أدب الرعب والعام

حين نطق المال

بقلم : لميس – الارض

حين نطق المال
نعم لقد نطق المال فأخرس صوت الحب ودفنه في دهاليز القلب

كانا صغيرين ناشئين في احدى القرى المنزوية على هوامش البلدة حين يلتقي الفقر والبؤس والحرمان ويتوقف الزمن ليوقف مظاهر الحضارة والتمدن نحو هذه البقعة الخالدة من الزمن الغابر، كبرا في كوخين متقاربين متهالكين لايشد اوصالهما غير براءة هذين القلبين وصفائهما.

كانت انجي صهباء بارعة الجمال ولقد اكتسى هذا الجمال غمامة من الحزن نثرها عليه سوء المعيشة كما تناثر النمش الخفيف على محياها، وكان بول فتى هزيلا ويختزن في قلبه رجولة ونخوة غابت لدى اعتى الرجال، ذو شعر كستنائي مالس وبشرة بيضاء صافية عليها جروح خفيفة نالها من عمله المضني في مزارع القطن التي يملكها السيد جارد ذو البطن المنتفخة من كد الفقراء.

كانت فتوة كل منهما مسلوبة فحتى هي كانت تشتغل في غزل الصوف وغسل ملابس الاغنياء هي وحيدة مع أم عجوز بعد وفاة والده، أما هو فعاش مع أخوه بعد ان انفصل والداه ومضى كل منهما في حال سبيله، وفي يوم عثر أخوه على وظيفة في مزرعة خيول. 
بول: أخي أرجوك لاتذهب.. ابق هنا ولاتتركني ستعثرعلى عمل آخر السيد جارد دائماً هكذا يسيء إلينا ولكن يجب ان نتحمل لنعيش. 

اوليفر: لا يا أخي لم أعد احتمل كلامه اللاذع سأنتقل من المدينة انا لا أخاف عليك انت رجل ذو بأس واعتمد عليك سأذهب إلي هناك علني أتمكن من تأمين بيت يحتوينا أوصيك فقط إعمل و أكسب قوتك بيدك ولا تتسول شفقة احد ولا تمتد يدك إلى السرقة مهما حصل إحفظ قلبك طاهراً هكذا لن اقول وداعاً بل الى اللقاء.

وتعانقا عناقاً تلامست فيه أرواحهما ومضى اوليفر وبقي بول وحيداً .هكذا ودع بول أخيه لم يتأثر فكما تعود على فراق والديه سيتعود على فراق اوليفرانتبه إلى الوقت ومضى سريعاً إلى مزرعة القطن يا إلهي تاخرت وما ان وصل حتى طالته نظرة حاقدة من عيني جارد الجاحظتين.

بول صرخ جارد بأعلى صوته أيها اللعين أكنت تلعب في الطريق! يومك أسود سأعلمك إحترام الوقت، وهنا كانت قلوب العمال قد بلغت حناجرهم واشرئبت رقابهم والتوت وارتعدت فرائصهم من صراخ جارد، صاح ثانيةً “انصرفو الى عملكم يا معتوهين وانت اتبعني لتتعلم الدرس”.

سار بول بقدمين مرتجفتين إحداهما تتقدم والأخرى تتراجع خوفاً، ربطه إلى شجرة وكشف ظهره ولوح بسوطه عاليا لينزل به على ظهر بول الضعيف وهنا كتم بول الصراخ فكرامته لا تسمح بان يرى جارد ضعفه ظل جارد يجلده وهو يئن انيناً خفيفاً إلي ان تمزق جلده وتناثر لحمه وسال دمه الأحمر ليلون الأرض وتشهد برجولة الفتى ووحشية البدين.
فك وثاقه فهوى بول على الأرض مما ناله وصاح جارد “لو لم تتعب قبضتي لبقيت هكذا حتى تموت”.

قالها وانصرف بعد ان بصق على بول واطلق ضحكة شماتة، مسح بول وجهه وهمس إلى التراب الذي كان مستلقيا عليه :هنا على هذه الارض فقدت والدي واليوم ودعت عليها اخي لم اعد اهاب شيئا فكل غالٍ كنت أخاف عليه قد ذهب.

قام بول متهالكاً ليعود إلى كوخه الكئيب وتزامن وصوله إلى الحي مع انتهاء عمل انجي التقيا وتبادلا تحية المساء ثم لوحت له بيدها المتشققة وانصرفت، وهنا نطق صوت ما في روح بول صوت انتشله من قساوة حياته الى عالم وردي حيث الآمال والأحلام لقد علا هذا الصوت وتردد في قلبه، إنه الحب لقد نادى بول وحمل قلبه وطار به نحو انجي نعم تحول إعجابه بها إلى حب، وما أجمل حب القلوب الصافية البريئة!

لقد سقاه الحب رشفة جعلته طائراً بلا جناحين أكمل طريقه بخفة غير معهودة دخل كوخه الحقير وارتمى على فراشه ليستسلم لنومة ملائكية، أما انجي فدخلت الى الكوخ وقد اختلجتها عواطف غريبة قبّلت والدتها واعطتها عشاءها المكون من الخبز الجاف مع كوب حليب استلقت وداعب الكرى جفنيها لتغرق في نومة جميلة علها تنسيها واقعها المرير لعل الأحلام ترحمها بعد ان ظلمتها الدنيا. نعم إنه الحب هو ذلك الشعور الذي ينقل القلوب والأرواح إلى عالمها الأثيري عالم للأرواح الصافية فقط هاهو ذا يجمع بين قلبين كسيرين لفتيين تجرعا حنظل الفقر وظلم أرباب العمل .

استيقظت انجي باكراً لتذهب إلى عملها ولازالت صورة بول تترائى إلى ذهنها بين الفينة و الأخرى، بدأت عملها صباحاً كالعادة تحت وطأة الصقيع تفرك بأناملها الملابس حتى الطبيعة لم ترحم براءة وجهها البريء.

جاءت الينور ابنة صاحبة الفيلا التي تعمل بها انجي رمت عليها فستان “افركيه جيداً فهذا الفستان غالٍ جداً إنه من أحدث الصيحات اتاني كهدية من باريس، اصلاً لما اخاطبك انا فأنت لاتفقهين شيئاً في الوصية المهم إحرصي ان لاتخدشه أناملك الشائكة”.
وهنا.. وهنا شعرت انجي بغصة في حلقها ونظرت إلى منظرها المزري بثيابها البالية المرقعة.
معك حق انا لا أفقه شيء في هذه الموضة لماذا لا أعيش كقريناتي؟! أعيش فقط للعمل واكملت عملها محاولة بلع العبارة التي خنقتها.

انهى بول عمله وانزوى بعيداً عن زملائه ليتأمل كعادته تراءت له صورة انجي التي لم يتمكن من نسيانها، قرر أن يستجمع قواه ويعترف لها بحبه الذي كان يكمنه متحججاً بأنه مجرد إعجاب وفي المساء انتظرها حتى خرجت تراءت له من بعيد قادمة تزاحمت الكلمات كلها في حلقه تود الخروج والتعبير عن حبه الكبير.
بول:مساء الخير انجي في الحقيقة ارغب في التحدث لك بموضوع اتسمحين؟
انجي:(وكلام الينور لايزال في اذنها )ها أنا أسمعك تفضل .
بول:أنا (ويتقطع كلامه بالكاد نطقها) احبك يا انجي نعم احبك حباً تعجز عن تجسيده القصائد والروايات.
اطرقت انجي هنيهة و اجابت: قد ظننت هذا من خلال نظراتك ولكن حبك لي ماذا سيضيف انت فقير مثلي بالكاد تتعشى عفواً انا لاريد ان اضيف أسى آخر إلى حياتي على الأقل اجد حباً يغير من حالتي وداعاً.
وهنا تجمد بول وخجل وأمسك يدها قائلاً: عفواً فهذه ليست انجي التي أحبها حبي لك سيضيف لك قلباً اكتوى بحبك ومهجة اهبها في حماك.. انت لم تسكني كوخي الفقير بل قلبي الذي امتلأ بحبك ووجدك ربما معك انا ايضاً لا يجب ان أظلم جمالاً كهذا و ازيده أسى على مابه امضي ولاتنسي ان هناك قلباً قد هام بك وجدا انا لا ولم ولن أحب غيرك.

نعم لقد نطق المال فأخرس صوت الحب وكتمه ودفنه في دهاليز القلب وأجرى دموعاً خطت اخاديداً على مقلتي بول الذي مضى كسيراً نحو كوخ الأسى، ارتمى على فراشه وشهق شهقة انتفضت لصوتها الوحوش من مضاجعها نفث معها حرارة نار الهوى التي ألهبتها انجي.
أما هي فمضت إلى بيتها وغطت نفسها بغطاء وانطلقت في نحيب طويل، ماذا أفعل والدتي مريضة ويجب ان آتي بالمال لعلاجها، آسفة يا قلبي نعم أعلم أنني أحب بول ولكن يجب علي ان أحسن حياتي لِمَ قلتُ هذا -تشهق- انا أحبه حتى النخاع فهو أنظف رجل عرفته في حياتي وداعاً بول لقد أحبك فؤادي ومهجتي وضميري وهو الذي نسيت بجمال عيونه قسوة الدنيا، ونامت بعد ان ابتلت الوسادة بدموعها.

ومضت الأيام وبول يحاول ان يبتعد عن انجي لينتقم لرجولته التي جرحت ومع ذلك فشل كان يختلس النظر إليها . هكذا دائماً يرغمنا القدر القاسي على أشياء لم نرغب يوماً ان نعيشها قاد هذا القدر اريك -ابن جارد- ذلك الشاب الغني المتعجرف دُعي إلى حفلة عشاء فخمة أُقيمت في بيت السيدة التي تعمل عندها انجي .”انجي تعالي بسرعة” نادت الينور.
انجي: نعم سيدتي. 
الينور: خذي البسي هذا الثوب حتى لاتفضحينا امام الضيوف اليوم واحسني التصرف وإلا..
لبست انجي ثوب خدم بالأبيض والأسود كان رائعاً عليها فقد رسم قوامها الرفيع رسماً بديعاً ورفعت شعرها الأحمر فبدت آية في الجمال الأخاذ.

حان وقت العشاء ودخلت انجي صالة الضيوف وقدمت الأكل وكانت نظراتهم إليها كالسهام خاصة اريك الذي أُعجب بها، انزوى بها في الصالة وطلب التحدث إليها وطار عقله فيها ومن يومها توطدت بينهما علاقة فعالج والدتها وأصبح يرسل لها الأموال والهدايا واقترح ان تستقيل من عملها واقترح عليها الزواج وقبلت فأقام جارد حفلاً فخماً بمناسبة زواج نجله الوحيد.. وكان بول من الذين أحضرهم جارد لتقديم الأكل للضيوف.
لم يحاول بول ان يعلم من هي العروس فهو يكره جارد ولايهم من تكون زوجة ابنه وأثناء عمله وقعت عينه على العروس وياليتها عُميت قبل ان ترى ذلك المنظر، إنها انجي ترتدي الثوب الأبيض وتمسك بيد ايريك وتتقدم لإتمام مراسم العرس في قمة فرحتها، لقد نسيت بل تناست بول وهاهي زوجة اريك اليوم، شعر بول بطعنة عميقة في قلبه وتمنى ان يموت ألف موتة على ان يرى اميرة قلبه تنصب اميرة لاريك الذي يعرف بول جيداً انه زير نساء ولايتوقف عن الحفلات الليلية والسهر في البارات.

بول: يا انجي لِمَ فعلتِ هذا لم تزوجت هذا الشيطان على كلٍ أتمنى ان ينسى افعاله السابقة يهون علي ان أراك مع غيري ولا يهون علي ابداً ان اراك حزينة.
انتهى الحفل وزفت انجي إلى منزلها في منطقة راقية والمسكين بول لَمَّ شظايا قلبه المتناثرة و جر خيبته وآوى إلى مضجعه وألقى جسده المتهالك محاولاً النوم علّه يلقى انجي في أحلامه، صعبٌ جداً ان ترى من تحب يفعل ما تريده منه مع غيرك صعبٌ جداً.

وبعد أيام ذهب بول إلى اريك وقال له بأنه يحب انجي وهي تحبه وأنها ليست سعيدة معه، ثار اريك ولكم بول حتى تأرجح من قوة الضربة وأعاد له بول لكمة جمعت حقده على جارد وحزنه على انجي، نادى اريك رجاله وامرهم بحمل بول الى بيته وعندما وصل نادى انجي وما ان رأت بول حتى تغير لونها لكنها اخفت ذلك حتى لاتخسر اريك نظر الأخير إليها قائلاً: أحقاً تحبين هذا النذل ياانجي؟! اعترفي! .
وهنا صرخت انجي “انا لا أحبه ابداً هومن عرض عليّ الزواج ورفضت سابقاً ومن يومها لم أره”. نظرت إلى بول وصرخت في وجهه “ماذا تريد اذهب من هنا لاتخرب ربيع ايامي إنصرف”. وغادرت غاضبة.
“إذاً ستنال جزائك لا اقبل ان يطيل احد لسانه على زوجتي”.
أقتلني يا اريك هيا أرحني فالقلب الذي لايحمل انجي بين تلافيفه لا اريد ان أُثقل به صدري، صوب نحوه اريك رصاصة كانت كفيلة بان تكتم نبض قلبه المنهك من الحب وعذابه حمل نعشه وحيداً، شيعته الغربان السوداء الناعقة ودُفنْ ودُفنَ معه حبه العُذري الصافي ومروءته الفذة ولكن حبه شق تراب الرمس ونما مع أشجار السرور في مقبرة الفقراء.

انتهت.

تاريخ النشر : 2018-05-10

لميس

الأرض
guest
37 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى