا : سوف أستصلح أراض مساحتها 10000 كم مربعة للزراعة ، وهكذا سوف نقضي على المجاعة التي تنخر أمتنا السوفياتية . ستالين نفسه سوف ينبهر من فكرتي .

جرينك ياغودا : صاحب فكرة جزيرة نازينو

هذا كان حوارا بين رئيس الشرطة السرية جرينك ياغودا و رئيس المعتقلات السوفياتية المعروفة (كولاك) ماتفي بيرمان . استندت خطة ياغودا وبيرمان لترحيل مليوني معتقل و عمال زراعيين الى مناطق منخفضة السكان مثل صحراء سيبيريا و جمهورية كازاخستان كجزء من سياسة إزالة المعتقلات (الكولاك) .

في 11 آذار/مارس من نفس السنة تمت الموافقة على خطة ياغودا . وبعد وقت قصير من الموافقة تم تقليص عدد المرحلين إلى مليون شخص . وأما الخطة فكانت عبارة عن إبعاد الأشخاص البروليتاريين* والعناصر الضارة اجتماعيا كالتجار والتجار السابقين ، والفلاحين القانطين في الريف الذين فروا من المجاعة المستمرة . وكذلك المجرمون الصغار وكل من لا يمتلك جواز سفر .

المنبوذون اجتماعيا في عهد ستالين

وخلال يومين تم ترحيل المعتقلين بين شهري أذار/مارس و تموز/يوليو 1933 . فقد تم اعتقال 85937 شخص من موسكو بتهمة عدم امتلاكهم جوازات سفر ، وتم ترحيل 4776 شخصاً من لينيغراد لنفس السبب . ناهيكم عن الاعتقالات العشوائية . وتم نقلهم إلى معسكر مؤقت في مدينة تومسك (انقسمت معسكرات عبور المرحلين في ثلاث مدن وهي أومسك ، وأكينسك ، ولكن أكبرها كانت تومسك) .

إقرأ أيضا : جزيرة نورث سينتينل الغامضة

كان أوائل الوافدين هم الزراعيون والمعتقلون من الكولاك . ونظرا لتوافدهم الكبير أصبحت سلطات تومسك في ذعر شديد، حيث اعتبروهم جائعين ويحملون العدوى . وفي تقرير أعده فاسيلي فيليشكو رئيس الحزب الشيوعي المحلي في منطقة نارميسكي غرب سيبيريا كراي أعطى عشرين مثالا للأناس الذين تم ترحيلهم ومنهم :

” من الصعب معرفة أعدادهم حتى الأموات منهم . لأن وثائقهم تمت مصادرتها فورا وقت اعتقالهم أو من قبل مراكز الاحتجاز أو في القطار من قبل المجرمين الذين استخدموها للتدخين ” .

1 – نوفوزيلوف : من موسكو يعمل كسائق وتم منحه مكافآت ثلاث مرات . بعد العمل استعد نوف ليذهب إلى السينما هو و زوجته وابنه وبينما كانت زوجته ترتدي ثيابها خرج نوف ليدخن سيجارته وتم القبض عليه .

2 – جوسيفا : عجوز تعيش في موروم . زوجها المسن عمل كمسؤول في محطة سكة الحديد في المدينة لمدة ثلاث وعشرين عاما . جاءت إلى موسكو لشراء بدلة لزوجها إلا أن وثائقها لم تساعدها فألقي القبض عليها .

3 – ماتفييف : عامل بناء في المخبز رقم 9 كان لديه جواز سفر موسمي إلا أنه اعتقل مع جواز سفره . ووفقا لما قاله لم يتمكن أحد من التحقق من وثائقه .

فاسيلي فيليشكو رئيس الحزب الشيوعي

وذكرت مصادر أخرى أن أماً تركت ابنتها التي تبلغ تسع سنوات لمدة ثوان معدودة في محطة قطار بغية شراء تذاكر .  أخذت الشرطة ابنتها بدون تحقيق أو حتى كلمة .  فهلعت الأم لنجدة ابنتها إلا أنها لم تحقق شيئا . قال البعض أن مصير الأم انتهى بالسجن أو ربما ماتت منتحرة .

إقرأ أيضا : التاريخ المظلم لجزيرة بوفيليا

رحلة الموت

في 30 نيسان/أبريل غادرت قافلة سكك الحديد من موسكو تحمل محتجزين (من الطبقة الدنيا*) ، وأخرى انطلقت في 29 نيسان/أبريل من لينيغراد . وكلا القطارين وصلا في 10 أيار/مايو إلى معسكرات النقل .

خلال الرحلة كانت حصة الغذائية اليومية هي 300 غرام فقط من الخبز . وبسبب وجود المجرمين مع المرحلين المساكين فقد قاموا بضربهم وسرقة طعامهم وحتى ثيابهم . كانت هذه أولى معاناة المرحلين من المناطق الحضرية . وأما البعض الآخر فمات بسبب البرد القارس إن لم يكن بسبب المجرمين . بعد ليلتين من وصول المرحلين إلى تومسك ثاروا على السلطات لمطالبتهم بمياه صالحة للشرب . إلا أن الثورة تم قمعها بقوة فتم إرسال العديد من المرحلين من المناطق الحضرية إلى جزيرة نازينو .

موقع جزيرة نازينو في تومسك

جزيرة نازينو

جزيرة نازينو هي جزيرة مستنقعية طولها حوالي ثلاث كيلومترات وعرضها 600 متر . تقع في منطقة نائية في أحد أنهار سيبيريا ، وتفتقر إلى أدنى مقومات العيش الآدمي .

إن كل ما ذكرناه أعلاه لم يكن سوى مقبلات للمرحلين ، فالمصائب والتحديات الحقيقية كانت على هذه الجزيرة عند وصولهم . ولأنه لم يكن هناك قائمة مدرجة أسمائهم وحتى لم يكونوا قادرين على الوقوف ، فقد تم إحصاء الوافدين على الجزيرة في مايو وكانوا 322 امرأة و4556 رجلا و27 آخرون ماتوا بسبب ويلات نقلهم . ووصل حوالي 1200 مُرحل إضافي بعد فترة .

جزيرة نازينو

فور وصولهم تفاجأ المرحلون بعدم وجود مأوى ، أو أدوات زراعية ، أو حتى ألبسة تدفئهم وتقيهم من البرد على الرغم من الوعود التي قالت أنه سوف يتم دعمهم بالأدوات المطلوبة .

إقرأ أيضا : جان جزيرة الزبرجد

تم إيداع 20 طنا من الطحين ، وسرعان ما هرع الناس لأخذ حصصهم . لكن لسوء حظهم تلقوا الرصاص بدلا من أن يستلموا الطحين . فقد اقتسمها الفوج المكون من 150 شخصا من الجنود والضباط وأخذوا حصة الأسد من الطحين وتركوا الفتات للمرحلين .

ولسوء حظهم أصيب الوافدون بأمراض هضمية كالزحار بسبب مياه المستقعات نتيجة خلطها مع الطحين . وعندما رأى البعض سوء الأحوال قرر بعض المرحلين الهرب . حيث قاموا بصنع طوافات بدائية إلا أن قوة النهر جرفتهم بعيدا وانتهوا غارقين فيه . أما وعلى البر فكان كل من يحاول الهرب من جزيرة نازينو بحال أسوأ من الغريق .

فالفوج من الجنود كانوا يطاردون الفارين كما يطاردون الحيوانات بغية صيدها . وحتى إن لم يقبضوا عليه فالصحراء السيبيرية الباردة كانت تتكفل بالباقي . فقام بعض المرحلين بتشكيل عصابات صغيرة وكانوا يقتلون المرحلين الآخرين الضعفاء و نهب كل مافي جيوبهم وحتى حشوات أسنانهم (كانت حشوات الأسنان في تلك الأزمنة تصنع من سبائك معادن مثل الفضة والزئبق) .

صورة يقال أنها لضحايا جزيرة نازينو

في تلك الجزيرة كان القتل والموت جزءا من حياة الناس اليومية . كان الجنود يقتلون المرحلين لأسباب تافهة و أخطاء بسيطة في حين تجنبوا أخطاء أفراد العصابات . (وتبين فيما بعد أن بعض الجنود والضباط كانوا أفراد عصابات استغلوا مناصبهم في الدولة) . وحتى الأطباء الذين أرسلوا لمراقبة أوضاعهم على جزيرة نازينو خافوا على حياتهم وتركوا الناس وشأنهم .

إقرأ أيضا : لغز جزيرة البلوط الغامض : حفرة المال

آكلو لحوم البشر

شهدت الجزيرة حالات أكل لحوم بشر أيضا . فتخيل عزيزي القارئ أنه فور أن يموت أو يُقتل أحد فإنه بعد ثوان قليلة يتم التهامه . بل أن الناس أصبحوا يقتلون عنوة ليُؤكلوا ! . ويروي أحد الشهود العيان تفاصيل مروعة عن أكل اللحم البشري في الجزيرة فيقول أنه كان هناك جندي من حراس الجزيرة اسمه توسيكا، كان يذود عن فتاة ويحميها من المستوطنين . ثم غاب عنها لفترة ، الأمر الذي جعلهم يستفردون بها ، يربطونها إلى شجرة ويمزقون أعضاءها ثم يأكلونها بالقطعة . وعندما عاد الحارس إليها وجدها تحتضر ولم يستطع إسعافها فماتت .

ويروي آخر تجربته الشخصية عن أكل لحم البشر فيصفها بكل برود قائلا أنه يأكل الكبد والقلب فقط! . ويحكي عن كيفية تعريض المرضى للضرب المبرح حتى يفقدوا حياتهم . ثم يقطعون أعضائهم ويعلقوها على الأغصان . و يقومون بتحميصها على النار مثل الأسياخ ! .

بعد شهر تم اعتقال خمسين شخصا بتهمة التهام البشر . وفي فترة ثلاثة عشر أسبوعًا ، من بين ما يتجاوز 6000 شخص تم ترحيلهم كانوا موجودين في جزيرة نازينو ، مات أو اختفى وأضحى في عداد الأموات 4000 مستوطن .

نهاية مأساة جزيرة نازينو

بسبب النقص وسوء التخطيط أنهت السلطات السوفيتية هذه الحوادث المزرية والمأساوية . حيث تم حل مستوطنة نازينو وتم نقل 2856 ممن بقوا على قيد الحياة إلى مستوطنات أصغر . ترك بعضهم وهم حوالي 157 شخص لأسباب صحية ، كما رفض معظم المرحلين العمل في المستوطنات الجديدة بسبب معاملتهم السابقة .
 

تم توزيع التقرير عن الأحداث الذي أرسله فيليشكو إلى ستالين من قبل لازار كاجانوفيتش( سياسي بارز في الحزب الشيوعي) إلى أعضاء المكتب السياسي ، وتم حفظه في أرشيف في نوفوسيبيرسك .

ذكر التقرير أن 6114 “عنصرًا قديمًا” وصلوا إلى الجزيرة في مايو 1933 ، وتوفي ما لا يقل عن سبع وعشرين شخصًا أثناء النقل النهري . لم يكن هناك مأوى في الجزيرة وتساقطت الثلوج في الليلة الأولى ولم يتم توزيع أي طعام لمدة أربعة أيام . في اليوم الأول تم دفن 295 شخصًا . وزعم تقرير فيليشكو أن 2200 شخصا فقط نجوا من بين حوالي 6700 من المرحلين الذين حسب تقديراتهم قد وصلوا من تومسك .

إقرأ أيضا : ستالين .. والقزم الدموي

نتج عن التقرير لجنة من قبل الحزب الشيوعي لدراسة القضية . و في أكتوبر ، قدرت اللجنة أنه من بين حوالي 2000 ناجٍ من جزيرة نازينو ، كان نصفهم مريضًا وطريح الفراش وأن حوالي 200 إلى 300 فقط كانوا قادرين جسديًا على العمل . كانت هناك محاولات من قبل المسؤولين المحليين والحراس في الجزيرة للاعتراض على تقرير فيليشكو ولكن تم توبيخهم بدلاً من ذلك . وصدرت أحكام بالسجن تراوحت بين اثني عشر شهرًا وثلاث سنوات .

نصب تذكاري أقيم على جزيرة نازينو تخليدا لأرواح الضحايا

بقيت مأساة جزيرة نازينو طي الكتمان لمدة خمس وخمسين سنة كاملة بسبب عدم تسليط الضوء عليها ونسيانها إعلاميا . فقط أدركها الضحايا والجنود والمسؤولون وشهود عيان قلة . وفي عام 1988 اصبحت قضية نازينو متاحة للجميع بعدما قام ميخائيل غورباتشوف بتشريع سياسة جلاسنوست (سياسة الشفافية) .

ختاما

إذا غابت عدالة الأرض فإن عدالة الله لا تغيب . لذا ، فبعد عدة سنوات وبالتحديد عام 1937 أدين جرينك ياغودا و ماتفي بيرمان بعدة تهم من بينها الإنتماء إلى جماعات إرهابية في فترة عرفت بالإرهاب العظيم . وكلاهما أعدما رميا بالرصاص بأوامر من جوزيف ستالين على يد أشرس جلاد في الإتحاد السوفياتي وهو فاسيلي بلوخين .

في العام 2011 أنتج فيلم وثائقي مدته 54 دقيقة يروي فصول المأساة التي حدثت على جزيرة نازينو وكان بعنوان : Cannibal island .

ملصق الفيلم الذي يتحدث عن مأساة جزيرة نازينو

هوامش :

1 – بوليتاريا : مصطلح ظهر في القرن التاسع عشر ضمن كتاب بيان الحزب الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك أنجلز .  يشير فيه إلى الطبقة التي ستتولد بعد تحول اقتصاد العالم من اقتصاد تنافسي إلى اقتصاد احتكاري، ويقصد كارل ماركس بالبروليتاريا الطبقة التي لا تملك أي وسائل إنتاج وتعيش من بيع مجهودها العضلي أو الفكري .

2- الطبقة الدنيا : الطبقة التي يكون لديها أقلّ دخل أو ضمان ماليّ . وتزاول أدنى المهن وعلى درجة أدنى من التَّعليم ممَّا يؤثّر في آمالها المستقبليّة وتصبح في حالة من الضَّياع والدُّونيَّة .

ملاحظة : جميع حقوق المقال محفوظة لموقع كابوس . لا يحق لأي شخص كان النقل الحرفي أو المرئي للمقال المنشور دون إذن مكتوب من إدارة الموقع . وتترتب المسائلة القانونية المنصوص عليها على كل مخالف للتنبيه المذكور .

المصدر
WikipediaCannibal Island: In 1933, Nearly 5,000 Died In One Of Stalin's Most Horrific Labor Camps
guest
30 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى