أدب الرعب والعام

حبيسة المريخ

بقلم : رمضان سلمي برقي – مصر
للتواصل : [email protected]

حبيسة المريخ
قرر أن يظل متمسكاً بالشجاعة لاجتياز تلك الاختبارات ليسيطر على قوة الكتاب

في ضوء قمر خافت لليلة من ليالي الشتاء قارسة البرودة؛ عاد “سالم” من الحقل إلى الدار راكباً حماره، مخترقاً الطريق الغارق في الضباب بين الحقول، وعلى أُذنيه تتناوب شتى أصوات الليل من صرير الجراد، وعواء الذئاب، ونباح الكلاب، والحمار يتحرك ببطء تارة، ويحرِن تارة أُخرى، ولسعات العصا تنهال من سالم على مؤخرته، وبكعبي قدميه يوالي لكزاته على بطنه، وتتحرك أُذناه في كل الاتجاهات الآتية منها الأصوات؛ وكأنه يخشى هجوماً مباغتاً من كلب أو ذئب كعادته في كل إياب لهما بالليل، وفي كل مرة يصيح سالم به غاضباً:
– حمار جبان… حتّام أتحملك؟ لقد ضقت ذرعاً من مكرك… يارب متى تفرجها عليَّ وأبدِّل بالمكَّار هذا سيارة، أو دراجة نارية؟!

يَقْطُنُ سالم مع أسرته في دارٍ من طابقين تقع بين الحقول بأطراف القرية. وما إن وصلها حتى تخلص من الحمار وقيَّده بالزريبة، وصعد السلم الخارجي، واختلى بنفسه في غرفته بالطابق الثاني.

أحضر من الصوان الكتاب الذي وجده من قبل بأحد المغارات الجبلية شرقي القرية، وقتما كان يبحث عن أي كنوز أو أي وسيلة لجلب المال، وكان آنذاك بصحبة رهط من الدجالين والمشعوذين؛ هكذا كان إحساسه بهم، ورغم ذلك واصل معهم على أمل أن تصدُف معه ولو مرة وتُفرج بعدما كان يظنها لن تُفرج، ولكنها لم تصدُف ولم تُفرج، بل أحياناً كان يصرف من جيبه عليهم، واعتقد وقتذاك بأن ذلك الكتاب لابد أنه كتاب سِحر، وستتحق أمنياته أخيراً، وسينفك نحسه للأبد، فأخذه دون أن يشعروا به، وخبأه بجيبه، واستعد لهذا اليوم الشتوي، الذي نامت به أسرته مبكراً بسبب البرد والضباب؛ كي يفتحه ويُحضِر خُدَّام الكتاب من الجِنْ؛ كما كان يشاهد رفقائه المشعوذين يفعلون أمامه من قبل، ليكتشف به الكنوز والخبايا ويخرجها، ويبيعها ويتغير الحال ويتخلص من حماره المكَّار

ومن وقت عثوره على الكتاب صار يتهرب من المشعوذين، ويتقاعس عن مرافقتهم حتى انفصل عنهم تماماً.

أشْعَلَ الفحم بالمجمرة، ونثر البخور فوقه وتركها أرضاً غير بعيدة عنه، رفع وجهه فبدا شاباً بالسابعة والعشرين من عمره، شاحب الوجه، هزيل البنيان، مرتدياً سروالاً من الصوف، ومعطفاً مهترئاً ثقيلاً.
جلس متربعاً على الزربية الخضراء، بَدَتْ الغرفة من حوله كبيرة ذات إضاءة خافتة تَشِعُ من قنديل معلق بالجدار، وكان في جانبها سرير متهالك وصوان صغير، وبالجانب الآخر الزربية حيث يجلس، وغير بعيد عنه نَمرَقة مسجاة، ومن خلفه الباب.
جَذَبَ النَمرَقة أمامه؛ وضع فوقها الكتاب، فوجد غلافه من جلد سميك بني اللون، مرسومة عليه بوابة حجرية مزخرفة، ومن حولها حراس بحرابهم، وحروف هيروغليفية ورموز!. فتحه، فوجد صفحاته من جلد أصفر رقيق، وعلى وجه أول صفحة بالكتاب؛ وجد نقش لمنمنمة صغيرة، بدا أنها رسم للمجموعة الشمسية “درب التبانة” وفي وسطها رُسِمَ مساراً حلزونياً منطلقاً من كوكب الأرض إلى الكوكب المجاور له الرابع بالمجموعة: “كوكب المريخ” دونما أن يُقطع -ذلك المسار- بأي نجم أو كويكب آخر.
وكان هناك حزاماً حول المريخ به بعض علامات مبهمة وحروف، وتُلحظ بصعوبة نقطة سوداء بنهاية المسار فوق سطح المريخ.

لم يكترث لهذا كله، ولم يفهمه، قَلَبَ الصفحة ليفهم أكثر؛ فتحركت وعادت أدراجها كما كانت تلقائياً، قَلَبَها مرة أخرى، فعادت كما كانت ثانية، تَمْتَمَ حانِقاً:
– أَعْتَقِدُ أن خدام الكتاب بدأوا مداعبتي!.

قَلَبَ الصفحة ثالثة، فكانت الصفحة التالية سوداء، وقبل أن يمعن البصر فيها، شَعَرَ بأن الغرفة تهتز بشدة، فنظر إلى ما حوله؛ فوجدَ كل شيء يتراقص عداه! قرر أن يتماسك ويتحمل من أجل تحقيق حلمه في الثَّراء.
فجأة؛ انطفأ القنديل من الاهتزازات، وأظلمت الغرفة؛ عندها فقط ازدرد رضابه، ولكنه فَكَرَ إذا ما أصابه خوف؛ هلك لا محالة، لذا قرر أن يظل متمسكاً بالشجاعة لاجتياز تلك الاختبارات ليسيطر على قوة الكتاب، ومن ثم يطلب كل ما يتمناه.

مد يده، تَحَسَسَ الكتاب؛ تناوله ثم وضعه بحجره وأطبق عليه بكلتا كفيه؛ عندها تحول الظلام من حوله إلى فضاء مظلم تناثرت به النجوم والكواكب، وشعر بأنه داخل مركبة فضائية بلورية شفافة تنطلق به من الأرض وتجتاز الفضاء بسرعة فائقة ! حتى أنه لم يستطع الالتفات يمنة أو يسرة، وكأنه تجمد داخل جسده، صار يتنفس بصعوبة، وانخفض معدل نبضات قلبه، وفجأة؛ ظَهَرَ ذلك المسار الحلزوني المرسوم بمنمنمة الكتاب مضيئاً أمامه بعد أن ولجته سفينته الوهمية.

بعد لحظات وجد نفسه يقترب من كوكب المريخ، وشعر بأن مركبته الوهمية ستهبط به على سطحه؛ أحس ببرودة المناخ، وبدا المريخ لوهلة؛ أنه كوكب صخري ذو جبال شاهقة، ووديان ممتدة، ويدوران من حوله قمرين صغيرين.
تبَدَّتْ تلك النقطة السوداء التي رآها فوق سطح المريخ بالمنمنمة أمامه كنقطة سوداء صغيرة ومن حولها جبال جليدية بيضاء، ولكن سرعان ما اِتْسَعَتْ النقطة حتى ابتلعته، وعندها فقط؛ فقد الوعي، وأظلمت الدنيا من حوله.
لا يعرف كم مر من الوقت؟ ولا يدري أين هو؟ وشعر بنفسه وقد بدأ باستعادة وَعْيه، وأحَسَ بخَدَر شديد طال جسمه، حاول فتح عينيه، وبالكاد فتحهما متألماً، وما إن فتحهما حتى اننْتَفَضَ واقفاً، وجال ببصره فيما حوله وتمتم متسائلاً:
– أين أَنَا؟

وَجَدَ الكتاب ملقى أرضاً؛ تناوله ودفنه بجيب معطفه، نَزَلَ من فوق مصطبة صخرية كان مسجى فوقها؛ دلف مشدوهاً لاستكشاف المكان من حوله، فبدا أنه كهف عظيم منحوت في الصخر الأحمر ذو البريق المعدني.
تقدم في السير متعجباً، وجد الكثير من برك واسعة مليئة بالماء منحوتة بأرضية الكهف الصخرية، وعلى حوافها نمت شجيرات كثيرة مورفة خضراء اللون، جذورها ضاربة في القاع، ورأى بِركاً أخرى بها سوائل ذات ألوان داكنة تغلي وتبقبق وتتصاعد منها ألسنة البخار! تقدم أكثر مخترقاً النور الأبيض الناعم المنتشر بالكهف متسائلاً :
– أين مصدره؟
اقترب من بركة، انعكستْ صورته على صفحة مائها، وجد فقاعات هواء كثيرة آتية من الأعماق البعيدة، اِغْتَرَفَ منها بيديه وشرب على مضض، تمتم:
– ماء غير آسن، لكن رائحته حديد !.

وَقَفَ بين الأعمدة الصخرية العظيمة التي تنتشر بالكهف على مسافات متباعدة وتشبه إلى حد كبير الأعمدة بمعبد الكرنك؛ متأملاً الدقة التي نُحِتَ بها الكهف الجميل.
تقدم أكثر مخترقاً طبقات ضباب أحمر رقيقة تشبه السحاب بانبهار، ومن حوله البرك العجيبة، تَمْتَمَ مَشدوهاً:
– مؤكد أني أحلم… لا ليس حلم… إِذَاً ما كُنْهُ ذلك المكان؟ ربما كان المريخ بالفعل! ولكن كيَّفَ أتيت؟ الكتاب… أجل، السر في الكتاب!. ولكن المريخ لا ماء ولا هواء على سطحه! هل قلت سطحه؟ أنا لست فوق سطحه بل تحت سطحه!.
وخَلَصَ إلى أنه بكهف عجيب منحوت أسفل سطح المريخ، والأدهى أن به ماء وهواء، وربما توجد به مخلوقات مفترسة، وشعر بالقلق، وتساءل:
– كيَّفَ نقلني الكتاب إلى هنا؟

قرر أن يفتح الكتاب ليجد ضالته، وقتئذ؛ جلس فوق مصطبة صخرية بجوار بركة ماء، وفتح الكتاب، وقلَب صفحة منمنمة الكواكب؛ فوجد الصفحة السوداء، أَمْعَنَ البصر فيها، فوجد بها رسم يشبه كف إنسان مشعة في ليل مظلم، وفوقها رسومات لنجوم وكواكب وحروف هيروغليفية كثيرة، تمتم:
– لربما وضعتُ كفي بالظلام دون أن أدرك فوق رسمة الكف فحملتني قوة الكتاب إلى هذا الكهف بكوكب المريخ!
وتساءل فيما سيفعله؛ أيعود إلى الأرض أم يستكشف المزيد؟ ولكن كيَّفَ سيعود؟ ورجَّح أنه ربما عندما يضع كفه على الكف المرسومة بالصفحة السوداء ثانية؛ يعود إلى الأرض في الحال.
عندئذ؛ وضع كفه، ولكن لم يحدث شيئاً! حاول مراراً وتكراراً ولم يحدث شيئاً! زفر ضجراً:
– إِذَاً فقد هلكتُ لا مناص !

ضاق صدره، وراح يندب حظه العثر، ويرثي نفسه الهالكة، فجأة؛ تناهت لأذنه هَمْهَمَات تقترب من بعيد؛ فَزع، دفن الكتاب بجيبه، واختبأ خلف أحد الأعمدة القريبة.
توقفت الهمهمات؛ تنفس بأريحية، ثم تواصلت ثانية عن كثب؛ اقشعر بدنه وتوالت خفقات قلبه، قال في نفسه: ربما كان مخلوقاً مفترساً قاطناً بالكهف فيفترسني!.
توقف المخلوق يلهث غير بعيد عن العامود الضخم الذي توارى خلفه سالم، دعا الله في نفسه: يارب نجني؟. قرر: سأواجه قدري، وليكن ماهو كائن!. تَحَمَّسَ، وأظهر نفسه ببطء للمخلوق الرابض هناك، وعندما رآه؛ جَفَلَ رعباً!
لقد كان مخلوقاً يشبه أنثى البشر؛ عَجوزٌ تمشي على أربع، رأسها أصلع، وعيناها واسعتين حمراوتين، وجهها أبيض شاحب جعد، هزيلة الجسم؛ ترتدي تنورة قصيرة من جلد بالٍ تواري بها عورتها، وثدياها عاريين متدليين!

وَقَفَ سالم يتأملها مأخوذاً، ولما رأته؛ جَلَسَتْ متربعة؛ دَعَكَتْ عينها، وراحت بدورها تتأمله أيضاً، وفجأة انخرطت في ندب ونحيب، وغمغمة بلغة غريبة، وظلت تشير بيديها هنا وهناك وكأنها طفلة وَجَدَتْ أبيها بعد سنين من التيه.
تَمَلَكَه شعور بالعطف عليها وإحساس بأنها من البشر، وتساءل في نفسه: إن كانت هي من الأرض حقاً؛ فما الذي أتى بها إلى هنا؟ وكيف تعيش وماذا تأكل؟.
اِنْتَهَتْ من نحيبها؛ دَلَفَتْ صوبه على أربع، نَزَلَتْ بوجهها على قدميه تقبلهما مُتَمْتِمة بصعوبة:
_ take me out?
عندها نَزَلَ سالم أرضاً، وجلس متربعاً وأجلسها أمامه ومَسَكَ بيديها وقبَّلهما، وفاضت عينيها بالدمع:
_ where are your chip?
تمتمت بها، عندها اِلْتَقَطَ سالم ملامح لغتها، لقد كانت الإنجليزية، إِذَاً هي امرأة من الأرض كما اِعتَقد، وقد كانت لديه محصلة كلمات إنجليزية جيدة إلى حد ما، فحاول التفاهم معها ونجح.

كانت تظنه رائد فضاء، وكانت تريد العودة إلى الأرض؛ طمأنها بأنهما سيعودان إلى الأرض حتى تهدأ، وإن كان سالم يدرك تمام الإدراك بأنه سيمكث بالكهف حتى موته.
– أنا من مصر… من أي البلاد أنْتِ؟.
سألها بالانجليزية، فأجابت بصوت متهدج وبلغة عثرة:
– أَنَا من المملكة المتحدة… وأَنَا أحب مصر بلدك، وأهراماتها ومعابدها، وقد زرتها كثيراً.
وأضافت بعد لحظات صمت:
– أعشق الحضارة المصرية وقد شاركتُ في بعثات علماء كبار للتنقيب عن الكنوز والآثار كثيراً في مصر.
قال لها سالم ممازحاً إياها:
– أَنَا أشبهكِ كثيراً… لقد شاركتُ في بعثات مشعوذين كبار للتنقيب عن الآثار وبيعها خارج مصر، ولم أوفق في مرة أبداً.

وضحكا الاثنين كثيراً، تذكر سالم أن بجيبه علبة سجائر؛ أخرجها، أشعل واحدة، وأشعل لها واحدة، سعلت في بادئ الأمر، ثم راحت تلتهمها بنهم حتى أنهتها.
نهضَ سالم وتبعته العجوز الانجليزية على أربعتها، وجلسا فوق المصطبة الصخرية، وراحا يدخنان السجائر بنهم، وراح سالم يطمئنها أكثر فأكثر، ولما اطمأنت؛ استقامت مخارج حروفها واتَضَحَتْ لهجتها، سألها سالم:
– كيَّفَ أتيتِ إلى هنا؟
وجدها نزلت على أربع، ومشت أمامه متمتمة:
– اتبعني

تبعها، فابتعدا داخل الكهف، واجتازا الضباب الأحمر، والأعمدة الضخمة، والبرك المبقبقة، والشجيرات المورفة، والمصاطب الصخرية، وأكوام متناثرة من فتات الصخور؛ حتى وصلا إلى غرفة بنهاية الكهف.
صعدَتْ هي بضع درجات حتى وصلت مدخل الغرفة وتبعها سالم، دَخلا الغرفة فبدت غرفة كبيرة منحوتة بالصخر مضيئة بضوء أبيض منبعث من مشكاة بالجدار، وتنتشر بها أكوام من عظام حيوانات صغيرة في حجم القطط، وأكوام أخرى من جلودها.
اقترب سالم من المشكاة فوجد حجر ماسي مشع في حجم كرة القدم، هو المصدر لضوء الغرفة. كانت العجوز قد دَخَلَتْ غرفة أخرى بابها من داخل الغرفة الأولى، وبعد لحظات خَرَجَتْ وبفمها كتاب، وجلست بالقرب من سالم فجلس.
مسكت الكتاب بيدها، ولاحظت نظرات سالم لأكوام العظام والمشكاة، فأشارت إلى أكوام العظام، قالت:
– حيوان صغير موطنه الأصلي الأرض، أحضروه من زاروا الكهف قديماً، وتأقلم على مناخ الكهف؛ كان غذائي المُفضل، أمَّا الماسة فهي حجر مشع مجهول الإسم، وقد تم توزيعه بجدران الكهف ليضيئه بطريقة عجيبة.
رفعت الكتاب بيدها، قالت:
– هذا ما أتى بي إلى هنا !

تأمل سالم الكتاب، فوجده نسخة طبق الأصل من الكتاب الذي يملكه، ذُهِلْ، قالت العجوز:
– هذا كتاب سِحر قديم، يفتح ممرات للانتقال بين الكواكب في لمح البصر، استخدمه بعض الكهنة بإحدى العصور القديمة في مصر – بلادك – للسفر بين الكواكب والمجرات، ونقل الأشياء من الأرض إلى الكواكب والعكس!
اِنْبَهَرَ سالم بتلك المعلومات التي يسمعها لأول مرة في حياته! فتحت العجوز الكتاب على الصفحة السوداء، قالت:
– إذا ما وضعت كفك هنا، تنتقل إلى الكوكب المحدد بالصفحة السابقة، وإذا ما أردت العودة تقلب الصفحة فتجد كوكب الأرض هو نهاية المسار -لم تقلب الصفحة لتوضح- ثم تقلب الصفحة مرة أخرى فتجد الصفحة السوداء وكف العودة! سألها سالم:
– لماذا لم تقلبِ الصفحة؟ ولماذا لم ترجعِ حتى الآن؟
قطبت حاجبيها، قالت بحزن:
– للأسف… الكتاب به صفحات الانطلاق فقط، أما صفحات العودة فقد قُدَّت منه، وهذا مالم ألاحظه قبل تورطي في هذه الرحلة -ثم نظرت إليه سائلة- هل أَنْتَ رائد فضاء حقاً؟ وإن كنت فأين سفينتك التي سنعود بها؟

لم يجبها، صمت يفكر: ماذا لو كان كتابي أيضاً قد قُدّت منه صفحة العودة؟. الكتاب بجيبه بيّد أنه عاجز، عن إخراجه خوفاً من المفاجأة.
أفاق من تفكيره، وجدها تسأله:
– كيَّفَ أتيت إلى هنا؟.
عندها أخرج الكتاب، فشهقت شَهقةً قَويةً، وطوَّحَتْ كتابها بعيداً، وخَطَفَتْ كتابه من يده وراحت تقلب الصفحات بنهم للبحث عن صفحة العودة، وهو يراقب ملامح وجهها الجعد مرتجفاً خائفاً من عدم وجود صفحة العودة، وفجأة نظرت إليه واحتضنت رأسه وأخذت تقَبِّله فتخلص من ذراعيها، وسألها مرتعداً:
– هل سنعود؟

رَفَعَتْ الكتاب أمامه، فرأى كف العودة فخطفه من يدها، وقال مبتسماً:
– إذاً لنستعد لرحلة العودة إلى الأرض؟
ونزل أمامها، ونزلت خلفه، وعندما استدار والتفت وجدها قد استقامت، وتمشي على رجليها كباقي البشر، ضحك متمتماً:
– سبحان الله؛ الأمل كان علاجها!
وصلا لمصطبة صخرية، تربع سالم فوقها؛ فتح الكتاب ووضعه بحجره، واحتضنته العجوز من الخلف، سألها:
– كم عمركِ؟ وكم مكثتِ هنا؟
– في أي الأعوام نحن؟
– ستة وعشر وألفين!
– أَنْتَ تمزح؟
– لا أَمْزَح صدقيني!
– إن كنت لا تمزح فعمري الآن أكثر من مائتي سنة، وقضيت بالمريخ أكثر من مائة سنة!
جحظت عينا سالم، قال في نفسه: لقد فقدت المرأة عقلها!
قال لها:
– أنَا أَمْزَحْ معك الحقيقة، نحن في سنة تسعمائة وألف.

وضحكا الاثنين، ثم وضع سالم كفه فوق كف العودة بالكتاب، ووضعت هي كفها فوق كف سالم، وفجأة؛ أظلمت من حولهما، وتيبسا بأجسادهما، وعادا أدراجهما إلى الأرض، يجتازان الفضاء في لحظات، وعندما أفاق سالم وجد نفسه بغرفته، ولم تشرق الشمس بعد.
فكر في أنه قد نسي أن يسأل العجوز الإنجليزية عن اسمها؛ استدار ليتفحصها، وجدها جثة هامدة باردة، لا نبض بها ولا أنفاس، ووجها يشع بزرقة الموت، قال:
– مكتوب لكِ أن تدفني بالأرض!
أَخَذَ فأساً، وحَمَلَها على كتفه إلى المقابر فهي قريبة من داره، ولم يذهب إلى الزريبة لأنه موقن بأن الحمار يغط في نوم عميق.

حَفَرَ لها قبراً، ووضع به الجثة، ووضع كتاب السحر فوق صدرها، وواراهما الثرى، وقفل عائداً إلى البيت قبل أن تشرق الشمس..
دخل غرفته، طرح جسمه فوق السرير، أغمض عينيه، زفر بارتياح، فجأة؛ شعر بشيء صلب أسفل ظهره، قام لينظر، وجده كتاب السحر؛ جَحَظَتْ عيناه.

ملاحظة :
القصة منشورة سابقاً لنفس الكاتب في موقع آخر

تاريخ النشر : 2018-08-16

guest
22 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى