أدب الرعب والعام

حب ملعون

بقلم : وفاء سليمان – الجزائر

أحبها من أول مرة , فور أن وقعت عيناه عليها

 

– لم يكن يملك من متاع الدنيا شيء سار ، مثقل الخطى يجول الطرقات بحثاً عن ملجأ يلتجأ اليه في برد هذا اليوم القارس من شهر ديسمبر ، يرتدي معطفه الصوفي الرث فوق أسمال بالية لم يلبس غيرها منذ أكثر من عشرين سنة ، يقاوم شدّة السعال الذي لازمه منذ مدّة طويلة ، دخل إلى إحدى الحانات الرخيصة المنتشرة في أرجاء المدينة حين حدّقت إليه أعين الرجال الجالسين حول الطاولات, ليس لرداءة هندامه , وإنما لشعره ولحيته الطويلين طولاً غير مألوف بالعادة ، جلس على كرسي وأخذ يفرك يديه ببعضهما عله يتحصل على بعض الدفء , ثم رفع رأسه موجهاً كلمات مقتضبة بصوت متعب إلى الساقي:

– لو سمحت أريد كوباً من الشراب.

نظر إليه الساقي من رأسه حتى أخمص قدميه ورد عليه بازدراء واضح : وهل تملك ثمنه؟

– أخرج من جيبه بعض قطع نقدية وأعطاها له ، فأخذها و جاءه بكأس شراب قائلاً :تبدو غريباً عن المنطقة ، من أين أتيت ؟

تجرع الشراب دفعة واحدة لشدة ما كان عليه من ظمأ ثم أجابه قائلاً :

– السجن.

– وما كان جرمك؟

سأل وهو يأخذ الكوب الفارغ ليعيد ملأه من جديد.

– قتلت زوجتي ، أجاب بألم.

– وضع الساقي الكوب على الطاولة ومضى إلى عمله بصمت دون أن يبدي أية ردة فعل تاركاً جون يسترجع ذكريات عمرها أكثر من عقدين ونصف من الزمن.

أحبها من أول مرة , فور أن وقعت عيناه عليها ، في إحدى قرى البلاد الشرقية رآها , كان شاباً يافعاً بمنتصف العشرينات يعمل في سيرك متنقل كماشٍ على الحبال المعلقة , لمحها بين الجمهور القليل الذي أتى ليتابعه , فأصبح يرقبها في كل عرض ليسر برؤيتها تراقبه يسير على الحبال فيم لم يكن هو يراقب غيرها.

مع اقتراب موعد رحيل السيرك عن القرية , قرر أن يستجمع شجاعته ويحاول التكلم معها, فانتظر حتى انتهت أحد العروض التي لم يشارك فيها , وعندما هم الجمع بالمغادرة مضى إليها واستوقفها قائلاً :

– عفواً يا آنسة هلا سمحت لي بدقيقة ؟

نظرت إليه بعينيها الزرقاوين وأجابت:

– عفواً، ومن تكون يا سيدي؟

– جون : أعمل في هذا السيرك ،أظنك رأيتني أسير على الحبال كما أظن.

– فغرت فاها بدهشة وصاحت ببراءة الأطفال قائلة :أتعرف يا سيدي أن عروضكم مدهشة وخاصة عرضك , كيف تستطيع المشي على حبل دون أن تسقط ! أنه شيء رائع , كم تمنيت أن أفعل شيئاً كهذا , أنتم حقاً بارعون.

ابتسم وهو ينظر إليها تتحدث بعفوية إلى أن انتبهت أنها تكلمت زيادة عن اللزوم فصمتت قليلاً وقالت :

-اعذرني يا سيدي فالجميع ينعتني بالثرثرة ، وأطرقت رأسها بخجل ثم أضافت : تشرفت بمعرفتك ، أدعى ألكسندرا ، ومدت يدها لتصافحه.

– صافحها مبتسماً :وأنا أدعى جون ثانية ، وأضاف منتهزاً الفرصة , لا بأس آنسة ألكسندرا اذا كنت تحبين عروض السيرك لهذه الدرجة يمكنني أن أجعلك تشاهدين العارضين أثناء التدريب.

-أووه حقاً شكراً يا سيدي سأكون ممتنة لك ، ردت والسعادة تغمرها.

– أذن تعالي غداً عند العاشرة صباحاً ستجدينني في انتظارك.

أومأت برأسها موافقة وغادرت في قمة الغبطة والسرور ، ولم تكن تعلم أنه أشد فرحاً منها.

– مع شروق شمس اليوم التالي نهضت مبكراً على غير عادتها وجهزت نفسها لموعدها المنتظر.

– ألكسندرا! أرى أنك نهضت باكراً على غير عادتك..

– صباح الخير يا أمي ، أجل فاليوم مميز بالنسبة لي  , أتعلمين إلى أين سأذهب؟ لقد تمت دعوتي لمشاهدة تدريبات أعضاء السيرك ، كم هذا رائع.

– لم تعودي صغيرة كما كنت , أنت الآن بالسادسة عشر من عمرك ، عندما كنت بسنك خطبني والدك , من الأفضل أن تنتبهي على تصرفاتك , أنت ابنة أحد أكبر الإقطاعيين بالقرية والأعين عليك لا تتهوري وكوني عاقلة ، أجابتها أمها بحزم.

– لقد استشرت والدي وسمح لي بذلك ، ثم مازال الوقت مبكراً على الزواج ، زوّجي أخواتي الكبيرات أولاً ، قالت ضاحكة وأضافت :

– ولا تخافي أنا أعي ما أفعل فكما قلتِ أنا لست بطفلة , والآن وداعاً يا أمي أراك لاحقاً ، وغادرت على عجل…

– تنهدت الأم قائلة : أتمنى ذلك حقاً.

وصلت بالموعد المحدد فوجدته بانتظارها فحيته قائلة :

– صباح الخير يا سيدي.

– صباح الخير ألكسندرا، لنتفق أولاً لست سيداً لأحد نادني بجون ، جون فقط.

– حسناً أرى على ملامحك علامات التعب والإرهاق ، هل أنت بخير؟

– لا أبداً , أنا بخير، أجابها وهو يتذكر كيف أن النوم جافاه ليلاً وهو يفكر بها ، والآن تعالي أريك كيف نتحضّر للعروض.

رافقته وهي تحوم بعينيها بين أقفاص الحيوانات في حين كان يتابعها بنظراته ، كانت غاية بالجمال بشعرها الأشقر الطويل المنسدل كظفيره على كتفها , ولون بشرتها الأبيض المائل للحمرة , وعينيها الزرقاوين كزرقة سماء باريس في صبيحة يوم مشمس.

استيقظ من شروده على صوتها تخاطبه.

– سيدي , أووه عفواً آسفة ، جون هل هذه الحيوانات خطرة ؟ لا تبدو كذلك أثناء العروض.

– نعم إنها كذلك ، فقط مدربها يستطيع التعامل معها ، احذري وإياكِ أن تقتربي من الأقفاص.

مضت عدة ساعات وهما يتنقلان هي تسأل وهو يجيب إلى أن حان موعد رحيلها .

– هل سأراكِ مرة أخرى؟ يمكنك القدوم متى تشائين ، سألها جون بقلق.

– سأحاول ، اذا سمحوا لي والآن وداعاً وشكراً جزيلاً لك لقد استمتعت حقاً.

مضت عدة أيام مذ التقى جون بألكسندرا أول مرة ، خلالها كانا يلتقيان فيها كل يوم تقريباً يتبادلان الحديث عن السيرك ويروي لها أغرب القصص عن مغامراته أثناء التجوال بين المدن والقرى وتقديم العروض وحبه لها كان يزداد مع مرور الوقت ، أما هي فكانت تصغي إليه بحماسة واهتمام بالغ بالبداية , لكن مع الوقت بدت عليها ملامح القلق والكدر ، وذات يوم.

-هل أنت بخير ؟ لا تبدين كذلك بالآونة الأخيرة.

– لا شيء مهم ، ولكن أمي ليست مرتاحة لقدومي هنا كل يوم ، سكتت قليلاً ثم أضافت :

هل لي أسألك لم استوقفتني بأول مرة التقينا؟

تلعثم جون ولم يدرِ بماذا سيجيبها.

– في الحقيقة أردت…….ثم سكت.

– لا أمل ، من الأفضل أن تنسى الأمر , كذلك قالت ألكسندرا بلهجة ثابتة لم يعهدها فيها من قبل , وأضافت : أنا الابنة الصغرى لسليل أسرة كبيرة من الإقطاعيين ملاك الأراضي الأثرياء ، كل نساء عائلتنا تزوجن من أثرياء آخرين بموجب اتفاقات وصفقات بين الرجال ولا واحدة منهن اختارت زوجها إنه قانون عائلتنا ، حُكم علينا أن نذعن ونرضخ وبالمقابل نعيش بترف وغنى لبقية حياتنا ، صفقة عادلة بنظرهم , ومن تتجاوز القانون يُحكم عليها بالطرد والنفي خارج العائلة.

– تفاجأ جون مما سمع فالفتاة كانت تعلم بمشاعره تجاهها , ولكن بنفس الوقت تلقى صدمة قاسية بددت آخر آماله ليظفر بها ، فقال محاولاً تغيير مجرى الحديث:

– بعد غد سيغادر السيرك القرية , هل لي أن أطلب منك المجيء لأراكِ قبل رحيلي.

– ابتسمت وأجابته : بالطبع سآتي ، والآن الى اللقاء.

وسارت إلى منزلها تمسح دموعها المنسابة على خديها وتدعو اللّه أن لا يأتي اليوم الذي يلي الغد..

-آه ألِكسندرا عزيزتي, وأخيراً عدت ، هل انتهت جولتك اليومية ؟

جلست على السجادة بجانب الأريكة التي تجلس عليها ووضعت رأسها على ركبتيها و قالت : أجل انتهت ، هل تعلمين بأن السيرك سيغادر بعد الغد يا جدتي ؟ للأسف لقد أحببته.

– أهذا سبب مسحة الحزن التي تعلو وجهك ؟ لا بأس يا صغيرتي سيأتي سيرك غيره ، أريني ضحكتك الجميلة الآن واذهبي لإحضار الشاي أود شربه معك هذا المساء.

حدثت نفسها قائلة : ليت السيرك هو المشكلة , لكان الأمر هيناً , المشكلة أكبر من ذلك والتفتت لجدتها :

– حسنا يا جدتي أنا ذاهبة , ومضت تفكر فيم عليها أن تفعل.

سأل نفسه وهو ممدد على فراشه المهترئ داخل إحدى عربات السيرك : لماذا يحدث هذا معي؟

كان جون من أسرة بسيطة تقطن العاصمة باريس , تزوج والده الجندي في الجيش الفرنسي من والدته ماري أبنة أحد الجنود المتقاعدين ، كانت ذكية ومثقفة وجميلة ، أنجبت له أبنة وأبناً وعاشت معه حياة هنيئة لا يكدرها شيء.

في سن الثالث عشر من عمره انقلب حال العائلة من السيئ إلى الأسوأ بعد أن توفي والده أثناء خدمته لوطنه , فاضطرت والدته إلى العمل بإحدى مصانع النسيج كي تتكفل بولديها ، ولكن المرض أقعدها الفراش لتموت هي الأخرى بالسل الذي كان منتشراً بذلك الوقت.

وجد نفسه وحيداً بعد أن تكفلت إحدى قريبات والدته برعاية أخته , فترك المدرسة و عمل ليجني رزقه بعدة أعمال كان آخرها السيرك ، فبعد أن لاحظ أن لديه موهبة القدرة على المشي على الحواف الضيقة تدرب كثيراً ليستطيع السير على الحبال بالأماكن المرتفعة وقد ساعده في ذلك طول قامته ونحافة جسمه , وعند نجاحه انضم إلى السيرك حيث عمل فيه لاثنتي عشر عاماً يجول البلاد .

في يوم الوداع لبست أجمل ما عندها عاقدة العزم أن تفعل ما هي مقتنعة به , فبالرغم من أنها كانت فتاة طيبة ورقيقة ويبدو عليها براءة الأطفال وعفويتهم إلا أنها كانت ذات شخصية قوية و مبادئ في الحياة ترسخت بداخلها من خلال مطالعتها للكتب التي كانت تفيض بها مكتبة منزلهم ، إلى جانب احتكاكها بالحياة اليومية لفلاحي القرية.

التقيا على ربوة عند مخرج القرية.

– يبدو أنه اللقاء الأخير ، قال جون بأسى.

– يُقال بأن القدر يمتلك كل السلطة علينا , وأن الإرادة ليست سوى نوع من أنواع الاعتراض.

التفت إليها محتاراً من كلامها ، فابتسمت وأكملت :

– أما أنا فأرى أننا نحن من نكتب أقدارنا بأيدينا , قد أكون بالغد زوجة لأحد الإقطاعيين الأثرياء كما اختارت عائلتي , زوجة تناسب مكانته الاجتماعية , ربة منزل أنجب له الأطفال وأعيش معه على المشاكل والمشاحنات لا لشيء سوى أن تفكيري لا يناسب تفكيره و أن أحلامي لا تشبه أحلامه , إلى أن أموت نادمة ناقمة على الحياة والناس , وبالمقابل قد أتزوج من أحببت فتتبرأ مني العائلة , قد أكون مخطئة أو مصيبة , قد أعيش سعيدة أو تعيسة , لكن سأموت مرتاحة لأنني عشت وفقا لخياراتي.

فهم جون ما كانت ترمي , وبرغم سعادته بسماع ما قالته إلا أنه قال :

  • قد تندمين , اتخاذ القرارات ليس بتلك البساطة , فعليه يتحتم مصير حياة بأكملها.

– إن كان لابد من الندم فسأندم بكلا الحالتين على شيء فعلته أو آخر لم أفعله ، ونظرت إليه نظرات ملؤها الحب والثقة.

– أنت يا سيد لا يمكنك المكوث دون أن تطلب شراباً ، على صوت الساقي يخاطبه أفاق جون من شروده , اعتذر ثم غادر الحانة لا يدري أين يذهب وأي طريق سيسلك.

داخل إحدى الكنائس القديمة ، عقد جون قرانه على ألكسندرا , كانا قد اتفقا على الزواج بعد أن رحلت معه تاركة أهلها وماضيها وراءها، حطت بهما الرحال بمدينة باريس مسقط رأسه , فبعد أن ترك جون جماعة السيرك قرر العودة إلى هناك حيث منزل والده ينتظره , باعه واشترى بثمن حصته منزلاً بسيطاً بضواحي المدينة ودكاناً صغيراً ليوفر رزقه.

مضى على زواجهما قرابة السنتين , عاشا سعيدين دون أن يعكر عليهما أحد صفو حياتهما ، أنجبا خلالها ابنة جميلة أسمياها ماري.

مع بداية الحرب العالمية الثانية وهزيمة فرنسا على يد ألمانيا وتوقيع فرنسا لمعاهدة الاستسلام تدهورت أحوال البلاد , وقُتل وشرد الآلاف , وانتشر الفقر والعوز والحاجة.

اضطر جون خلالها أن يغلق دكانه كحال معظم التجار الصغار أصحاب الحوانيت الصغيرة , لما تمر به البلاد من اضطرابات فانعدام الأمن والركود الاقتصادي كانا الحدث الأبرز.

أمام المدفأة حمل طفلته يلاعبها عندما سألته بتوجس وخيفة قائلة :

– وما العمل الآن لابد من ايجاد حل , يجب أن لا ينقص الصغيرة شيء.

– كل البلاد تمر بنفس الظروف , ما باليد حيلة ، لا يسعنا سوى الانتظار.

– لكن هناك الكثير من المناطق التي لم تتضرر بعد , خاصة القرى الشرقية.

رمقها بنظرة ذات مغزى قائلاً :

– إلى ماذا تلمحين؟

وقد امتقع لونها ، أجابت وهي تزدرد ريقها قائلة :

– مرت سنتان على ذلك , سيكون الأمر قد نُسي , ضف إلى ذلك أن الأحوال سيئة والقوانين صارمة ، لن يفكروا بإيذائنا.

قطّب جون وجهه وقال:

-لا بد أنك تمزحين , أنت تعلمين أن أمراً كهذا لا يُنسى بسهولة خاصة بالمجتمعات المنغلقة كالأرياف , ولا تنسي أن عائلتك كانت معروفة فلست بابنة فلاح فقير تُروى قصتك ليومين و من ثم تُرمى بسجلات النسيان , سيؤذوننا انسي الأمر ألكسندرا وأغلقي الموضوع نهائياً.

– حسنا كما تريد , لنرى أين ستودي بنا الأوضاع بالنهاية.

ازداد الجوع والبرد وانعدمت المواد الغذائية ووسائل التدفئة تماماً , ونزح معظم سكان العاصمة إلى الأماكن التي لم تطلها أنياب الجيش الألماني بعد.

– لا خيار أمامنا ، سأجهز أمتعتنا وقد ادخرت بعضاً من المال سيُعيننا على رحلتنا إلى القرية ، قالت بحزم.

كان يعلم أنها على حق , كان لا بد من المجازفة فإن لم يرحلوا كانوا سيموتون جوعاً على كل حال.

– سأذهب لاستئجار عربة تقلنا إلى محطة القطار , يبدو أنه الخيار الأخير.

بعد أيام كانوا قد وصلوا إلى القرية , كانت قد تغيرت كثيراً بالسنتين الماضيتين , السكون يعم كل شيء لا أثر لبشر أو طير بالأنحاء , جميع مظاهر الحياة اختفت لتحل محلها لوحات من البؤس والحرمان خاصة بالمنازل الصغيرة للفلاحين البسطاء.

دقت باب منزل عائلة ألكسندرا ففتحت الخادمة الباب وما أن رأتها حتى ركضت للداخل وهتفت قائلة :

– سيدتي , لن تصدقي من بالباب ، إنها ألكسندرا ابنتك ألكسندرا!.

بعد لحظات كانت أمها أمام الباب تنظر إليها والدموع تملأ عينيها ثم صاحت بها قائلة:

-أيتها اللعينة ماذا فعلتِ بنا ، ورفعت كفها لتصفعها بقوة لولا أن الخادمة هدّأتها :

أرجوك سيدتي ليس أمام الباب.

كفكفت دموعها و قالت : ادخلوا الآن لنرى ما سنفعل.

كانت الأخبار تقع على ألكسندرا كالصّاعقة , وفاة جدتها , مرض أبيها ,اختفاء أخيها الوحيد.

– وأين أخواتي؟ سألت باكية.

– كلهن تزوجن , الحمد لله أن أحداً لم يأخذهن بوزركِ , أهكذا تتركيننا ومن أجل من ؟ وأشارت باحتقار إلى جون الذي لزم الصمت مذ أتى.

– تركت لك رسالة وشرحت أسبابي , لا تقسي علي يا أمي أرجوكِ , كنت مجبرة على اختيار طرف والتضحية بآخر.

– فاخترت التضحية بسمعة عائلة بأكملها , يا لك من أنانية , وماذا جئت تفعلين الآن أنت وزوجك هذا؟

قطعت كلامها فجأة فقد لفت نظرها الطفلة التي كانت بين يديه , لم تلاحظها بالبداية لشدة اضطرابها , فأعجبتها زرقة عينيها وجمالها الساحر , مسحت دموعها وقالت :

– كم عمرها ؟

-سنة , اسمها ماري ، أجابت ألكسندرا وقد أشرق وجهها ثم حملت الطفلة و وضعتها بين يدي والدتها التي همست للطفلة بكل رقة وحنان :

– تبدين كوالدتك تماماً حين ولدت ، واحتضنتها وهي تبكي بشدة.

– الأوضاع بالعاصمة صعبة جداً والعيش أصبح شبه مستحيل , كان لابد لنا من تركها ولم يكن لنا من ملاذ إلا هنا.

-سأتحدث مع والدك ، قالت الأم وقد رق قلبها للطفلة ، يمكنك البقاء هنا والعيش مع ابنتك , ففي الظروف الراهنة لا أحد سيهتم بالنمائم , ولكن لا يمكن له البقاء هنا ، ورمقت جون بنظرة ازدراء .

– وتابعت : أن رآه والدك فستزداد حالته سوءا , عليه أن يرحل.

– ولكن يا أمي لا أستطيع تركه.

– معها حق سأذهب لإيجاد مأوى آخر, نطق جون.

– لا، لم نخض كل الصعاب لنفترق بالنهاية ,أنا آتية معك , أجابت ألكس بغضب ثم أخذت ابنتها وحقيبتها ومضت نحو الباب قائلة :

آسفة يا أمي , لو كنت أريد تركه لتركته من البداية , ومسكت يد زوجها : لنرحل أن كان لابد من الموت سنموت معاً.

– جون : لأجل الصغيرة يا ألكسندرا , لأجل ماري.

ماري…ماري…..ماري…..

استيقظ على كابوس مريع رآه بعد أن غفا تحت جدار أحد الأزقة ، ثم صاح قائلاً :

– يا إلهي…..ابنتي ماري ، وركض مسرعاً الى محطة القطار آملاً أن يجد ضالته.

جلس بالمقصورة الخلفية لقطار السلع المتجه إلى القرية حيث ترك ابنته ماري منذ خمس وعشرين سنة ، يمني نفسه بلقائها.

– لا بد أنها أصبحت شابة وجميلة تشبه والدتها , كم أشتاق لرؤيتها ، ثم عاودته نوبة السعال من جديد.

– تستطيع المكوث مع زوجتك , لا مانع لدي.

أتى صوت من الخلف , فالتفت الجميع ليبصروا كهلاً يرتكز على عصا ينزل الدرج من الطابق الثاني , أسرعت الخادمة تهتف قائلة :

– دعني أساعدك يا سيدي , وأمسكت بيده حتى أوصلته إلى القاعة.

– أنت لست على ما يرام , أخبرك الطبيب أن عليك الراحة قالت الأم.

– جلس والد ألكسندرا على إحدى الأرائك و توجه إليها متسائلاً : لم أكن أعلم أنكِ تملكين الجرأة لرجوع إلى هنا ، وحدق بابنته بنظرات ساخرة.

أشاحت بنظرها عن وجهه , فهو الوحيد الذي لم تستطع مواجهته ، ولم تجد كلمات تدافع بها عن نفسها ، فصمتت.

– كنا على وشك الرحيل ، قال جون.

-آه.. إذاً أنت الشاب الذي تركتنا لأجله , لست مميزاً كما أرى ، عموماً باستطاعتكم البقاء هنا أن أردتم , فكما ترون لا يوجد هنا غير ثلاثتنا.

-هل أنت واثق ؟ قالت الأم وأضافت: أخاف أن تنتكس حالتك.

– لا تقلقي أنا بخير , بالعكس فحالتي تحسنت بمجرد رؤيتهم ، قال بمكر ثم أردف :

-أعدي لهم غرفة ألكسندرا السابقة ، مشيرا للخادمة.

والآن هل لي أن أرى الصغيرة , فهي حفيدتي كما أعتقد ،

وأخذ يلاعب ماري وسط حيرة الجميع.

بعد أيام استقر الحال بالمنزل , كانت ألكسندرا قد بدأت تستعيد عائلتها وتشعر بالطمأنينة لأول مرة منذ سنتين قضتهما بتأنيب ضميرها , على عكس زوجها الذي لم يكن مرتاحاً بوجوده هناك.

-أراك قلقاً متوجساً منذ قدمنا إلى هنا , ما الأمر؟

– بصراحة هناك ما يكدر علي , أن أهلك لا يطيقونني ولا يحبون وجودي هنا , أصبحت أشعر أني عالة عليك وعليهم اني لا أحتمل نفسي يا ألكسندرا.

– لا أظن ذلك , ألا ترى كيف يعاملوننا أنهم بغاية اللطف , انظر كيف يتعاملون مع ماري , أنهم متعلقون بها.

مقاطعاً :

– ألا ترين نظرات الاحتقار من والديك ؟ ألا تسمعين الهمز واللمز بغيابي و حضوري ؟ هل سمعتِ بم ينعتونني ” الراقص على الحبال “ …ألم تنتبهي لكل هذا؟

-أنت تبالغ يا جون لا شيء مما ذكرت , أنهم يمزحون وحسب.

– أنت لا تفهمينني , أصبحت لا تفهمين ، علا صوت جون وهو يرددها وصفق باب الغرفة ليخرج من المنزل.

بعد منتصف الليل دخل الى الغرفة مترنحاً تفوح منه رائحة الشراب , يهذي بكلمات لا معنى لها , رأته زوجته فأمسكت بيده كي لا يسقط وصاحت به :

-يا الهي ! جون منذ متى وأنت تشرب ؟

-منذ الآن , ألست حثالة….؟ ألا يرى والداك أنني لا أستحقك ؟ سأبرهن لهم أنهم على حق والآن دعيني وشأني , ثم سحب يده من يدها ورمى بجسمه على السرير غاطاً بنوم عميق.

مضت شهور والوضع يزداد سوءاً, كثرت المشاكل وازدادت المشاحنات بين جون و زوجته , كان يُسمع صوت صراخهما من الطابق الأرضي يومياً , فقد أصبح جون مدمناً على الشراب ، مهملاً , كسولاً , لا يهتم بشيء , الأمر الذي أثار حنق ألكسندرا التي ترى زواجها يتحطم شيئاً فشيئاً.

– أرى أن صحتك بدأت بالتحسن ، ولكن هل كان يجب فعل ذلك ؟

-عانيت بسببه لسنتين ,عليه أن يدفع الثمن , قريبا سأجعل ابنتي تتركه وتلقي به خارجاً , الحقير لعب بعقلها وحرضها على تركنا , لن أغفر له ما حييت , سأجعله يتجرع كأس الذل و المهانة ، فقط عندها سأرتاح.

– ولكنه زوجها وهي تحبه ، من الأفضل أن ندعه وشأنه.

– ما زالت صغيرة لا تفهم شيئاً , سأزوجها زواجاً يليق بها فور التخلص منه.

-آمل فقط أن لا ينقلب الأمر علينا ، قالت بتوجس.

بعد فترة :

من الطابق الثاني سمع صوت إطلاق رصاص , ركضت الأم لمعرفة ما يحصل , دفعت باب الغرفة لترى أبنتها غارقة بسيل من الدماء , وجون واقف يمسك بمسدس وعلامات الفزع بادية على وجهه ، وفور أن رآها صاح :

لم أقتلها , لم أقتلها.

– صرخت بأعلى صوتها : أيها اللعين ..أيها القاتل ..قتلت أبنتي , أيها المجرم ..

وهرعت إلى ابنتها تبكي وتنوح , أما الخادمة فتسمرت أمام المنظر وعقدت الفاجعة لسانها , إلى أن سمعت صوت سيدها :

– قومي باستدعاء الشرطة.

-اعتقل جون بتهمة قتل زوجته , كانت جميع الأدلة تشير إليه , فبصماته على السلاح , وجوده بالغرفة , المشاكل بينهما , شهادة الشهود ، إضافة الى أنه كان بحالة سكر، أثناء المحاكمة ظل صامتاً لم يتكلم أو يدافع عن نفسه , وهذا ما ساهم بإدانته.

حُكم عليه بالسجن ربع قرن من الزمن مع الأشغال الشاقة من أول جلسة , وأوليت العناية بالصغيرة الى جديها.

أرتفع صفير القطار يعلن وصوله للمحطة , فنزل جون يجول بنظره في أنحاء القرية , كانت تماماً مثل ما تركها لم يتغير بها شيء , شعر بسعال قوي على حين غفلة , لكنه كظمه وخطى مسرعاً نحو المقبرة.

بعد أن جال المقبرة لأكثر من ساعة وجد ما كان يبحث عنه , كان قبرها واقعاً وسط مدافن أسرتها , دمعت عيناه وهو يراها لأول مرة بعد تلك الليلة المشؤومة , ما حّ في نفسه أنها دفنت باسم عائلتها لا باسمه هو , جلس بجانبها ودموعه تسيل بغزارة فبعد كل تلك السنين الآن فقط استوعب حقيقة موتها , صاح بها متوسلاً :

– سامحيني ، كررها وهو يضرب أرضية المدفن بقبضتي يديه.

– هل أنت بخير يا عم ؟ سألت برقة.

رفع رأسه ليراها فإذا بشابة ذات عينين زرقاوين تكلمه, حدق بها قليلاً ثم هتف:

-يا إلهي ! ألكسندرا..!!

– أنها أمي, هذا هو قبرها ، من تكون ؟… أني أراك هنا لأول مرة.

– أخذه سعال قوي ودفق الدم يخرج من فمه دون توقف , وغاب عن الوعي.

-هل هو بخير ؟ سألت ماري الطبيب.

فبعد أن غاب عن الوعي طلبت مساعدة القرويين الذين أخذوه إلى بيتها تنفيذاً لرغبتها وأحضروا له الطبيب.

– للأسف, أنه بمرحلة متأخرة من مرض السل , جسمه هزيل وضعيف , لا يستطيع المقاومة , إنه يعيش آخر لحظاته.

-المسكين , يبدو أنه عانى الكثير , شكراً لك يا دكتور.

– لا تنسي المرض معدي أتخذي الاحتياطات اللازمة .

– لا تقلق بهذا الشأن , أعرف ذلك.

دلفت عجوز تحمل أكياساً من بوابة المنزل , فرأت الطبيب يخرج ، حيته وأسرعت الى الداخل.

– ماري , هل أنت بخير ؟ ماذا حدث ؟ لماذا كان الطبيب هنا؟

أهلا مربيتي , أرى أنك عدت من السوق , هدئي من روعك لا شيء سوى أنني وجدت متشرداً بالمقبرة عندما ذهبت لزيارة أمي وجداي , أغمي عليه فجلبته للمنزل , إنه مريض جداً.

– نفس العادة كل يوم , كان من المستحسن لو تزوجت واعتنيت بأولادك عوضاً عن العناية بالمشردين , قالت بتبرم ثم أضافت : وأين هو؟

– بغرفة والدتي بالطابق العلوي ، اذهبي وانظري إن كان يحتاج شيئاً.

– حملت كأساً وابريق ماء و صعدت متثاقلة إلى الغرفة وماهي إلا لحظات حتى سمعت ماري صوت تكسر زجاج , ركضت إلى الغرفة فوجدت مربيتها ترتعش وعلامات الجزع بادية عليها.

– إنه هو.. إنه هو… يا الهي إنه هو…

– من؟

سقطت على الأرض تجهش بالبكاء وأجابت :

– جون.. والدك يا ماري…

كان لا يزال نائماً , حين جلستا بالقاعة الرئيسية تتحدثان.

– ألم تقولي أنه بالسجن ، قالت ماري تحاول السيطرة على نفسها.

– يبدو أنه خرج.

– يجب علي إخراجه من هنا , المجرم قتل والدتي , كيف يجرؤ على العودة.

– قلتِ أنه مريض ، قالت العجوز بأسى.

-لا يهمني , لقد نال ما استحق , وهنا فقدت السيطرة على نفسها ودخلت بدوامة من البكاء الطويل لم تستفق منه إلا على صوت مربيتها.

– لم يقتلها ، قالت بجدية.

– ماذا؟

– لم يقتلها….كان حادثاً , لم يقصد.

مسحت دموعها ونظرت إلى مربيتها بدهشة قائلة:

 

– كيف؟ ألم يخبرني جدي أنه قتلها , الجميع كان يعلم بذلك.

– الجميع رأى المسدس بيده , ولكن كانوا يجهلون من أطلق النار فعلاً.

– ماذا تقصدين ؟

اسمعي يا ابنتي الآن فقط سأزيل عن كاهلي حمل خمس وعشرين عاماً من عذاب الضمير.

تقول أحدى الأساطير القديمة أن هناك قبيلة لم تكن تقطع الأشجار الخضراء لصلابة جذوعها , فكانوا كلما أرادوا قطع شجرة خضراء حضروا طقوساً تُدعى بطقوس اللعن , حيث يجتمع أفراد القبيلة حول الشجرة و يبدأون بسبها ولعنها وذكر مساوئها إلى أن تصفر أوراقها وتسقط وتيبس جذوعها ويصبح من السهل قطعها.

هكذا فعل جدك رحمه الله , تعلمين قصة زواج والديك , كان جدك يكره والدك ويريد الانتقام منه بأي وسيلة , كان لا يترك فرصة دون أن يهينه و يستحقره و يحط من شأنه , كان يعلم أنه لا يستطيع الرحيل لأن أمك سترحل معه , أراد زرع الشقاق بينهما , جعل والدك يكره نفسه ولا يطيقها , هو أيضاً لا يستطيع الرحيل لأن الأوضاع في ذلك الوقت لن تساعده للعناية بكما , فاتجه نحو الشراب لينفس عن غضبه وأصبح غليظاً سيء الطباع ,لا يمر يوم دون أن يتشاجر مع والدتك ويعلو صياحهما , وهكذا إلى أن تفاقمت الأمور بتلك الليلة.

– وماذا حدث تلك الليلة؟

– كان قد سيطر اليأس عليه , لا يمكن لرجل أن يتحمل الإهانات طوال عمره ولو لأجل عائلته , فأراد وضع حد لحياته.

– أتقصدين ينتحر ؟

– كان ثملاً حين أخذ مسدس جدك وهم أن يطلق النار على رأسه , لولا أن وصلت والدتك بذات الوقت , المسكينة أرادت أخباره أنها تنوي ترك بيت والديها والعودة إلى باريس معه , لكنها صدمت حين رأته و أرادت سحب المسدس من يديه ولكن أثناء شجارهما أُطلقت رصاصة أردتها قتيلة.

– ولكن لماذا ؟ لماذا لم تخبري الشرطة بما رأيتِ؟

-هددني جدك بطردي من المنزل , كان لا مأوى آخر لي , فآثرت الصمت على التشرد.

ركضت مسرعة إلى والدها , جلست بجانبه تمسح على رأسه حتى أفاق, نظر بعينيها وقال بصوت متقطع متعب : ألكسندرا.

-لا يا أبي , بل ماري ، أبنتك ماري.

– ماري ، لقد أصبحتِ شابة جميلة يا ابنتي , تشبهين والدتك , أتعلمين يا ماري ..أنا قتلتها…أنا قتلتها.

وهي تكاد تختنق من البكاء أجابته :

لا.. لم تقتلها ، كان حادثاً ، لم تقتلها…وضمته إلى صدرها بقوة.

-بلى…قتلتها…أنا من قتلها ..أتعلمين متى؟

قتلتها يوم أحببتها…..ثم أسلم روحه للّه.

النهاية……

تاريخ النشر : 2018-02-14

وفاء

الجزائر
guest
54 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى