أدب الرعب والعام

خوفي الحلزوني .. أكبر كوابيسي

بقلم : Salma Eltaweel – مصر
للتواصل : [email protected]

خوفي الحلزوني .. أكبر كوابيسي
إنه يقترب ، يقترب ، يقترب … لا أستطيع الحراك ، قدماي مثبتتان بشدة إلى الأرض
إنه نفس الكابوس مجدداً ، لا أكاد أتبيّن وجهتي ، أشعر به يقترب ، تجلجلت ضحكاته الشيطانيّة في أسماع ضعفي و تكرر صداها بصوتٍ كالفحيح يعم أرجاء المكان ، يحاول أن يفرض علي القهر .. الخذلان .. الوهن .. العدم .. الهوان .. الاستسلام و العجز .

انقبضت تجلّيات النور حولي و لم أعد أرَ غير الهلاك ، هلاك على هيئة ظلامٍ حالك لا يشوبه أي شعاع نور .. ما من عودة الآن ، لقد فات أوان سلك الطريق الصحيح ، و ليس كما لو أنه كان هنا طريقٌ صحيحٌ منذ البداية ! أُدرك كما هو الحال دائماً أن هذا هو الطريق الخاطئ ، بل و لازلت أتخذ دائماً ذلك الطريق الموحش كل مرة ، لقد ألفته .. طريقٌ ملبد بالظلام محاطٌ بأسوار كساها الرماد ، لمَ أسير ؟ لمَ أتقدم الى الأمام ؟ أقلب ناظري ، لقد انتهيت ، لقد انتهى أمري ، لا شيء حولي سوى عقارب الهلاوس و أفاعي الهذيان ، تربكني … تقلقني .. تخيفني .. تعيقني و تدفعني الى التهور .

إنه يقترب ، يقترب ، يقترب … لا أستطيع الحراك ، قدماي مثبتتان بشدة إلى الأرض ، لا أستطيع النظر إلى الخلف أكثر من ذلك ، عيناي مغلقتان ، قدماي داميتان ، توقفت عن محاولة الحراك ، لا فائدة .. لا فائدة من المقاومة ، لقد انتهى أمري ، لقد انتهيت ..

لازال يقترب ، أستطيع سماع وقع أقدامه ، تحاول أن تستبدل ضحكتي بهمهمة قانط مشرفٍ على الهلاك ، أستطيع الشعور بالتيار الذي يولده متحركاً نحوي ، يغمر جوارحي في إلحاحٍ مُريب و يستغل ضعف آدميتي ، لا تتوقف أطرافي عن الحراك ، لا أستطيع التوقف عن الارتجاف ، هويت على الأرض ، أنا الآن أنتظر ، أنتظر نهايتي على يدي هذا المخلوق ، لا أكترث أكثر من ذلك ، الهرب من الموت موت ، و طلب الموت حياة ..

بإمكانه أن يقترب ، بإمكانه أن يبطئ من سرعته فأنا لم أعد أقوَ على الحراك ، لقد استسلمت ، لقد تجمدت أطرافي ، بإمكانه أن يُبطئ لكنني لا أريد ذلك ، اجعلها ميتةً سريعة ، أسرع … أسرع … أنا أنتظرك ، توقفتُ عن الارتجاف ، تقبلتُ مصيري ، ان كان هذا هو مصيري فأنا لا أكترث ، فتحت ذراعي على مصراعيهما أرحب بأيٍ كان ما سيحدث ، أنا في حالةٍ من الفراغ ، الفراغ التام ..

أنا لم أعد أفكر ، لا أكترث ما إن كان يستمر في الاقتراب .. لقد انتقلت إلى مكانٍ آخر على أية حال ، لم يعد دوي أيٍ من تلك الأفكار التي كانت تتردد موجوداً .. بإمكانه أن ينتزع قلبي من صدري ، بإمكانه أن يقتلع أظافري واحداً تلو الآخر ، بإمكانه أن ينهال علي بالسياط حتى يقطع جلدي ، بإمكانه أن يجمدني حتى الموت ، بإمكانه فعل ما يشاء ، افعل ما تشاء يا هذا فأنا لست هنا ، لقد غادرت روحي جسدي ، أنت لا تملكني ، أنت لم تملكني يوماً ، أنا لم أعد خائفة ، أنا لست خائفة ، أنا لم أكن يوماً خائفة و إنما أتصنع الخوف ..

هيا تقدم و اقضي علي ، أنا مستعدة ، أنا أبتسم .. أنا أبتسم ، إنها ابتسامة حقيقية ، ابتسامة تكاد تشق فمي ، إنها السعادة ، أنا الآن أضحك ، أنا الآن أضحك و أنت تتعذب ، لا أكترث ما إن كنت تضحك أنت أيضاً ، من قال أبداً بأن من سيضحك في النهاية ليس سوى شخصاً واحداً فقط ؟!!

فتحت عيناي ، أين أنا ؟ هل متُ بالفعل ؟ هل قضى علي ؟ هل هكذا يبدو العالم الآخر ؟ لا .. انتهى هو ، لقد أرسلته كالعادة إلى نفس المكان السحيق المعتم و قيدته بسلاسل ضحكتي تلك ، قلبُه الآن باردٌ مثل قوقعةٍ فارغةٍ سقطت من سماء .. سقطت على أرضٍ جافّةٍ قاحلةٍ لا تسكنها إلا الرّياح الهوجاء ، هواءٌ يحيطها ، صوتُ الصدى يعلو مع زمهرير بُكائه ِ، قطرات دموعهِ تسقطُ كما المطر في الأرجاء ، سقفٌ جليدي لامع ، لا حياة هنا سوى صوتٍ يُلقي شعراً ، شعراً غايتهُ الرّثاء .

بعد لحظات تتناثر أشلاؤه على الطرقات المسفوحة ، لا الأرض ترضى بأن تبتلعها و لا الرياح تقبل أن تحملها معها ، حتى البحار ليس لها أن تغرقه في أعماقها … في ذلك المكان حيث تقبع أشلاؤه و يختفي جبروته ، أنا لم أعد أنا ، هو لم يعد هو ، أنا لست هو ، من أنا ؟ من هو ؟ فقدنا الجوهر و الكيان .. هل حان الوقت ؟ وقت الاستيقاظ ؟

عندما يراودك نفس الحلم مراراً و تكراراً ، يركض وراءك نفس المخلوق بنفس الطريقة ، و تعلق في نفس الوهم أكثر من مرة فإنك تملك مئات بل آلاف الفرص لتجرب حظك في القضاء عليه ، لا لأنه كان سيمسك بك على أي حال لأن هذا لن يحدث أبداً ! هو يستمر في الاقتراب و لكنه لا يصل ، مهما زادت سرعتك أو بطئت فإن ذلك لا يغير شيئاً ، هو يقترب بهدوء و أنت تتحرك بينما تتسارع نبضات قلبك بشكل جنوني ، هو يهمس في أذنك بنفس الصوت المبحوح سواء كنت تشعر على أنه على بعد أميال أم خلفك تماماً ، كل ما تعرفه هو كون ذلك المخلوق يلاحقك ، و غريزتك الانسانية تخبرك بأنه يريد بك الأذى ، فتهرع هارباً منه إلى ما لا نهاية ، قد يستمر الأمر ساعاتٍ طوال ، و قد تستطيع إنهاء الأمر برمته في دقائق معدودات باستسلام و تتوقف عن الرعشة مع ابتسامة تشق الفم ..

طبعاً لم تكن لتعرف أن إنهاء السباق سينهي بابتسامة إلا بعد تجرعك كل أنواع الآلام و الصعاب حتى تكتشف تلك الطريقة ، و طبعاً لا يمكنك أن تتخيل مدى الشجاعة التي يتطلّبها الاستسلام لذاك المخلوق ، مجرد سقوطك بإرادتك على الأرض دون حراك ، مجرد اتخاذك لقرار كذلك قد يوقف قلبك ، لأنك تعلم أنه قادمٌ لا محالة ، و كل ما يتوجب عليك فعله أنذاك هو الانتظار ، انتظار الهلاك مؤلم يا صديقي ، مؤلم جداً … تفكر في كل مرة ” إذاً هذه هي النهاية ” ، لكنها لم تكن يوماً النهاية ، و كونها لم تكن النهاية أبداً لا يمنعك من التفكير في المرة المقبلة بأن ” تلك هي النهاية ” ، أنت لا تملك أي دليل على كونها ليست النهاية … و لن تملك دليلاً يوماً لأنه ما من أحد يعلم ما سيحدث ! سيظهر شخصٌ آخر قريباً ، شخصٌ لن تنطلي عليه خدعه ” استسلم .. توقف عن الرعشة .. ثم ابتسم ابتسامةً تشق الفم ” .

بعد أن صرت موقناً بما يمثّله هذا المخلوق من مشاعرَ في جوفي ، لم أستطيع إخفاء انبهاري من مدى قوته تلك و هو لا يمثل لي شيئاً إلا ” الخوف من الخوف ” ، الخوف من الخوف ؟ الخوف من الخوف من ماذا ؟ لا أدري !! إذا كان مجرد ” الخوف من الخوف ” له مثل هذه الصورة القبيحة ، فكيف يبدو الخوف الحق ؟؟
لم أعد أسمع إلا عزف الإرباك الماجن ..
لم أعد أقرأ إلا مذكّرات الهلوسة المندّسة ..
أشعر باقتراب وصوله .. الشخص الآخر .. المخلوق الآخر .. الشيء الآخر
ما الذي أَخافَه ؟ ما الذي أخاف خوفي منه ؟

تاريخ النشر : 2016-11-22
guest
12 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى