أدب الرعب والعام

خدعة ساحر

بقلم : تقي الدين – الجزائر
للتواصل : [email protected]

استقر سكين طعام بقبضة سوداء في منتصف ظهره فرسم فوق قميصه الأزرق بقعة دم حمراء كبيرة
استقر سكين طعام بقبضة سوداء في منتصف ظهره فرسم فوق قميصه الأزرق بقعة دم حمراء كبيرة

 
بين جدران مكتب ضيق وقفت ناريمان أسعد و بين يديها كوب قهوة بلاستيكي ، أخذت منه رشفة دون أن تخفي الابتسامة اللطيفة التي رسمتها على وجهها المستدير فتركت على خديها غمازتين صغيرتين ضاهتها عينيها العسليتين جمالاً ، بلطف أعادت الكأس بين يديها ثم قالت موجهه حديثها لرجل ثلاثيني هزيل الجسم ، كثيف اللحية و بشوش الوجه :
– حسناً يا أستاذ ، هل أعجبتك ؟ .

بهدوء قلب الأستاذ بين عدة أوراق ثم رد :
– نعم ، إنها مميزة حقاً ، سأعطيها لرئيس اللجنة و أحاول إقناعه .
– شكراً جزيلاً ، قالت ناريمان بغبطة ثم غادرت مطأطأة رأسها بنوع من الخجل و عند الرواق خارجاً جلس فوق كرسي متحرك شاب أسمر بشعر أسود مصفف بعناية انعكست عليه الأضواء من شدة بريقه و وجه ممتلئ مثل جسمه ، فابتسمت له قائلة :
– أظن أنهم سيقبلونها .

صفق الشاب مرة واحدة فرحاً بينما وضعت ناريمان كوب القهوة داخل جيب حقيبة ظهرها الجانبي ثم راحت تدفعه متسائلة :
– هل مازالوا ينتظرون في المكتبة ؟.
بشيء من الأسى رد الشاب :
نعم ، لكن يمكنك أن ترفضي طلبهم .

بعد بضع خطوات استدارت ناريمان يميناً لتدلف مكتبة اصطفت على مساحتها الواسعة عدة رفوف خشبية ، و وضع عند مدخلها مجموعة طاولات جلست خلف أحدها فتاة انسدل شعرها البني على وجهها المستدير فأزاحته مظهرة عينيها السوداويتين و راحت تلوح بيدها قائلة :
– لقد وجدت كتاباً ممتازاً .

بتثاقل دفعت ناريمان بكرسي الشاب حتى ألتصق بالطاولة ، ثم قالت لصديقتها التي حملت بين يديها كتابا بغلاف أحمر كتب عليه ” قصص عن المس “:
– هذا سيؤخرني كثيراً .

و من بين تلك الرفوف الخشبية العتيقة برزت شابة سمراء قامتها طويلة طول شعرها الأسود تحمل في يدها كتاباً بعنوان مشابه ن، ظرت له ناريمان باشمئزاز ثم قالت لها :
– لا تقولي لي أن ريتاج معك هناك ؟.

– نعم ، إنها معنا ، ردت صديقتها باختصار فقالت ناريمان بغضب و هي تهم بالجلوس :
– لا أصدق أنكم أقحمتموني في دوامة خرافاتكم .
و قبل أن تضع جسمها على الكرسي استدارت مجفلة على صوت بعيد ينادي باسمها لتلمح شاباً أشقراً طويل القامة و نحيل العود يقف عند العتبة ، فسارت نحوه بخطوات سريعة و قالت هامسة ما إن وقفت أمامه :
– أشرف ، هل كل شيء بخير ؟ .
بقلق رد الشاب :

– فقط قولي لي إن لم تعودي تحبيني بعد الآن .
– ماذا ؟ قالت ناريمان بنوع من الغضب ثم أعقبت:
– من أين تأتي بهذه الأفكار ، لماذا لا تصدقني ؟ .
استدار أشرف محدقاً لمكتب الأستاذ ثم قال و هو يسير مبتعداً :
– معك حق ، لديه عمل و مستقر ، أما أنا فمجرد طالب فقير .

– الأمر ليس كذلك …، قالت ناريمان مستسلمة ثم عاودت الدخول للمكتبة و بغضب بدا مبالغاً فيه ، سارت تجاه متاهة الرفوف دون أن تعير صديقاتها انتباها و قد سحبت كأس القهوة مرتشفة منه مجدداً و عيناها تتحركان في الأرجاء حتى وصلت رفاً في زاوية صغيرة ثبتت عليها طاولة طويلة بكرسي خشبي جلست فوقه و هي تتأكد بريبة من أن المكان حولها فارغ ، ثم سحبت من بين الكتب التي اصطفت أمامها كتاباً بغلاف أظهر صورة ويليام شكسبير و فوقه كتب ” مجموعات مسرحيات شكسبير ” وضعته فوق الطاولة بجانب كأس القهوة ثم وضعت محفظتها أمامها و هي تهمس :

– أين هي ؟.

و بعشوائية رمت بمجموعة أقلام تظليل فوق الطاولة مواصلة بحثها لبضع ثوان قبل أن ترمي بالحقيبة على الأرضية بعنف ، و ما إن مدت يدها لتفتح الكتاب حتى تراجعت للخلف كأنما الريح دفعتها لتسقط على الأرض متحشرجة قبل أن تنقطع أنفاسها .
 
على آخر مقعد في حافلة نقل مسافرين صغيرة جلس جابر صيد بأناقة انعكست على البدلة الترابية اللون التي جعلت ملامحه الخمسينية تعود عشرين سنة للوراء ، عبر النافذة كان يحدق بشرود لملامح الطريق و هي تختفي كالخيط وراء سرعة الحافلة التي اقترب من مقدمتها فتى تذاكر شاب قال له بشيء من الفظاظة :
– خمسون ديناراً سيدي ؟.
رافعاً حاجبيه الكثيفين بتفاجئ ، أستدار صيد للفتى الذي كان يحمل في يده كومة فكة و قال :
– إنها لفتة رائعة أن السائقين يسمحون للمتسولين بصعود الحافلة .
توقف الفتى عن رج الفكة مبادراً بالحديث ، لكن جابر واصل :
– كل القطع التي لديك من فئة العشرين ، أأنا الوحيد الذي سيعطيك خمسيناً ؟ .
– لا سيدي ، أنا فتى التذاكر ، قال الشاب بنبرة حادة لم تقلق جابر الذي ضحك قائلاً :
– لا ، أنت لست كذلك ، فأنا لم أرك عند صعودي الحافلة .

بتوتر عاد الفتى لرج القطع في راحة يده ثم قال و قد نفذ صبره :
– سيدي ، أنا أحتاج حقاً تلك الخمسين ديناراً ، فأنا مجرد عامل .
– حسناً ، قال صيد ثم أدلف و هو يسحب المال من جيبه :
– تريد أن تتظاهر أنك عامل ، معك الحق فالكرامة أغلى من كل شيء ، لكن ليس عليك أن تكذب علي فأنا حقاً لم أرك عند صعودي و أعلم أنك لست فتى التذاكر .
صارخاً قال الفتى :

– سيدي لقد قبضت المال من عندك لحظة صعودي فكيف بك لا تتذكرني .
تجمدت يد صيد داخل جيبه و قال مبتسماً :
– إذاً أمسكت المال من عندي لحظة صعودي للحافلة فلماذا تريد خمسين أخرى ، إلا إذا كنت متسولاً أو محتالاً ؟ في هذه الحالة و لسوء الحظ أنك وقعت مع الشخص الخطأ .
خفت هدير محرك الحافلة التي توقفت عند المحطة فبادر صيد بالنهوض ، لكن الفتى أوقفه قائلاً :

– لقد ظننت أنك … من أنت ؟ .
بلباقة عدّل جابر سترته ثم قال :
– جابر صيد ، أحسن محقق في البلاد … في خدمتك .
بنوع من الخوف تنحى الفتى جانباً فسار صيد بهدوء عبر رواق الحافلة الضيق و قبل أن ينزل استدار للفتى و رمى له بقطعة الخمسين ثم همس و هو يضع قدميه على الرصيف :
– أنا لا أحب الكاذبين .

و لوهلة راح يتمعن بتركيز مباني المدينة العالية التي أحاطت به و الطريق الواسعة التي كان يقف بجانبها و قد صم أذنيه رنين أبواق السيارات العالقة في الزحمة ، بهدوء نظر للساعة البنية على رسغه ثم قال بشيء من السخط :
– و لا أحب المتأخرين أيضاً .

معدلا بدلته بدأ جابر بالسير على الرصيف قاطعاً بضع أمتار قبل أن يلاحظ فتى شاباً بشعر أسود متوسط الطول و ملامح لطيفة يترجل من سيارته البيضاء العالقة وسط الزحمة و يسير تجاهه ، فقال:

– لا تتحجج بالزحمة ، أنت تعلم أنها مدينة كبيرة و وجب عليك أن تخرج مبكراً لتتفاداها .
معتذراً قال الفتى ما إن وقف أمامه :
– أنا آسف سيد صيد ، لكن الزحمة ليست المشكلة .
متفاجئاً سأل جابر و قد لاحظ اصفرار وجه الفتى :
– و هل ستطلعني على السبب ؟ .
بسرعة رد الشاب :

– فتاة وُجدت ميتة في مكتبة الجامعة ، علينا أن نؤجل المحاضرة حتى يحضر المحققون .
– لا حاجة لذلك … فأنت تنظر لهم ، قال صيد بثقة.
مشتتاً تحدث الفتى :

– حسناً ، ما الذي تريدني أن أقوم به الآن ؟ .
ربت صيد بلطف على كتف الشاب ثم قال :
– أجمع لي الأشخاص الذين كانوا معها في المكتبة و حضر لي مكانا صغيراً لاستجوابهم .
 
بين رفوف مكتبة خافتة أضوائها سار جابر بخفة و خلفه كان الفتى يهرول محاولاً اللحاق به فتوقف صيد فجأة ثم أستدار له قائلاً :
– هل كنت تعرف الفتاة ؟ .
ملتقطاً أنفاسه رد الشاب :

– لا سيدي ، أنا ممثل المنظمة الطلابية فقط .
حسناً ، قال صيد ثم واصل سيره حتى وصل خيط الشرطة الأصفر الذي أحاط زاوية صغيرة ، جلست فوقها طاولة وضعت عليها أغراض لامياء و على الأرضية برز تخطيط الجثة الأبيض الذي نظر له جابر لبضع ثوان ثم قال :
– أين أصدقائها ؟ .

– في قاعة المطالعة المجاورة ، أجاب الفتى .
– حسناً … يمكنك أن تعود لعملك ، قال صيد ثم عاود المسير باتجاه المخرج ، لكن سرعة خطواته تباطأت على منظر ضابط شرطة أصهب طويل القامة ، أظهر أسنانه الصفراء بابتسامة عريضة و هو يمد يده قائلاً :

– لم أعتقد أنني سألتقي بأحمق آخر اليوم .
مبتسما ًبخبث رد صيد :
– ماذا يمكنني أن أقول ؟ يظهرون دوماً في الأوقات غير المناسبة .
– إذاً ستكون قضية مثل الأيام الخوالي ، قال الضابط .
مد جابر يده ثم قال :
– من بعدك .

قطع الرجلان الرواق لغرفة مجاورة غدقة انتشرت فوقها مجموعة طاولات و كراسي فارغة توسطتها طاولة صغيرة وضع فوقها ملف حمله الضابط بهدوء بينما سأله صيد :
– و مع من كانت تحديداً يا علاء ؟ .

قلّب الرجل أوراق الملف ثم رد :
– صديقتيها لامياء و ريتاج ، صديق معاق كانت تساعده أسمه عبد الله و زميلتها في الغرفة إسماهان.

و بخفة سحب علاء من الملف صورة الفتاة و قدمها لصيد الذي تصفحها لوهلة قبل أن يضعها فوق طاولة الاستجواب التي جلس عندها بينما واصل علاء حديثه :
– أسمها ناريمان أسعد ، طالبة سنة ثانية حقوق ، عائلتها صغيرة ، أم ، أب و أخت صغرى يقطنون خارج الولاية و لم يستطيعوا الحضور بسبب عدم توفر النقل .
– حسناً ، قال صيد بسرعة ثم أعقب :

– و ماذا عن حالتها الاجتماعية ؟
تأبط علاء الملف ثم أجاب :
– إنها غير متزوجة ، لكن سجل مكالماتها يظهر عدة اتصالات مع شخص باسم أشرف وسيم . نرجح أنه حبيب ، إنهم يبحثون في خلفيته بينما نتحدث.
ببطء نهض صيد من الكرسي ثم قال و هو يضع يديه داخل جيب بنطاله :
– هل أظهروا أي تصرفات مشبوهة مؤخراً ؟.

علاء سحب من جيب بدلته كناشاً صغيراً قال و هو يتصفحه :
– لقد سجلت غياباتهم ، صديقتها لامياء تتغيب كثيراً ، حوالي أربع غيابات كل شهرين ، أما ريتاج فثلاث غيابات شهر فيفري ، و زميلتها في الغرفة لديها غياب واحد شهر أكتوبر من العام الماضي .

قلب علاء الورقة بخفة ثم واصل :
– صديقها لديه حُجج لزيارة طبيبه و قد غاب منذ العام الماضي أشهر جانفي و جوان و ديسمبر و جانفي و مارس ، أما السيد أشرف غريب فأنا متعجب من أنه ما زال يدرس فسجل غياباته مثير للإعجاب و لسخرية القدر هو غائب اليوم .
أومأ جابر برأسه موافقاً ثم قال :

– حسناً ، لنحضر صديقتها و نحاول أن نجد السيد غريب هذا .
أختفى علاء خارج الغرفة بضع دقائق و غيّر صيد مكان الكرسي ليواجه المدخل الذي دلفت عبره فتاة بنية الشعر ، جميلة الملامح و قصيرة القامة تمسك في يدها منديلاً ورقياً مستهلكاً مسحت به عينيها المحمرتين من البكاء و خلفها دخل علاء الذي حضر لها كرسياً في الجهة الأخرى من الطاولة حيث جلست و هي تحدق لصيد الذي حاول تهدئتها قائلاً :
– ما أسمك سيدتي ؟.

– لامياء رقيم ، ردت الفتاة باقتضاب .
أبتسم صيد بنوع من اللطافة ثم سأل :
– و هل تمانعين إخباري ما الذي حصل ؟ .
مجدداً مسحت الفتاة على أنفها ثم قالت :

– كنا في انتظارها في المكتبة حيث أتت مع عبد الله ، و كان من المفترض أن نجلس معاً لنناقش حالتها ، لكن أشرف استدعاها و أظن أنهما تشاجرا لأنها سارت مبتعدة عنا ما إن أنهت الحديث معه قبل أن نجدها متوفاة .
بفضول قال صيد :

– حالتها ؟ .
أومأت الفتاة برأسها و هي تقول :
– لقد كانت تبكي كثيراً في الأيام الأخيرة و تفضل البقاء وحدها معظم الوقت ، لكننا لم نشأ أن نلبي رغبتها لأن قلبها كان ضعيفاً و من الممكن أن تحدث لها أزمة في أي لحظة .
مظهراً شيئاً من التعاطف قال صيد :
– و هل يمكنك أن تفكري في من قد يستفيد من موتها ؟.
لبرهة صمتت الفتاة محاولة الاستذكار ثم قالت :
– لا أحد ، لقد كانت تتسكع معنا نحن فقط و أحيانا مع الأستاذ حامد ، أظنها كانت في علاقة معه فقد سمعتهما سهواً يتحدثان عن علاقة ثلاثية الأطراف أو شيء ما .
متفاجئاً سأل صيد بسرعة :

– و من هو الأستاذ حامد ؟ .
– الأستاذ المسؤول عن قسمنا ، ردت الفتاة .
جابر نظر لعلاء متفاجئاً ثم قال :
– هل حدثت بينكما أي مشاكل مؤخراً ؟ .
– لم تعجب بمحاولاتنا لمساعدتها و كانت دوماً ترفض و تغضب لكن غير ذلك كنا بخير .
أومأ صيد برأسه ثم قال بأدب :
– حسناً ، يمكنك العودة إلى الغرفة للوقت الحالي و أستدعي  ريتاج للحضور هنا من فضلك؟.

– حسناً ، قالت الفتاة ثم نهضت مغادرة ، و ما إن سارت عبر الباب حتى قال علاء :
– قبل أن نواصل عليك أن تعرف أن هناك شائعات حامت حول هذه الفتاة حول كونها مسحورة أو ممسوسة لذا يجدر بك أخذ ذلك بعين الاعتبار على الأرجح .
صيد نظر لعلاء كمن ينظر للوحة لم يفهمها ، ثم قال:
– أعطني كناشك من فضلك و حاول أن تعرف من هو هذا الأستاذ .
سحب علاء الكناش من جيبه و رماه لصيد ثم قال وهو يغادر :
– سأقوم بكل ما بوسعي .
 
عبر باب القاعة سارت فتاة شابة متوسطة الطول ترتدي حجاباً رمادياً طويلاً أبرز خضرة عينيها اللتان اختبأتا خلف نظارات دائرية بإطار أصفر جذب صيد الذي راح يحدق لها ملاحظاً جمود ملامحها ، فقال مرتبكاً لحظة جلوسها :
– أنتِ السيدة ريتاج ، صحيح ؟ .
نظرت له الفتاة لوهلة ثم قالت بنوع من السخرية :
– نعم ، أظن أنكم حبستم الفتاة الصحيحة في الغرفة هذه المرة .
مسايراً أسلوبها قال جابر :

– ظننا أنكِ تحتاجين مكاناً للبكاء بعد وفاة صديقتك ؟.
– إنها ليست صديقتي ، ردت الفتاة بسرعة .
– و ماذا تكون بالنسبة لك ؟ .
رفعت الفتاة نظارتها بإبهامها ثم ردت :
– كنا نعمل معاً على مشروع قراءة نقدية لكتاب لندخل به المسابقة .
– و أي كتاب أخترتموه ؟ ، سأل صيد .
– الحب في زمن الكوليرا .
– و هل كنتما متفقتين ؟ .
– نوعاً ما ، ردت الفتاة ثم أعقبت :
– لقد كانت تظن دوماً أنها أفضل مني ، كنت ألاحظ ذلك في كلامها ، لكنني قررت تجاهلها.
صمت صيد برهة مستجمعا أفكاره ثم قال :
– و لماذا كنت هنا وقت وفاتها ؟.
– كنا سنضع اللمسات النهائية على العمل بعد أن ينتهي أصدقائها المخبولون من جلستهم ، الحمقى ظنوا أنني هناك لمساعدتهم
– و ما هو رأيك في حالتها ؟.
حركت الفتاة كتفيها غير مبالية ثم قالت :
– هناك ضغط علينا لذا فإن هذه الأمور تحصل .
شرد صيد لوهلة واضعاً يده على طرف رأسه كفيلسوف ثم قال :
– حسناً ، يمكنك العودة للغرفة .

بنظرة ازدراء رمقت الفتاة صيد الذي سحب من جيبه كناش علاء و قلما أزرقا و هو يتمتم بكلمات غير مفهومة ثم نهضت مبتعدة ، فأرتفع صوت جابر :
– ظنت أنها أفضل منها ، لا يرى عيوب الغير إلا من يحاول أن يغطي عيبه .
 
غارقا وسط الورقة جلس صيد و هو يدون بعض ملاحظات فوق كناش أحمر صغير ، و في الجهة المقابلة حدق له عبد الله بارتباك للحظات قبل أن يرفع المحقق رأسه قائلاً :
– حسناً سيد سيمور ، أخبرني بما حصل .
مرر الشاب أصابعه عبر شعره ثم قال :
– دخلنا أنا و ناريمان المكتبة لنتحدث عن حالتها الصحية مع لامياء و إسماهان اللتان ظنتا أنه الوقت المناسب لتحاولا إقناعها بفكرة أنها تعرضت لسحر مما أدى لغضبها ، و أظن أن ذلك هو سبب شجارها مع أشرف ثم ابتعادها عنا .
هز صيد برأسه ثم سأل :

و لماذا توجهتم مباشرة لفكرة أنها مسحورة ؟ .
هز الفتى يديه مبرئاً نفسه و قال :
– لا دخل لي بذلك ، بالعكس أنا حاولت إقناعها بأن حالتها نفسية ، لكن لامياء و إسماهان كانتا تتصفحان الكثير من مواقع الرعب .
كانت ورقة الكناش التي كتب عليها صيد قد امتلأت فأغلقه ثم قال بنبرة خافتة :
– بما أنها كانت تساعدك في دراستك و تعتبرك صديقاً ، هل تحدثت معك عن أي أمور شخصية ؟.

صمت الفتى لوهلة فأعقب صيد متهكماً :
– لنكن صرحاء ، نحن أفضل بكتمان الأسرار .
مبتسماً رد الفتى :

– ليس الكثير ، أخبرتني عن بضع مشاكل مع عائلتها بسبب عدم عودتها للمنزل كثيراً .
– و هل كانت تقطن في مكان بعيد ؟ ، سأل جابر .
– في القرية الشمالية ، قال الشاب ثم أدلف :
– إنها حوالي ساعة بالسيارة .
لمح جابر المدخل بخفة ثم قال :
– هل تعرف إن كانت هناك خصومة بينها و بين ريتاج ، عن الكتابة أو المشاركة في المسابقات ؟.

هز عبد الله برأسه نافيا ثم قال :
– لا ، لم تخبرني بشيء حقاً ، لكني شعرت دوماً بشيء من الحساسية بينهما .
– وماذا عن علاقتها مع أشرف ؟.
– كانت جيدة أيضاً ، لم تشتكي قط .

صيد أرجع كرسيه للخلف قليلاً مبتعداً عن الطاولة ثم قال و هو يسترخي فوقه كأريكة :
– حسناً ، شكراً على وقتك ، و هلا دعوت زميلتها بالغرفة لتنزل هنا من فضلك ؟.
– طبعاً ، رد الفتى ثم أستدار دافعاً بكرسيه خارجاً ، فراح جابر يدندن بشغف أغنية كلاسيكية كاسراً الصمت الذي كان مخيماً على المكان و مع اندماجه معها ، أغلق عينيه و بدأ بتحريك رأسه قبل أن يجفله صوت أنثوي رقيق :

– عذراً سيدي .
أنتفض صيد معتدلاً فلمح عند المدخل إسماهان واقفة و ملامح الخوف على وجهها ، فطمأنها قائلاً بلطف :

– تفضلي بالجلوس ، فأنت بين الأصدقاء .
بتردد جلست الفتاة فقال جابر مصطنعا ابتسامته :
– ما أسمك أيها الشابة ؟ .
– إسماهان ، ردت الفتاة .
– حسناً إسماهان ، أخبريني بما حصل ؟ .
بدأت الفتاة بفرك يديها و قالت :

– لقد كنا في المكتبة نبحث عن كتاب عن فك السحر أو المس بسبب حالة ناريمان و قد كنت في الخلف أبحث بين الرفوف قبل أن تناديني لامياء لأساعدها في البحث عنها .
– أنا أعرف البقية ، قال صيد ثم أضاف :

– هل حدثت بينكما أي مشاكل في الغرفة ، لم تتفقا على النظافة أو شيء من هذا القبيل ؟ .
سرحت الفتاة مستذكرة لبرهة ثم ردت :
– كانت تذاكر ليلاً و هو ما أزعجني قليلاً ، رغم أنها كانت تدرس في فترة بعد الظهر أيضاً ، و في الأيام الأخيرة أضحت تستخدم هاتفها كثيراً ، لكن عدا ذلك كنا متفقتين ، و قد حاولت دوماً أن لا أغضبها بسبب مشكلة قلبها .

أشاح جابر بنظره بعيدا للحظة ثم سأل :
– هل تحدثت معك عن أمور شخصية ؟.
– لا ، لقد كانت دوماً بيننا مساحة احترام .
ملاحظاً اصفرار وجهها من الخوف قال صيد :
– حسناً ، يمكنك أن تعودي لأعلى و أشربي بعض الماء في طريقك إلى هناك .

أشارت إسماهان بإبهامها للباب ثم قالت :
– الماء منقطع عن الجامعة منذ أيام ، علي أن أخرج و أشتريه .
هز صيد برأسه متفهما ثم قال :
– حسناً ، سأطلب من أحدهم أن يجلبه لك .
ببط سارت الفتاة مبتعدة و عند المدخل اصطدمت بعلاء الذي كان مندفعاً ، فقال معتذراً :
– اعذري … تهوري .

و للحظة نظر لها بشيء من القلق قبل أن يواصل مسيرته تجاه جابر قائلاً :
هل من شيء لحد الآن ؟.
أخذ صيد نفساً عميقاً ثم رد بيأس :
– لا أعلم حقاً .
واضعاً يديه على خصره قال علاء :

– هل تريد أن ننتظر تقرير الطبيب الشرعي أم تريد أن تواصل ؟ فقد وجدت مكتب الأستاذ ، الإدارة قالت أنه غارق في العمل و لم يخرج منذ الصباح .
نهض صيد من الكرسي بهدوء ثم قال :
– لنجد مكاناً لطيفاً لنجلس فيه و ننتظر التقرير ، سأستفيد من راحة قصيرة كهذه .
 
فوق كرسي حديدي وسط الحرم الجامعي المكتظ بجحافل الطلبة جلس جابر صيد و الضابط علاء و علامات الملل تلوح في أفق وجهيهما ، كاسراً ضجره سحب صيد من جيبه الداخلي كناش علاء الذي سأله ما إن لمحه في يده :
– إذاً بدأت بتدوين الملاحظات ؟.
ضحك جابر ثم رد :

– لا شيء رسمي ، فلا أحد منهم يملك الدافع .
و أمامهما مر رجل طويل القامة يرتدي زي ساحر من البدلة السوداء للقبعة الطويلة ، فقال صيد و هو ينظر له متعجباً :
– هل أخطأ في مكان المدرسة الابتدائية ؟ .
ضاحكاً رد الضابط :

– لا ، لقد أحضروه لإلهاء الأطفال ، فهناك مسابقة ثقافية اليوم و الدعوة خاصة بأسر الطلبة المشاركين.
مستذكراً قال صيد :
– نعم ، المساب..
و فجأة قوطع بشروده ثم قال و قد لمعت عيناه :
– ساحر ، يجعلك تنظر في جهة واحدة بينما ينفذ خدعته في الجهة المغايرة .
أكتفى علاء بالنظر له بارتباك فواصل :

– المجرم يحاول أن يجعلنا نرى في الاتجاه الخاطئ ، الإشاعة حول كونها ممسوسة ، ضف إلى ذلك مرض قلبها .
– ماذا تقصد ؟ قاطعه الضابط ، فقال صيد و هو يسير مبتعداً :
– الأستاذ .
خلفه لحق الضابط دون أن تزول علامة التعجب من على وجهه و عبر مدخل الكلية الذي أخذ شكل مجموعة أقلام مختلفة الألوان ، مر الاثنان مواصلين سيرهما حتى وصلا قاعات الدراسة فتقدم صيد المسيرة قائلاً :

– أين هو مكتبه ؟ .
محركاً عينيه يميناً و يساراً ركز الضابط محاولاً إيجاد الباب قبل أن يشير بإصبعه لباب خشبي أبيض مختلف عن غيره من الأبواب البنية فتوقف أمامه قائلاً :
– ها هو ذا .
بقوة حاول صيد إدارة المقبض الذي كان عالقا فأمر الضابط قائلا :
– حسناً ، أركله .

تراجع علاء خطوتين للخلف و بعنف ضرب بجزمته حافة الباب فسأستسلم مشرعاً ليكشف عن جثة الأستاذ مستلقية بجمود وسط تلك الغرفة الصغيرة الدافئة و قد استقر سكين طعام بقبضة سوداء في منتصف ظهره فرسم فوق قميصه الأزرق بقعة دم حمراء كبيرة ، ببطء تقدم صيد ملاحظاً شيئاً من البريق الغريب على القبضة ، فقال لعلاء :
– ما هذا الذي على القبضة ؟ .

قرفص علاء مركزاً في السكين ثم قال :
– أظن أنه نوع من المبيّض ليمحي البصمات .
و بأطراف أصابعه حرك الجثة فوجد بجانبها ورقة صغيرة دفعها بقلم أزرق سحبه من جيبه ثم قال لصيد الذي اقترب منه :
– هل هذه ملاحظة ؟ .

قرفص صيد بدوره و قرأ الكلمات المكتوبة بخط سيء بلون أزرق باهت :
– إن لم تكن ناريمان لي فلن تكون لأحد .
– سأتصل بالمقر ، قال علاء بنبرة خافتة ، لكن جابر أوقفه :
– إذا قمت بذلك سيهلع الجميع و لن نصل لشيء .
متفاجئا أكتفى الضابط بالنظر لصيد الذي أعقب :
– هذه ليست جريمة بل عرضاً ، شخص ما قتل ناريمان ثم قتل الأستاذ و هو يعتمد على هلع الجميع ليخلط حساباتنا و ينهي هذا الأمر .
اعتدل علاء من القرفصة ثم قال :

– و ما الذي تقترحه ؟ .
صيد نظر للرواق متفقداً ثم قال :
– سنغلق الباب أو بالأحرى ندفعه لئلا يرى أحد الجثة ، و نضع شرطياً أمامه و نبقي على برودة أعصابنا حتى يحل الليل ثم نخرجه .
مرتبكاً قال الضابط :
– حتى الليل ! لكن ذلك سيؤخر تقرير الطبيب الشرعي يوماً إضافياً .
– لا خيار آخر لدينا .
– حسناً ، قال الضابط و هو يسحب جهاز الراديو خاصته ثم أضاف :
– سأتصل بأحدهم .

وقف صيد بصعوبة ثم نظر بتركيز للمكتب الصغير الذي كان ملتصقاً بالحائط حيث استلقت مجموعة أوراق مبعثرة ، بضع أقلام و كتاب العجوز والبحر لهيمينغواي ، صيد سحب قلمه من جيبه ثم قلب الغلاف ليقرأ على الصفحة الأولى :
– إلى ناريمان ، أجعلي الحياة دوماً مصدر إلهامك .

أعاد صيد القلم لجيبه ثم ربت على كتف علاء الذي كان يهم بالخروج و قال بنبرة خافتة :
– أبقي رجال الشرطة العلمية بعيداً عن أغراضها لئلا يخلطوا حساباتنا بتقاريرهم ، و أطلب من ضباطك أن يبقوا أعينهم مفتوحة تحسباً لحضور أشرف .

إستدار صيد لباب للمخرج متأكدا من فراغ المكان ثم أدلف :
و علينا أن نرسل الفتاة للمسابقة و ندع البقية يعودون لغرفهم و إلا أثاروا الشكوك و هذا آخر أمر نريده ، سنتوارى قليلاً و ننتظر تقرير الطبيب عن كل من ناريمان و الأستاذ .
 
عبر نافذة مكتب علاء الصغير المكتظ بصوره القديمة حدق صيد لمنظر الشارع الغارق بقطرات الوابل العنيفة و في يده اليسرى كوب حليب أبيض ، أخذ منه رشفة قبل أن يستدير على صرير الباب ليجد الضابط يحمل بين يديه ورقة صغيرة نظر لها للحظة ثم قال :  لقد حضر التقرير .

بسخرية رفع صيد الكأس ثم رد :
– استغرقهم الأمر ثلاث أيام فقط ، نحن نحرز تقدماً.
– نعم ، رد علاء ثم أضاف و هو يتصفح الورقة :
– السكين نظيف ، لا بصمات عليه ، و السائل على القبضة هو مجموعة مواد كيماوية لكنها ليست مركبات مبيض ، لذا يبدو أن القاتل استعمل قفازاً .
صيد أخذ رشفة أخرى ثم قال :

– و ماذا عن الفتاة ؟ .
تجمد علاء كأرنب خائف و بصعوبة نطلق كلماته التالية :
– لقد كانت حاملاً .
مصعوقاً قال جابر :
– هذا يفسر بكائها في الأيام الأخيرة … هل كانت عائلتها تعلم ؟.
رفع علاء يديه قائلاً :
– أنا لا أعلم حقاً .
– حسناً ، سنذهب للحديث معهم .

متفاجئاً نظر الضابط للنافذة خلف صيد ثم قال :
– في هذا الطقس ، سنستغرق أربع ساعات ، فطريق القرية كارثي .
بثبات سار صيد تجاه علاء ثم قال هامساً في أذنه :
– أربع ساعات في طريق كارثي أفضل من حياة كاملة غارقاً في تأنيب الضمير .
ناول علاء ورقة التقرير التي كانت في يده لجابر قال ساخراً :
– ستكون رحلة طويلة .

و إلى السيارة المركونة خارجاً هرول الاثنان متفاديان غضب السماء الذي انحبس خارجاً ما إن دلفا حيث شغل الضابط ماسحة الزجاج قبل المحرك ثم انطلق .
 
بعد أربع ساعات و نصف من القيادة وجد الرجلان نفسيهما أمام منزل متواضع مختبئ بخجل بين مجموعة فيلات ضخمة ، فركن علاء السيارة بجانبه بحذر ثم ترجل قبل صيد ماشياً تجاه الباب حيث ضغط على الجرس الذي أصدر نغمة هادئة فتحت على وقعها عجوز بيضاء الشعر و زرقاء العينين فقال لها مرتبكاً :

– هل هذا منزل السيد أسعد ؟ .
بنبرة خافتة ردت العجوز :
– نعم ، أنا أمه .
– هل هو هنا ، أنا محقق شرطة و أود التحدث معه.

– نعم ، قالت العجوز متفاجئة و هي تراقب صيد الذي وقف أمامها بدوره ثم فتحت الباب بشيء من التشتت و قادتهما لغرفة جلوس مكتظة بالأثاث ، جلس فوق أحد أرائكها رجل أسمر أصلع قصير القامة و ميت العينين و بجانبه إمرأة أربعينية تضع يدها على رأسها المطأطأ محاولة كتمان بكائها ، برسمية مد جابر يده للرجل مصافحاً إياه ثم قال رافضاً الجلوس :

– المحققان صيد و تامر ، نود أن نسألك بضع أسئلة عن ناريمان .
هز الرجل رأسه موافقاً و عيناه محمرتين من الدمع ، فقال جابر :
– أحد أصدقائها قال أنه كانت هناك مشاكل بينكم و بين ناريمان ، ما الذي حصل تحديداً ؟ .
مسح الرجل على عينيه بيديه ثم رد بصعوبة :

– لقد كان الأمر خطأي ، فأنا لم أردها أن تمضي وقتاً طويلاً هناك بعيداً عنا ، لقد غلبني الشك خاصةً بعدما سمعت بعض الشائعات .
– شائعات ؟ ، سأل صيد بفضول .
صمت الرجل للحظة مستجمعاً قواه ثم قال :
– لقد سمعت من بعض الناس أنها كانت تواعد فتى يُدعى أشرف يقطن هنا في القرية و قد اعتراني الغضب و لم أعرف ما أفعل .
صيد بدا أكثر حدة و هو يقول :

– و ما الذي فعلته ؟ .
– اتصلت بها و قلت لها أنه يجب أن تعود للمنزل و إلا طردتها .
متفاجئاً من حديث والدها قال علاء :
– و هل فكرت في إيذاء الفتى ؟ .
– نعم ، قال الرجل مضاعفاً صدمة الضابط ثم أعقب :
– ذهبت لمنزله اليوم ، لكن أخاه قال لي أنه رحل للجامعة .
ببريق إيمان في عينيه نظر صيد للضابط ثم استدار للوالد قائلاً :
– هل علي أن أفترض أن هناك تاريخاً عنيفاً لك مع أبنتك ؟.
بدا الأب ضائعاً و هو يجيب :

– ليس حقاً ، ربما فأنا مثل كل …
مرتمية في حضنه قاطعته فتاة صغيرة لها ملامح ناريمان قائلة ببراءة .
– هل هذا هو الشرطي الذي سيحضر هاتفي ؟.
و من خلف صيد قالت العجوز معتذرة :
– لم أرها كيف خرجت ، أنا آسفة حقاً .
بسرعة نظر لها صيد ثم عاود النظر للفتاة و قال مرتبكاً :
– هل فقدت … هاتف أحدهم أم …؟.

لكن أمها قاطعته و قد رفعت رأسها فلاحظ صيد كدمة تحت عينها:
– إنها تتحدث عن هاتف ناريمان القديم … لقد كان مرمياً في المنزل منذ فترة طويلة ، و بعدها تحدث الوالد قائلاً :
– أنا آسف حقاً ، كنت محتقناً .
نظر له صيد مطولا ثم رد متجاهلا كلامه :

– هذا سيكون كل شيء للآن ، لكن ربما علينا أن نعود لك مجدداً .
انصرف الرجلان بهدوء كما دخلا ، و في الطريق للمركبة وضع الضابط هاتفه على أذنه متحدثاً :
– معك الضابط تامر .
صمت للحظة كأنه قوطع ثم قال بسرعة :
– حسناً ، نحن في طريقنا .
بالتساؤل على مقلتيه نظر له جابر فقال علاء :
– لقد وجدوا الفتى ، إنه في كافتيريا الكلية .
 
كانت كافتيريا الكلية المطلية بلون أزرق سمائي هادئ انعكس بشكل مثالي على المكان فارغة باستثناء شاب واحد جلس في زاوية بعيداً عن أشرف الذي بدا محطماً و هو يقشر الصورة المزركشة التي طبعت على كأس القهوة البلاستيكي الذي وُضع أمامه ، من المدخل دلف الرجلان و بخطوات متسارعة سارا تجاهه جالسين بشكل جعله يبدو محاصراً ، علاء رمى بمفتاح السيارة فوق الطاولة بعنف بينما قال جابر :

– أنت تعرف من نحن يا بني و الوقت ضيق ، لذا إذا كان هناك شيء تريد أن تزيحه عن صدرك ، الآن سيكون وقتاً جيداً .
توقف الفتى عن تمرير أصابعه فوق الكأس ثم رد بحزن :
– لم نتحدث كثيراً في الأيام الماضية لأن هاتفها كان مكسوراً و كانت تتحدث معي من هاتف صديقتها ، و قد أثار ذلك استيائي .

أخذ الفتى نفساً عميقاً مقاوماً به بكائه ثم واصل :
– و آخر محادثة بيننا كانت شجاراً .
بهدوء تقدم علاء من الطاولة ثم قال بنبرة هادئة :
– هل كان شجاراً حاداً ، ربما كنت غاضباً و لم تعرف ماذا تفعل .
– لقد قتلتها ، أنا أعترف بذلك ، قال أشرف فتحدث صيد بعده مباشرة :
– أظن أنك لا تعي ما تقول .
و بحدة قال علاء :
– إذاً أنت تعترف …

لكن صيد رفع يده موقفاً علاء ثم قال و هو يعدل سترته :
– هذا على الأرجح كأس القهوة الخامس الذي يشربه ، اجلب شرطياً ليضعه مع الآخرين حتى يخرج من صدمته ، فمن الواضح أنه يهذي .
سار علاء تجاه الباب ثم استدعى بيده ضابط دخل المكان و أخرج أشرف معه تاركاً الكرسي لعلاء الذي عاود الجلوس ، ثم قال ملاحظاً شرود صيد :
– ما الذي يجول في خاطرك ؟.

أخرج صيد كناش علاء من جيبه و قال بشيء من الارتباك :
زميلتها في الغرفة قالت أنها كانت دوماً في هاتفها و تذاكر ليلاً و حبيبها قال تواً أنها لم تكن تتحدث معه لأن هاتفها كان معطلاً ، هناك تناقض .
على عيني علاء ظهر بريق غريب قال بعده :
– و ماذا بعد ؟.

– و عندما كنت في منزلها قالت أمها أن هاتفها القديم الذي كانت تلعب به أختها الصغيرة أختفى ، أظن أنها كانت تستعمله .
صمت الضابط لوهلة ثم أعقب :

– لماذا تتصل بأشرف من هاتف صديقتها إن كان لديها هاتفها القديم ؟ .
– لأن هاتفها القديم كان لتسجيل أفكار الكتابة التي تأتيها ليلاً ، لذا في الحقيقة هي لم تكن تذاكر كما قالت زميلتها بل تسجل أفكاراً ، و أحد تلك الأفكار هي قصة العلاقة التي كانت تتحدث عنها مع أستاذها .

ألتقط جابر أنفاسه ثم واصل حديثه :
– الحب في زمن الكوليرا يحمل بين سطوره قصة حب بين ثلاثة أطراف ، فلورينتينو أريزا ، فيرمينا دازا ، و الدكتور الذي يموت ، لهذا قالت زميلتها أنها سمعت أمراً عن علاقة بين ثلاثة أطراف و الاقتباس على كتاب هامينغواي يخفي أكثر مما يظهر .
– اقتباس ؟ ، قال علاء بفضول .

– أجعلي الحياة دوماً مصدر إلهامك ، قال صيد بنبرة خافتة ثم أردف :
– أظن أنها كانت تقتبس من حياتها و الهاتف كان وسيلة لتسجيل أكثر من مجرد أفكار … كان لتسجيل اليوميات أيضاً .
– و أين الهاتف الآن ؟ .
نظر جابر لعلاء و قد برقت عيناه ثم قال منتفضاً من الكرسي :
– شكسبير .

بعلامة تعجب ضخمة على وجهه قال علاء :
– ما الذي تقوله ؟.
رد صيد بسرعة :
– زميلتها قالت أنها كانت تبحث عن كتاب علم نفس و الكتاب فوق مكتب الأستاذ الذي أظن أنه كان يساعدها على صقل موهبتها ، كان كتاب خيال كما أنها كانت ستناقش رواية لا مسرحية .

أمسك علاء صيد من يده موقفاً إياه ثم قال :
– و ما الذي يعنيه ذلك ؟ .
بتركيز أجاب صيد :
– و تخصصها لا علاقة له بشكسبير إلا إذا كان شكسبير محامياً ، لذا فإن هناك سراً في ذلك الكتاب.

صمت علاء بعد تلك الكلمات و أكتفى بلحاق صيد الذي سار نفس الطريق الذي سارته ناريمان في المكتبة حتى وصل للطاولة ، فقال علاء بقلق :
قد يتلف هذا البصمات .

– لن نحتاج ذلك ، قال صيد و هو يفتح الكتاب كصندوق كنز فكشف عن هاتف بسيط آجوري اللون موضوع داخل قالب منحوت وسط الورق ليعطي شكل علبة ، ثم أعقب :
– هذا هو الدليل الوحيد الذي نحتاجه .
 
 
بينما ألقى الليل بظلاله السوداء و أنارت المصابيح الأروقة المظلمة ، وقف جابر صيد و الضابط علاء بجوار باب قاعة المطالعة و خلفهما ثلاث ضباط شرطة إضافيين ، مرتبكاً نظر علاء لمقبض الباب كفأر خائف يحدق لقط ، ثم قال :
– هل أنت متأكد من هذا ؟ .

رد صيد و هو يعدل ربطة عنقه :
– لقد سمعت التسجيل في الهاتف علاء ، أنا متيقن من هذا .
– حسناً ، قال الضابط بينما فتح جابر الباب ليدخل غرفة بنصف حجم المكتبة و على طول مساحتها وضعت بتنسيق طاولات نظيفة و كراسي انتشر فوقها بعشوائية كل المشتبه بهم ، أشرف يجلس وحيداً في الزاوية اليمنى ، لامياء و ناريمان و ريتاج تجلسن على طاولة في منتصف الغرفة و عبد الله الذي كان يحرك كرسيه في الأرجاء توقف عند النافذة ، كأستاذ حازم جلس صيد على أحد الطاولات ثم قال و هو ينظر لهم :

– تجمعوا هنا من فضلكم ؟.
همهمة خفيفة حامت في سماء الغرفة بينما تحرك المشتبه بهم تجاه الطاولة ليشكلوا لجنة صغيرة قادها صيد متحدثاً :
– لقد أكد لنا الطبيب الشرعي تواً بالتعاون مع إمام مسجد المدينة أن ناريمان كانت مسحورة و أن الفاعل هو … عبد الله .
اتجهت الأعين صوبه بعد قنبلة الكلام تلك و شخص هو جامداً في جابر قبل أن يتحدث بشيء من الثقة :

– ماذا ؟ هذا أمر غبي و مشين .
محافظاً على هدوءه رد صيد :
– هل أنت تحاول حقاً تكذيب رجل دين ؟ .
بغضب رفع عبد الله يديه عالياً ثم صرخ :
– أنا لا أحاول تكذيب أحد ، أنت الكاذب ، لأن سحر ناريمان أصلاً كان مجرد …

توقف الفتى مباشرةً كأنما بلع لسانه فناب صيد عنه بهدوء :
– إشاعة … تماماً مثل مشكلة قلبها ، دعايات بدأتماها أنت و ناريمان كخطة بديلة لتبررا الموت المفاجئ و تنفيا نهائياً فكرة انتحارها بدواء قوي وضعته في قهوتها .
بسخرية أبتسم الشاب ثم قال مواصلاً بثقة :
– أنت فقط تقول لغواً لا معنى له ، أين دليلك ؟ .

ببرود سحب صيد من جيبه الداخلي هاتف ناريمان ثم وضعه فوق الطاولة قائلاً :
– ناريمان كانت تستعمل هذا الهاتف لتسجيل يومياتها و أفكار قصصها .
محدقاً لعبد الله ضغط على أحد أزراره فبدأ تسجيل بصوتها باللعب :

– اليوم مثل كل يوم اجتمعت مع عبد الله لأساعده في كتابة دروسه ، و إذ به يفاجئني باعترافه لي بحبه ، شعرت بالإطراء لكن رياح قلبي لم تعصف قط تجاهه فقد كان دوماً مجرد صديق ، لم أقم برفضه رغم أن ملامحي أوضحت ذلك ، لكنني استغليت موقفه في إيجاد حل نهائي لمشكلتي .

أوقف جابر التسجيل ثم قال بثقة :
– لقد كسرت روتين الستة أشهر الذي أعطاه لك طبيبك لتحصل على علبة إضافية أعطيتها لناريمان لتنتحر بها ، ذهبت في شهر مارس و كان من المفترض أن تذهب في جوان ، هل تتفق ؟ .

اكتفى الشاب بالصمت مصدوماً ، فواصل صيد :
– و في نافذة الوقت التي أتيحت لك بين إيجاد جثة ناريمان و حضور الشرطة قمت بقتل الأستاذ و تدوين الملاحظة بخطك السيء الذي يعكس عزوفك عن الكتابة لمدة طويلة بحكم أن ناريمان كانت تكتب كل دروسك ، كنت سأفترض أن قتلك للأستاذ هو مجرد جريمة عشوائية بدافع الحب و هذا لتنتقم لناريمان بقتل الشخص الذي جعلها حبلى و شوه صورتها .

صيد نظر لأشرف الذي كان يسبح بخياله في مكان آخر غير الغرفة ثم قال :
– لكن الحقيقة هي أن أشرف هو الوالد ، فورقة تقرير التشريح تظهر أن الأستاذ حامد كان يأخذ إيفافرنز و الذي هو دواء للمصابين بالإيدز ، لذا فالتسفير المنطقي الوحيد سيكون أن ناريمان أمرتك بقتله و تدوين الملاحظة لتظليلنا .

خادشاً حافة كرسيه بتوتر حاول عبد الله الحديث لكن جابر واصل:
المادة البراقة التي كانت ملتصقة في قبضة السكين الذي قتلت به الأستاذ كان مصدرها الزيوت التي التصقت في القفاز الذي كنت ترتديه بعدما مررت يدك على شعرك المشبع بالمنتجات التي جعلته بهذه السلاسة .
صمت جابر للحظة ملاحظاً استسلام الفتى ، ثم واصل :

– إفرازات الزيوت تتزايد كلما بقي الشعر بلا غسيل ، و الماء كان منقطعاً عن الجامعة منذ أيام لذا فالأمر منطقي ، لقد وثق بك و فتح لك الباب و كأفته بقتله .
مواصلاً هجومه نهض جابر من الكرسي قائلاً :

– ناريمان أخبرتك عن حملها لأنها أرادت أن تستغلك ، لقد رسمت معك معالم هذه الخطة لتبعدنا نحن و عائلتها و على رأسهم والدها العنيف و المجتمع عن حقيقة أنها انتحرت خوفاً و تجعلنا نعتقد أن شخصاً ما قتلها و قتل الأستاذ و لهذا كانت ذاهبة للكتاب ، لتدمر الهاتف داخله لكنها لم تكن تعلم أن الدواء سيأخذ مفعوله في وقت قصير كذلك.
بحدة نظر صيد لعبد الله ثم قال :

– ناريمان قتلت نفسها و أنقذت الرجل الذي تحبه و جعلت منكما أنت و الأستاذ كبشي محرقة ، كنت لأقول أنها ضحية لكنها مذنبة بقدرك .
استدار صيد لعلاء بخفة ثم قال :
– أظنه نال كفايته أيها الضابط ، يمكنك أن تأخذه من هنا .
برأسه أمر علاء أحد رجاله بالتحرك فتوجه صوب عبد الله مصفداً إياه قبل أن يأخذه بعيداً ، فواصل صيد :

– متأسف لخسارتكم ، و متأسف لتضييع وقتكم ، سيأخذ الشرطي إفاداتكم و بعد ذلك أنتم أحرار .
بعد ثوان فرغت الكراسي و بقي صيد مع علاء الذي تسأل بفضول :
– إذا خططت لكل هذا لتبقي انتحارها سراً فلماذا سجلت خطتها في الهاتف ؟.
– لم تسجل خطتها قط ، رد صيد ثم أعقب :

– عمر هذا التسجيل شهرين ، و قد أعربت عن نيتها في وضع خطة لكنها لم تقل ما هي ، و طيلة تلك المدة لم تفكر أبداً في التراجع و أخذ الأمور بروية خوفاً من أن والدها سيقتلها أو يؤذي شخصاً عزيزاً عليها إن سمع بالأمر ، مؤسف حقاً .
حمل علاء الهاتف من فوق الطاولة ثم قال :

– سيكون تقريراً طويلاً ، هل تريدني أن أوصلك قبل أن أتجه للمركز ؟.
ببرود أجاب صيد :
– لا ، سأذهب للغرفة التي وفروها لي في النزل الجامعي ، ربما علي أن أقدم المحاضرة غداً ، على الحياة أن تمضي .
مد علاء يده لصيد الذي صافحه ثم قال :
– قضية أخرى أتشرف بالعمل عليها معك .

رد جابر و هو يناوله الكناش :
– رغم ذنبها فأظن أنه لا يجب أن تخبر والدها بالحقيقة .
– حسناً … طبعاً ، قال الضابط ثم أبتعد منصرفاً تاركاً صيد جالساً على ذلك الكرسي لدقائق قبل يسير خارجاً تاركاً الجدران لتأنس ببعضها .
النهاية …..

تاريخ النشر : 2021-04-01

تقي الدين

الجزائر
guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى