أدب الرعب والعام

حدائق الأثام

بقلم : مصطفي جمال – مصر
للتواصل : https://www.facebook.com/profile.php?id=100012779294789

القاتل واقفاً ينسل الدم من بين يديه دون انقطاع مبتسماً في وجه الملاك الواقف إزاءه مراقباً المكان بهدوء
القاتل واقفاً ينسل الدم من بين يديه دون انقطاع مبتسماً في وجه الملاك الواقف إزاءه مراقباً المكان بهدوء

 
هي حديقة أمتزج فيها الجمال بالبشاعة ، الهدوء بالفزع ، أريج الزهور بنفحات تعفن الجثث المتبعثرة بين الورود التي تقطر الدماء ، كأن حرباً اشتدت بين تلك الحقول الخلابة فأفسدت هدوئها و رونقها البديع بدماء الآثمين المتحاربين.

وبين تلك الأكوام من البقايا والدماء المتعفنة القديمة ظل أحدهم ممسكاً حجراً يهوي به على رأس إحدى الجثث دون توقف رغم تهشمها واندثار ملامح صاحبها كليةً ، كان يفعل كل ذلك بهدوء و اطمئنان كأنه اعتاد القتل.

رمى الحجر الثقيل المدنس بالدماء بعيداً ملقياً نظراته الهادئة الفارغة التي تغرق من يراها في الفزع على أحد الناجين قائلاً :

” أنت من تبقى”.
لم يستطع لسانه كلاماً من شدة ما أصابه من هلع أرقد كل جسده في شلل سرمدي حتى ظل محدقاً في تلك الابتسامة التي ارتسمت على وجه القادم إليه ، فلا يملك أن يبعد نظراته عن العينين المحدقتين فيه رغم ما تشعرانه به من فزع أصابه بهذا الصمت المدقع.

استل سكيناً من إحدى الجثث واكمل مسيره ، لكن قبل أن يصل إليه سأله الأخر متلعثماً :
“ل..ل. ماذا فعلت كل هذا ؟ “.
” لأنه طلب مني هذا “.
” من ؟ “.
” أحد الملائكة “.
قالها بفخر مشبع بالحماس :
” وعدني بأن يجعلني خالداً بهي السيماء ، مليئاً بالمجد ، مطهراً من الدنس ، سامياً عن الخطأ ، كامل المعرفة و المقدرة “.

” لا يمكن ، لا يمكن ، لا يمكن .. أأنت مجنون ، كيف لملاك طاهر خير أن يطلب منك شراً ؟ لعله شيطان ، أجل .. بالتأكيد هو شيطان ، لماذا بحق كل شيء سيطلب منك ملك أن تدنس يدك و تقتل دون سبب ؟ “.

قال ضاحكاً :
” لم أرى يوماً شيطاناً يشع ضواءً يتطاير حوله ريشاً أشد سطوعاً من شمس الصباح ونجوم المساء ، أكثر بياضاً من السحب ، يحدثك بصوت لم تسمع ما يماثله جمالاً ، و لن تسمع أبداً لأنك ستموت الآن ، أكمل ضحكه.

” لكن لماذا ؟.. لماذا ؟ ..  لماذا ؟ “.
قال وهو يداعب وجه الشاب المرتعب بسكينه البارد:
” لكي يتخلص العالم من دنسكم ، فقد أثقل بالخطايا و الفساد و حان اليوم الذي يجب فيه أن يعود لطهارته الأولى ، أنتم الأكثر دنساً على الأرض و بموتكم سيعود العالم مثالياً كما كان يوماً ، وقد نلت أنا شرف التطهير لأنني الأشد طُهراً ” .

ارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة حتى كادت أسنانه تلوح ، ثم اطلق شبه ضحكة احتفالاً بدنو نصره و نيل مجده ، ثم اتجه لضحيته القادمة ببطء مائلاً برأسه على كتفه و ناظر إليه بفرح.

قال بكل يأس قد ملكه و بكل خوف أدركه :
” أقسم لك .. أقسم لك بكل ما أحببته وعززته أنني لم أقتل ، أو أسرق ، أو أظلم أحداً طوال حياتي .. أقسم لك .. فأرجوك صدقني .. أرجوك.. حتى أسأل من أرسلك.. لو كان حقاً ملاكاً أتاك من السماوات سينصرني”.

وضع السكين على رقبته وحركها ببطيء ، غير مبالياً بتوسلاته اليائسة مستمتعاً بصيحاته المكتومة.

” قد يخطئ في أي شخص ، لكنه أبداً لن يخطئ بمن وضعه في رأس القائمة ، أتظنني وضعتك في أخر القائمة عطفاً ؟ لا ، بل لأتلذذ بصيحات ألمك الأشد إثماً على الأرض ، ولأجعلك تذوق ألم  وخوف و كراهية كل شخص أذيته في حياتك القذرة “.

أنهى رقبته تاركاً سيلا من الدماء الممتزجة بالدموع يسيل دون توقف ، مكوناً أنهاراً متشعبة ومتقاطعة أمام رأسه التي ظلت علامات الخوف والصدمة مرتسمة عليها كغيرها من الجثث.

سطع من السماء نوراً وانتشر في الأنحاء ريش ناصع البياض ماحياً كل شيء في الوجود عدى الجثث والدماء ، فصار الكون فضاء حليبي اللون تشوبه مئات الجثث المترامية على مرمى البصر ، فلا يمكنك أن ترى الوجود الأبيض ناصعاً إلا بين الحدود الدامية الفاصلة بينها.

و في قلب فوضى الدماء تلك ظل القاتل واقفاً ينسل الدم من بين يديه دون انقطاع مبتسماً في وجه الملاك الواقف إزاءه مراقباً المكان بهدوء.

اتجه ناحيته بذات الهدوء محتضناً إياه بشدة دون أن يتلطخ ردائه بالدماء ، فابتسم مطلقاً ضحكة ملئ الفضاء بصداها ، حل بعدها صمت أعاد الوجود لهدوئه.

وقعت جثته بين أحضان الملاك الذي ما أنفك أن تركها منسلاً منها سكينة التي غرزها في قلبه هامساً في أذنه :
” الآن مات الأكثر دنساً في الأرض “.
غادر المكان محلقاً و قد صار الوجود دامي اللون بأكمله ،, فلا يكاد للرائي أن يدرك أنه كان يوماً ناصعاً أبيض اللون بكامله.
 
النهاية …….
 

تاريخ النشر : 2020-02-14

guest
11 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى