أدب الرعب والعام

حنا مسعودة – قاطنة الكهف

بقلم : محمد بن علي – المغرب

فجأة ظهرت مسعودة أمامه كأنها خرجت من الأرض الواقف عليها
فجأة ظهرت مسعودة أمامه كأنها خرجت من الأرض الواقف عليها

أشرقت شمس ذلك اليوم ، و أطلت بأشعتها الذهبية على الجبلين اللذين يطلان على مدينة شفشاون، ونشرت الدفء بين أزقتها الضيقة .

استيقظ فتاح من نومه على وقع صراخ أمه ، تحثه على النهوض من فراشه ، فقطيعه من الغنم والتيوس ينتظره خارج المنزل ،  أخذ قطعة خبز أسمر و بضع حبات من التين المجفف و قربة ماء فارغة .

ساق قطيعه بين دروب المدينة المرصفة أرضيتها بصخور متراصة زلقة ، حتى وصل إلى منبع رأس الماء ، ذلك الينبوع الذي يجود على سكان المدينة بمياه لا تقل ولا تندر طيلة السنة.

ملأ قربته واستعد للصعود أعلى قمة الجبل الأقرع كما يسميه سكان المدينة حيث الغابة الكثيفة والمراعي الخضراء ،  اقترب من طريق يقطع الجبل إلى نصفين ، وتوجس خيفة لأنه مقبل على المرور أمام كهف نخر الجبل من الوسط ، كهف يخاف المرور من أمامه سكان المدينة بسبب الأصوات المرعبة الصادرة منه ليلاً ، فلا أحد يملك القدرة على الصعود إلى الجبل بعد غروب الشمس.

وصل فتاح إلى الممر المؤدي إلى الكهف ، و قطيعه يتسابق للوصول إلى القمة حيث المرعى الخصب ، رآها جالسة أمام باب الكهف ، تمشط جدائل شعرها الأسود الطويل ، اختبأ خلف جلمود ، وأخذ يتفحصها من بعيد ، فوجدها تحدق إليه بعينين واسعتين جميلتين ، أشارت إليه بالاقتراب منها وعدم الخوف ، وأعطته الأمان بابتسامة ساحرة . اقترب بحذر و باله منشغل بقطيعه الذي سبقه و لم يعد يسمع ثغاءه .

– من أنت أيتها الغريبة ؟ سألها وهو يحاول ترك مسافة بينها و بينه .
– أنا مسعودة ، وما أدراك أنني غريبة ؟ .
– لأنني أعرف نساء وبنات المدينة ، هل أنتِ إنسية أو جنية ؟.
ضحكت حتى أطلت أسنانها من ثغرها الجميل ، ثم أردفت قائلة:
– قم باللحاق بقطيعك يا فتاح ، و ستجدني أنتظرك في نفس المكان عند عودتك في المساء .
 أرسل نظره نحو الأفق باحثاً عن قطيعه ، و أدار رأسه بسرعة نحوها ليعرف كيف عرفت اسمه ، لكنه لم يجد لها أثراً ، أخذ منه الخوف مأخذاً حتى وقف شعر رأسه ، و أرسل أرجله للريح لاحقاً بقطيعه .

اقتربت الشمس من الغروب ، فاستعد الرعاة للنزول إلى المدينة ، سلك الجميع الطرق الأطول حتى يتجنبوا المرور أمام الكهف ، أما فتاح فأراد أن يعرف المزيد عن مسعودة أو لعله أراد أن يتأكد من كونها حقيقة أم أنها ضربة شمس جعلته يتخيل ما وقع ، وصل الكهف ، فوجدها جالسة أمامه ، مشغولة بتصفيف شعرها ، فقالت دون أن ترفع وجهها نحو فتاح :
– لقد تأخرت كثيراً !.

لم يكترث فتاح لما قالته :

– هل أنتِ جنية ؟ قالها و هو يحاول الجلوس على صخرة قبالتها .
– ألم تتأكد بعد ؟.
– إذن أنتِ من تصدرين تلك الأصوات المرعبة ليلاً؟.
– ليس صوتي وحده من يصبح مرعباً ، شكلي أيضاً ، هذه لعنتي ، جميلة نهاراً ، و وحشاً مخيفاً ليلاً .

خاف فتاح عند سماعه ما سمع ، و خاصةً و أن قرص الشمس قد اقترب من المغيب ، و تحجج باللحاق بقطيعه و استأذن مسعودة للذهاب ، طلبت منه الانتظار و ناولته قطعة فحم أخرجتها من باب الكهف ، و طلبت منه أن يضعها في جيبه و أن لا يخرجها حتى يصل إلى المنزل ، واختفت وسط ظلام الكهف ، تفحص قطعة الفحم بيده و وضعها في جيبه و انطلق مسرعاً نحو منزله محاولاً اللحاق بالقطيع .
 
على مائدة العشاء ، حكى فتاح لأمه ما حدث ، فظنت أنه يكذب ، لكنه أخرج قطعة الفحم ليبرر كلامه أمام أمه ، فكانت المفاجأة التي ستحول أفراح المدينة إلى أحزان و مآتم ، لقد تحولت قطعة الفحم إلى قطعة من الذهب الخالص .

انتشر الخبر داخل أزقة المدينة ، و انقسم سكانها إلى مصدق للقصة و غير مصدق لها ، تشجع أعتى الرجال للصعود إلى الكهف طمعاً في قطعة أو قطعتين من الذهب من الجنية الطيبة تريحهم من الفقر و الفاقة ، لكن دون نتيجة تُذكر ، فمسعودة لم تخرج من كهفها منذ ذلك اليوم ، أو هكذا كان يُخيّل إليهم ، فقد كانت تسمع صياحهم و صراخهم خارج الكهف طالبين العودة إلى منازلهم غانمين ، فرحت بالأمر و كأنها تسر داخلها سراً خطيراً .

مرت الأيام و فتاح يمر من أمام باب الكهف لعله يجد مسعودة الطيبة فقطعة الذهب الوحيدة لم تشفي فقره بل أنبتت في جوفه خطيئة الطمع .

 وجدها جالسة كما رآها المرة الأولى ، وكأنها كنت تعلم بقدومه ، انفرجت قسمات وجهه فرحاً و جلس قبالتها يسألها عن سبب غيابها .

– هل أخبرت سكان المدينة عني يا فتاح ؟ كلمته و الشرر يتطاير من مقلتيها .
– نعم ، لم أجد مبرراً أبرر به لوالدتي عن قطعة الذهب سوى قول الحقيقة .
– أشم منك رائحة الجشع ، هل تريد المزيد يا فتاح؟.
– نعم ، لكنني لست جشعاً ، فأنا ……..! قاطعت كلامه وقالت :
– سأعطيك المزيد ، لكنني سأطلب منك خدمة .
– بالطبع ، ماذا تريدين ؟.

– من يريد الذهب فليرسل لي طفله الصغير ، فالفحم لا يتحول إلى ذهب إلا في أيدي الصغار غير البالغين أمثالك ، أذهب و أنشر الخبر داخل المدينة ، وعد إلى هنا بعد الغد لأخذ قطعك الذهبية.

نشر فتاح الخبر بين دروب المدينة ، فمن أراد ذهباً فليرسل أبناءه الصغار غداً إلى الجبل .
 أعمى الجشع و الطمع بصيرة الساكنة ، فمن كان يخاف البارحة الذهاب إلى الجبل ليلاً خوفاً من الكهف ، ها هو اليوم يرسل أبناءه الصغار إلى مخلوقة ليس ليست من جنسهم .

أرسلوا أبناءهم أفواجاً ، و انتظروهم أسفل الجبل على أمل عودتهم بالذهب ، فلم يظهر لهم أثر ، استبد بهم القلق و حل الظلام ، فلا مفر من الصعود إلى الجبل لمعرفة مصير فلذة أكبادهم .

 أشعل الرجال النار و صعدوا الجبل كأنهم جيش مغوار ، لكنهم عادوا هاربين بعد سماعهم عزيف مسعودة المرعب .

أعلنت الشمس عن بداية يوم جديد للمدينة ، لكنه يوم حزين لسكانها الذين لم يغمض لهم جفن طوال الليل ، كيف لا و مصير أبنائهم مجهول .

 تجمعوا حول بيت فاطمة ، الكل يريد فتاح ، هو السبب في هذه المصيبة ، و هو من سيعرف مصير الصغار ، طالبوه بالصعود إلى الكهف و الرجوع بخبر يفرح قلوبهم المكسورة ، لكن فاطمة دافعت عن أبنها  و منعته من الخروج خوفاً عليه من بطش السكان الثائرين .
مرت الأيام والحال على حاله ، دخل المدينة أحد العارفين بالله ، رجل في الستين من عمره ، ضعيف البنية ، يغطي وجهه لحية بيضاء ، لف على شعره عمامة سوداء ، متكئاً على عصا معقوفة الرأس ، جلس تحت شجرة التين أسفل الجبل قرب عين رأس الماء ، روى عطشه ، واستند على جذع الشجرة ليرتاح من تعب السفر ، فقد وصل لتوه من وزان ، مدينة العلم والفقه و رجال الدين التقاة .

رأى سكان المدينة مجتمعين في الجبل ، فانتظرهم حتى نزلوا ، فلا طاقة له للصعود إليهم ، كانت وجوههم عابسة ، وعيونهم قد اقتربت من الابيضاض من شدة البكاء ، و قد عرف منهم ما حصل ، فطلب منهم الإذن للصعود الكهف لمعرفة مصير أبنائهم ، فالرجل خبير في مساومة الجن ، فقد حرر العشرات من الأجساد سكنها الجن بكل ألوانهم و أنواعهم .

فرح أهل المدينة ، وصعدوا معه الجبل صباحاً ، فاقترب من باب الكهف و تقدم داخله واثقاً من نفسه كأنه يدخل بيته .

 تكلم العارف بالله والظلام الحالك يحيط به :

– السلام عليكم يا ساكنة المكان ، أنا عبد من عباد الرحمن ، هلا تكرمتم وظهرتم ، فقد أرسلني سكان المدينة في أمر أبنائهم .

سطع ضوء داخل الكهف ، كأن أشعة الشمس اخترقت جدران الجبل و أضاءت المكان ، بحث داخل الكهف لعله يرى شيئاً ، فجأة سمع صوتاً يخرج من جدران الكهف :

– هل تعلم أنك شجاع يا هذا ؟ فلم يجرؤ إنسي الدخول إلى الكهف منذ قرون ، منذ أن كانت المدينة أحراشاً و مرتعاً لبني جنسي ، فماذا تريد ؟.

– أريد إرجاع الأولاد إلى أسرهم المكلومة ، اظهري و دعنا نتحدث و…….
 فجأة ظهرت مسعودة أمامه كأنها خرجت من الأرض الواقف عليها ، كانت مختلفة عن شكلها التي ظهرت به أمام فتاح  ، ابتعد إلى الوراء خطوات قليلة و لم تظهر عليه آثار الخوف .

– ألم يخيفك شكلي يا هذا ؟.
أجابها :
– لا ، فقد وقفت أمام الكثير من بني جلدتك ، فلن أخرج من المكان إلا و معي أطفال المدينة.

– لا تكن واثقاً من نفسك يا رجل ، فسكان المدينة أخدوا شيئاً مقابل أبنائهم ، هم الآن سجنائي و لن أحرر أحداً  حتى و لو اجتمع الأنس و الجن معاً لتحريرهم ، الطمع و الجشع من الخطايا التي لا تُغتفر ، و سكان المدينة قايضوا معي أبناءهم . أمعنت النظر والشر يتطاير من عينيها و قالت:

– وأنت … هل ضمنت خروجك حياً من هذا الكهف ؟.
– سأخرج من الباب الذي دخلت منه .
قال كلامه وهو يشير بسبابته نحو باب الكهف . فظهرت على وجهها ابتسامة ماكرة و أردفت:

– أي باب تقصد يا رجل ؟.

أدار رأسه مسرعاً نحو الباب فلم يجد إلا جدرانا خشنة صلداء ، هرول نحو المكان الذي كان الباب يتواجد فيه ، وأخد يتحسس بيديه لعله يجد مخرجاً ، فأخد يتلو بعض الآيات من القرآن الكريم ، و يتمتم ببعض الطلاسم لعلها تحرره من هذا السجن الذي قادته ثقته في نفسه إليه .
فجأة أظلم المكان و لم يعد يسمع شيئاً ، و أيقن أنه أصبح سجيناً في العالم السفلي ، عالم مسعودة .

طال انتظار سكان المدينة أمام الكهف، وأعينهم تنظر نحو بابه يأملون خروج العارف بالله مع أبنائهم.

مرت الليالي و الشهور ، فلم يظهر أثر لهم ، واستسلم الجميع للقدر الذي كُتب عليهم ، عرفوا أنهم دفعوا ثمن خطيئتهم ، حتى فتاح لم يسلم من لعنة مسعودة ، عاد إلى رعي قطيعه أعلى الجبل ذات صباح بعد شهور من الحادثة ، لكنه لم يعد إلى منزله منذ ذلك الحين .

تاريخ النشر : 2021-06-16

guest
13 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى