اساطير وخرافات

حب هنار: قصة من التراث الكوردي

بقلم : امرأة من هذا الزمان – سوريا

أحبها الآغا حباً شديداً وكانت مدللته ومدللة أخوتها
أحبها الآغا حباً شديداً وكانت مدللته ومدللة أخوتها

 
حب هنار أو حبة الرمان هي قصة شعبية من التراث الكوردي روتها لنا والدتي حفظها الله مراراً في ليالي الشتاء الماطر و أحببت أن أقصها لكم أعزائي الكابوسيين لنستمتع بأحداثها ونأخذ منها العبرة.

لنبدأ بسم الله الرحمن الرحيم :

يُحكى أنه في إحدى قرى كوردستان كان هناك إقطاعي يسمى الأغا سربست وكان رجلاً طيباً وكريماً وقد رزقه الله من كل شيء مال و أراضي وممتلكات و زوجة صالحة ومن الأبناء ثمانية ذكور ، ولكن الآغا كان يتمنى في قرارة نفسه أبنة أنثى لتكون الحنونة التي ستحمله و زوجته في كبرهما ، وأذن الله أن يتحقق حلم هذا الرجل الطيب فحملت زوجته وأنجبت له تلك الابنة و لشدة فرحه بها سماها “حبهنار”.

ولكن شاء القدر أن تموت زوجته أثناء ولادة صغيرته ، حزن الآغا وأهل بيته والناس في القرية حزناً شديداً ولكن الصغيرة الجميلة عوضته قليلاً عن غياب أمها ، أحبها الآغا حباً شديداً وكانت مدللته ومدللة أخوتها وكانت لا تطلب الطلب مرتين لشدة حبهم لها.

مرت الأيام وكبرت حبة الرمان لتكون أجمل فتيات القرية و أكثرهن خلقاً وتهذيباً وعلماً و ديناً ، وكانت كلما تمشي في السوق يحيط بها أخوتها الثمانية من كل جانب ليحموها حتى من نسمة هواء قد تؤذيها.
وكان هذا الجمال والحب والمعاملة سبباً كافياً لتغار منها كل فتاة رأتها وليعشقها كل شاب وقعت عينيه عليها.

كبر الأخوة وأصبحوا ٨ رجال ضخام وأقوياء وآن لكل منهم أن تصبح لديه زوجة وأسرة ولكن الأبناء خجلوا من أبيهم فطلبوا من أختهم أن تخبر والدهم برغبتهم لأنهم كانوا يعرفون جيداً بأن الآغا لن يرفض لأميرته أي مطلب.

فرح أبوهم بذلك فرحاً عظيماً وراح يخطب لهم بنات الآغاوات والشيوخ والعلماء ، وكان رضا حبة الرمان عن العرائس هو أهم شروط سربست آغا ، أختار الأب وابنته العرائس الثماني و زوج أولاده جميعهم في يوم واحد وأقيمت الأعراس والمآدب لسبعة أيام وليالي ، أحب الآغا زوجات أبنائه و فرح بهن فرحاً عظيماً فقد أصبح لديه ثماني بنات وعاملهن أفضل معاملة ،  ولكن سيدة قلوب الجميع كانت حبة الرمان وهذا كان سبباً كافياً لإيقاد نار غيرة زوجات الأخوة اللاتي كن يتمنين ذلها وموتها لما رأينه من حب عمهن وأزواجهن لها مع أنها كانت لطيفة معهن وتحبهن ولا تضمر لهن أي حقد ، ورحن يتشاورن ويتهامسن ويحكن المؤامرات عليها وأحس الآغا بشر نفوسهن ولكنه ما كان ليظلمهن بإحساس في قلبه ، ولكن من التي ستتجرأ على الاقتراب منها أو رميها ولو بوردة سيكون ذلك اليوم آخر يوم لها في القرية أو ربما في الحياة  فالآغا ما كان ليسكت عن ظلم يصيب ابنته أو أذى يُحاك ضدها.

ومرت الأيام والشهور و سربست آغا في انتظار يوم السعد و المنى عندما يفرح بأميرته الصغيرة التي أصبحت شابة بعمر الزهور و يزوجها لأبن أحد الآغاوات أو ربما فارس شجاع أو تاجر كبير يليق بجمال وأخلاق ابنته الجميلة ، ولكن لا شيء في الحياة يمكن أن يكتمل فالموت كان أقرب اليه..

مرض الآغا مرضاً شديداً و شعر باقتراب أجله ، فنادى أولاده الثمانية ليوصيهم آخر وصاياه وكان رأسه في حجر حبة الرمان ، التف الرجال الثمانية حول سرير أبيهم الذي خاطبهم بحزن و قال : ” يا أبنائي كنتم لي قرة أعين ونعم الأبناء ، تعملون في حقلكم وتعتنون برزقكم ، قلبي راض عنكم وأوصيكم بأن تسعدوني في قبري كما أسعدتموني في بيتي ، أوصيكم بالفلاحين خيراً و لا تنسوا الفقراء والمساكين والصدقة ، وكونوا يداً واحدة فيد الله مع الجماعة ، وأحرصوا على أختكم ولا تنساقوا وراء كيد النساء ، أختكم ، أختكم ، أختكم هي مفتاح رضاي عنكم وإن ظلمتموها فليغضب عليكم الله . تلك كانت آخر كلماته ، مات الآغا وهو يوصي الأخوة بأختهم وكأنه كان يشعر بما سيحل بها من بعده ، عم الحزن في قلوب كل أهل القرية واتشحت النساء والرجال بالسواد وبكى الصغير والكبير حزناً على ولي نعمتهم من بعد الله.

أما حبة الرمان فكان حزنها الأشد ، ظلت تبكي وتبكي لأيام و ما عادت ضحكتها تزين شفتيها ، ولكن أخوتها لم يتركوها على هذا الحال فصاروا يغمرونها بالحلي والهدايا ويأخذونها في رحلات ويفعلون المستحيل حتى ترضى وتفرح وتعود شمعة بيتهم ، ومرت الأيام في القرية وعادت السعادة مؤقتاً اليهم لأن القادم أعظم ، وصلت نار غيرة زوجات الأخ إلى أوجها فأصبحت قلوبهن مليئة بالغل تجاه هذه الشابة الرقيقة و ذنبها الوحيد هو حب أخوتها لها وامتثالهم بوصية والدهم ، فإحداهن تقول لزوجها : أختك تقضي كل النهار تتجمل وتتزين لمن هذا يا ترى ؟ فيخرسها ، والأخرى تقول : انكسر ظهري بأعمال المنزل وأختك لا تعمل إلا القليل ، فيسكتها ، و رحن يرمين الفتاة بسهام غيرتهن مع أنها كانت بريئة من كل ذلك ، حتى خطرت في بال كبراهن خطة شيطانية ستقلب المنزل فوق رأس أهله ، سوف يطعن الفتاة بأغلى ما تملك ، شرفها ، وبدأت النساء في حياكة خيوط المؤامرة ..

و جاء اليوم المشؤوم فطلبت من زوجها أن يصطحبن حبة الرمان في نزهة إلى نهر مجاور في القرية بحجة إسعادها والترويح عنها ، فرح الأخ بذلك فرحاً عظيماً وسألها عن طلباتهن ؟ فقالت : لا نريد إلا القضامة المالحة (حبات حمص مملحة ومحمصة بطريقة خاصة ) لنتسلى بها على الطريق ، وفعلاً خرجت النساء الثمانية ومعهن حبة الرمان وظلت النساء كل الطريق يطعمنها القضامة حتى جف حلقها من العطش لشدة ملوحتها ، فطلبت منهن الماء ، وهنا جاء وقت تنفيذ مخطط التخلص منها فقد وضعت زوجة الأخ الكبرى فرخ أفعى في قارورة الماء ولشدة عطش حبة الرمان لم ترى أو تحس بذلك الفرخ و رفعت قارورة المياه و شربتها كلها حتى آخر قطرة فدخل الثعبان الصغير لبطنها ، ومرت الأيام والثعبان يكبر في بطن الشابة و راحت نساء البيت يتهامسن مع أزواجهن عن بطن أختهن التي تكبر يوماً بعد يوم مشيرات بذلك إلى أنها حملت حراماً.

جُن جنون أخوة حبة الرمان التي كانت تتألم بصمت دون أن تعلم ما خطبها ، ولشدة خوفهم من الفضيحة قرروا قتلها و وافقتهن نساؤهم على ذلك القرار بحجة غسل العار ، فأوكلوا المهمة لأخيهم الصغير الذي كان أشدهم حباً لحبة الرمان ، فقرر أخذها للغابة و قتلها ، وفي نهار اليوم التالي أخبر الأخ أخته أنه يرغب بزيارة خالتهم التي تسكن في إحدى القرى البعيدة وعرض عليها الذهاب معه ، فرحت حب الرمان كثيراً و وضبت أغراضها وساروا في دربهم ، راح الأخ يسير في الغابات والجبال الموحشة لساعات وساعات وهو يتهيأ لقتلها ولكنه في كل مرة يتذكر وصية أبيه وحبه لأخته فيقول في قرارة نفسه لنمش قليلاً بعد ..

وحل الليل والأخ لم يقم بواجبه بعد فخطرت في باله فكرة بأن يترك أخته في البرية لتأكلها الوحوش فيغسل عاره و يقوم بما أوكل اليه ولا يلوث يديه بدم غاليته و وصية والده له ، وفعلاً قال لها : أختي أنا تعبت و انهكت من السفر ، ما رأيك أن نبيت هنا الليلة و غداً نكمل ؟ فوافقت حبهنار وقالت له وهي خائفة من ظلام الغابة : بشرط أن أنام على عباءتك ، و فعلاً نام الأخ وفرش عباءته تحت رأسها وانتظرها لتنام ، وما إن أحس بغفوتها حتى قام بسكينه بقطع جزء العباءة الذي افترشه رأس أخته بعد ما وضعت أمان العالم كله بأخيها وسار في الظلام تاركاً أخته في تلك الغابة الموحشة المظلمة التي لا يقطع عتمتها إلا ضوء بدر في السماء ولا يسمع فيها إلا عواء ذئب ونحيب بومة جائعة.

blank
وجدت نفسها وحيدة فراحت تبكي

حل الصباح واستيقظت حب الرمان و يا للهول لم تجد أخاها! أحست بهم وحزن شديد وراحت تبكي وتنوح وما زاد همها ألام بطنها الشديدة فكانت تحس بسكاكين تقطع أمعائها ولشدة حزنها رفعت يديها إلى السماء ودعت قائلة : “يا رب إن كان أخوتي فعلوا هذا بي عمداً فيبس زرعهم وجفف مائهم وعقر دوابهم ونسائهم و ليصيبك الله يا أخي الصغير بمرض لا يشفيك منه غيري” ، وحملت قطعة العباءة تلك و وضعتها في كيس قماشي كانت تضع فيه حليها ، وفجأة سمعت أصوات حوافر خيول قادمة نحوها وصياح رجال وكأنهم صيادون أو قطاع طرق ، فلم تر أمامها إلا أن تتسلق تلك الشجرة التي نامت تحتها هي وأخوها… تسلقت الشجرة واستقرت فوقها بخوف وترقب ، كانا رجلين أحدهما وهو شاب جميل الوجه تبدو على هيأته وهندامه أنه من علية القوم والآخر كأنه خادم له ، وقف الرجلان تحت ظل الشجرة ليرتاحا قليلاً فارتبكت حب الرمان وخافت و أوقعت شيئاً من أغراضها ، وهنا رفع الشاب رأسه وعرف بوجود أحدهم فصاح إنس أم جان ؟ فلم ترد عليه من خوفها.

أمر الشاب خادمه بأن يصعد ويستطلع الأمر وقال له : “إن كان إنسا فهو لي ، وإن كان جانا أو كنزاً أو صيداً فهو لك” .

صعد الخادم وانصدم بوجود أجمل فتاة رأتها عيناه حتى أنه نسي سيده في الأسفل ، صاح عليه الشاب منبهً إياه : “ها يا غلام ما يكون ؟”
فقال : “هي فتاة” ، وانزلها ونزل ..

نظر السيد اليها نظرة جعلته يذوب بعشقها ولكنه لأحظ ارتجافها خوفاً فطمأنها وقال لها : “عليكِ الأمان” ، وأخذها معه إلى قصره وعندما وصلوا رأت الكل يرحب به وينادونه الأمير علي “مير علي” وصل الثلاثة إلى قاعة استقبال القصر وهنا أخبرها الشاب بأنه أمير البلاد وهذا خادمه و سألها : “من أنتِ ؟” ، فخافت إن هو عرف قصتها أن يرسل وراء أهلها ، فقالت له : “أنا ابنة راعي غنم وتهت عن أبي وبيتي بعد أن خرجت ابحث عن دواء لألم أصاب بطني”.

blank
الامبر اعجب بحب الرمان واحبها من اول نظرة

أمر الامير طبيبة القصر أن تكشف عليها لتعرف علة بطنها إن كانت صادقة أو هي زانية هربت خوفاً من العقاب ، فقالت الطبيبة أن الفتاة طاهرة شريفة و أن ما ببطنها هو من طرف البطن وليس الرحم ، و أعطتها دواء قائلة : “إن كان شيء في بطنك العلوي فستتقيائينه أو يخرج ، وإن كان من بطنك السفلي فسيخرج أيضاً” ، شربت الفتاة الدواء وأحست بثقل في رأسها وغابت عن الوعي و راحت بطنها تصدر أصواتاً وتغرغر وكأن فيها طبلاً ، وكل ذلك تحت مراقبة الطبيبة والأمير وبعض الحاشية ، وفجأة ظهر رأس أفعى من فم الفتاة و راحت تزحف خارجة من فمها ، وإذا بالفرخ قد اصبح حية كبيرة زحفت خارج فم الفتاة المسكينة ، ضرب الأمير تلك الأفعى بسيفه ففصل رأسها عن جسدها ، وبين استغراب وتساؤلات وخوف الجميع بدأت الفتاة تستعيد وعيها وتفاجأت ببطنها قد عادت كما كانت ، وسألتهم عن الذي حصل ؟ فروى الأمير لها بالتفصيل و أراها الحية و رأسها المقطوع.

بكت حب الرمان بكاء حزن لما آل اليه حالها ممزوجاً بسعادة تخلصها من ذلك الألم وبيان صدقها ، واحتفظت بذلك الرأس الملعون في كيسها القماشي. طلب الأمير منها الزواج فوافقت وأقام لها الأفراح وعاشا معا في سعادة وأنجبت له ولدين كالأقمار ، ولكن وبعد تلك السنين اشتاقت حب الرمان لأخوتها و تسألت عن أحوالهم وأصابها حزن لم يعرف له الأمير سبباً ، فسألها عن سبب حزنها ؟ فقالت له : “أنت الآن زوجي يا مير علي وأنا سأخبرك قصتي كاملة ، ولكن بشرط أن تعدني بالسماح لي أن أزور أهلي” ، وقصت عليه القصة ، فاستغرب الأمير لقصة زوجته ومدى الظلم الذي تعرضت له فأمر لها بعربة تأخذها هي و ولديها وخادمه المخلص إلى أهلها وأمهلها شهراً تعود من بعدها ، فرحت بذلك فرحاً شديداً ولكنها لم تعلم بأن ظلماً جديداً ومكيدة قبيحة تحاك ضدها ، فبعد مسيرة أيام على الطريق… جن جنون الخادم ولعب بعقله الشيطان و راود الأميرة عن نفسها فرفضت ذلك رفضاً شديداً فأخذ أحد ابنيها وقال لها : “اذاً سأذبح أبنك” ، فقالت له : “ذبح أبني عندي أهون من أن أسلمك شرفي يا خائن الأمانة” ، وفعلاً ذبحه.

جاءت الأم المكلومة إلى ولدها تبكيه و راحت تحتضنه وتحتضن أخاه الحي وطلبت منه أن تدفن صغيرها و في غفلة عن الخادم قطعت أذني أبنها و وضعتهم في كيسها القماشي ، وامسكها ذلك النذل واكملا طريقهما وهي خائفة على أبنها الثاني و حصل ما كانت تخاف منه فقد راودها عن نفسها ثانية و لكنها رفضت للمرة الثانية فقتل فلذة كبدها الثاني ، وطلبت منه ثانية أن تدفنه وفعلت بأذنيه ما فعلت مع أخيه ، كانت خائرة القوى فالخادم قد حرمها الطعام والماء وقتل ولديها  ، وعاد و راودها عن نفسه فقالت له : “إنها موافقة بشرط أن يسمح لها أن تذهب لتقضي حاجتها وراء صخرة” ، فوافق وهو سعيد ظناً بأنه سيحصل مراده ، ولكن الأميرة خيبت ظنه فراحت تركض بين أشجار الغابة بأسرع ما تقدر وتبحث عن مكان تختبئ فيه والخائن يلحقها ويتوعدها بالقتل وفجأة سقطت الأميرة في نهر ماء وأخذها تيار الماء القوي الشديد البرودة ، فقال الخادم في نفسه أكيد أنها ماتت من السقطة أو برودة الماء ، سأعود إلى القصر وأخبر الأمير أنها هربت مع ولديها ولم أستطع اللحاق بها ، وعاد أدراجه ظناً منه بأن الأميرة ماتت ، ولكن ما كان الله ليتركها تموت قبل أن تأخذ حقها ممن ظلموها.

أرست مياه النهر الأميرة على ضفة إحدى القرى وتفاجأت الأميرة كيف أن الماء في ذلك الجزء من النهر شحيح جداً على الرغم من غزارته في باقي الأجزاء! نظرت حولها فلم ترى إلا راع نحيل يظهر البؤس على معالمه يرعى معزتين تكاد تظهر عظامهما من شدة الجوع ، فسألته: “أين أنا ؟” أجابها : “أنت في قرية سربست آغا” ، فسألته : “ولماذا الشجر كله يابس والماء شحيح عندكم ، و أين ماعزك التي ترعى مع أن الدنيا ربيع وهو وقت اخضرار الزرع وتدفق مياه ذوبان الثلوج و ولادة الماعز والأغنام والأبقار ؟”.. فأجابها الراعي بحزن وألم : “منذ أن رحلت عنا سيدة القرية حبهنار ونحن في قحط ومجاعة فمنذ سنوات لم يخضر زرعنا حتى أننا أكلنا الحشائش اليابسة ولم يجري مائنا حتى أننا انتظرنا دوابنا لتبول فنشرب بولها ، ولم تلد حيواناتنا ونساؤنا  وعم الحزن والخراب كل القرية ، و ما زاد ذلك الحزن مرض أصاب الآغا الصغير عجز عنه كل الأطباء وهو راقد في سريره لا هو ميت ولا هو حي”.

وقفت حبة الرمان أمام النهر ودعت الله قائلة : “يا من عرفت أنني مظلومة وقبلت دعائي أول مرة أقبل دعائي ثاني مرة ، يا رب أكثر مائهم وانبت زرعهم وخصب أناثهم حتى لتلد أحداهن في الحال ومن غير شهور حمل”. ، وما أن أنهت جملتها حتى جرى الماء في النهر ونبت العشب الأخضر كالمعجزة وصاح الراعي لهول ما رأى فقد وضعت كل واحدة من معزاته ٣ صغار وامتلأت ضروعهن حليباً ، فسألها عمن تكون وهل هي ملك من السماء ؟ فأجابته : “ستعرف من أنا في الوقت المناسب ، ولكن ألا تعطيني شيئاً جزاء دعائي هذا ؟”. فقال لها : “أطلبي ما تشائين ؟” فقالت له : “أريد كأس حليب أشربه و جدياً صغيراً أكله والـ(كورك)الذي عليك البسه” ، والكورك هو عبارة عن عباءة من فراء الغنم والماعز يلتف بها الرعاة لتقيهم البرد ، فقال لها : “لك ما طلبتي”.

وشربت حبة الرمان الحليب وذبح لها الجدي وشواه لتأكل لحمه وطلبت منه كرش الجدي الصغير وأخذت الفروة و ذهبت ، خبأت شعرها بكرش الجدي وغطت رأسها بالفروة ولفت نفسها بها و دهنت وجهها ببعض رماد الشوي ، فبدت كمتسولة قبيحة قرعاء ، واتجهت تمشي في القرية التي بدأت تعلو فيها أصوات السعادة والفرح لعودة الخير والماء ، وصلت إلى بيت أهلها ولكنه على عكس أهل القرية كان صامتاً ولا يُسمع منه إلا صوت بكاء خافت ، دقت الباب وفتح لها أخوها الكبير ، اخفت شوقها وكبتت مشاعرها وقالت له : “هل من خبزة لهذه الفقيرة ؟” فقال لها : “اذهبي عني واتركيني في حالي” ، فقالت له : “و ما بك حتى ترفض أن تطعم هذه المسكينة ، أخبرني فقد أساعدك ؟” فقال لها : “و من أنتِ أيتها القرعاء القذرة لتساعديني ، لقد عجز حتى طبيب الهند عن مساعدتي فأخي الصغير طريح الفراش منذ سنوات ولم يُعرف دوائه وها هو لا ميت ولاحي” ، فقالت له : “و كيف مرض ؟” قال : “كان عائداً من الغابة و داس على شيء حاد ألمه بشدة ومنذ وقتها وهو غائب عن وعيه” ، قالت له : “وماذا إن شفيته لكم بإذن الله ؟” فقال لها : “تطلبين ما تشائين ولو كانت كل أملاكنا و أموالنا”.

دخلت معه حب الرمان و فجعت حين دخلت غرفة أخيها فكان أخوته السبعة مع نسائهم و زوجته يجلسن حول السرير ويبكون ، أبعدتهم المتسولة عن السرير وجلست عند رجلي أخيها وقالت لهم : “قبل أن أداويه أريد أن أقص عليكم قصة” ، وافق الجميع على مضض و راحت تحكي قصة فتاة أخذنها نسوة أخوتها في نزهة وقمن بمؤامرة شيطانية ضدها و رحلتها المشؤومة مع أخيها ولقائها بأمير عالجها وتزوجها وانجب منها وشوقها لأهلها رغم ظلمهم و فعلة الخادم الشنيعة معها وقتله ولديها وما آل اليه حال قريتها و أهلها من بعد ما ظلموها ، فصُدمت النساء من شدة الخوف و سألنها : “من أنتِ وكيف عرفتي ذلك ؟” فأظهرت رأس الأفعى وقطعة العباءة وأذني أبنائها و قالت : “والله لا احكي ولا أشفي هذا العليل حتى تعترفن بمؤامرتكن” ، فقصت زوجة الأخ الكبير القصة كاملة أمام الجميع تحت تهديد زوجها لها بالسيف وقطع رأسهن واحدة ، واحدة ، وهنا راح الأخوة يبكون لما فعلوه بأختهم ويطلبون من الله لقائها ليستسمحوا منها و ليغفر الله لهم ويرضى والدهم عنهم في قبره ، وطلبوا من المتسولة أن تدلهم عليها ، في تلك اللحظة أزالت حب الرمان الكورك و أزالت الكرش عن رأسها وقالت : “ها أنا يا أخوتي” ، و وقفت عند قدمي أخيها ودعت قائلة : “اللهم كما أصبته بالمرض فاجعل شفائه على يدي” ، وما إن لمسته حتى خرجت من قدمه شوكة سوداء بحجم اصبع أتضح أنها شوكة مسمومة تعود لإحدى الحيوانات واستيقظ الأخ على الفور و رأى حوله أخوته وحبهنار فاحتضنها و راح يبكي ويطلب منها السماح ، أخبرتهم كل ما جرى معها بالتفصيل وطلبت منهم أن يرافقوها لقصر زوجها أمير البلاد حتى تروي له ما حصل لها من بعده.

رافقوها إلى المدينة بعد توعدهم لزوجاتهم بالعودة والانتقام ما أن ينهوا عودة أختهم إلى زوجها ويشرحوا له ما حصل معها ، دخلت اليه مع أخوتها الثمانية و رأته جالساً على كرسيه حزيناً وبجانبه الخادم النذل الذي أخبره أن زوجته هربت مع ولديه وعشيقها ، وأمرت الجنود بأن يعتقلوا ذلك الخائن وشرحت مع أخوتها كل ما حصل معها وأرته أذني ولديها دليلاً على براءتها ، طبعاً صدقها زوجها وأمر بإعدام الخائن وعادت إلى زوجها وأهلها معززة مكرمة وعوضها الله كل حرمان ذاقته  وأنصف القدر حبة الرمان بعد أن ظلمها البشر ونصر الله الحق على الظلم بعد عذاب مرير ولسنوات عانته شابة صغيرة تدعى “حبهنار”.

النهاية ..

تاريخ النشر : 2019-12-13

guest
35 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى