أدب الرعب والعام

درس الخطيئة

بقلم : تقي الدين – الجزائر

بسرعة تقدم نحوها فلاحظ آثار بكاء طويل على عينيها
بسرعة تقدم نحوها فلاحظ آثار بكاء طويل على عينيها

 كان جالساً داخل غرفته المظلمة يتأمل الحائط الباهت على يمينه دون أن تتحرك عضلة من جسده النحيف ، سريره كان غير مرتب و الوسادة كانت ممددة على الأرضية الباردة ، باب خزانته الخشبي مفتوح و يكشف ملابس مكدسة كمجموعة صناديق موضوعة في العلية ، نهض بخمول مستنداً على يديه الهزيلتين و تحرك نحو حمامه الصغير ، انهمك في غسل وجهه ثم توقف و أخذ يتمعن في تفاصيله كأنه يريد تغيير شيء ما ، ربما شفتاه المنتفختان أو أنفه المستدق أو ربما كان يريد حلق لحيته الخفيفة تماما ليكشف عن ذقنه العريض ، انزلقت يده من على الحوض فأجبرته على الاستفاقة من جلسة شروده الصغيرة ليتوجه نحو المطبخ و يخرج من ثلاجته المتواضعة علبة الحليب ليحضر إفطاره .

بعد أن انتهى سحب من فوضى خزانته سترته السوداء و ربطة العنق المتطابقة ليناسق زيه بسروال جينز أسود و قبل أن ينزل الأدراج المنحدرة لمبناه رفع الطبق الأبيض الذي وضع فيه بعض الطعام لقطة جارته الطاعنة في السن و قد استأنست وجود ذلك المخلوق الظريف بجانبها ليأنس وحشتها .

تحت ضوء شمس الصباح الخفيف قاد سيارته نحو مقر عمله ، ركن مثل كل يوم في آخر صف بالمرأب و أخذ المصعد نحو الطابق الثامن و الثلاثين ، بسرعة مشى عبر متاهة المكاتب البيضاء الصغيرة دون أن يرفع عينيه البنيتين من على الأرض حتى أخذ جلوسه عند مكتبه في الزاوية بعيدا عن الجميع ، ملفات المحاسبة كانت مستلقية فوق مكتبه ليشرع بالتدقيق فيها و فوقها جلست ورقة ملاحظة صغيرة كتبت عليها كلمات مهينة كمشها بيده و قال بفتور بينه و بين نفسه : ” ناضج جداً ” ثم تناول جهاز هاتفه و أنعزل في عالمه الخاص من بوابة الموسيقى .

في وقت الغداء توجه نحو العربة الصغيرة المركونة في ناصية الشارع الواسع بعد أن عبر الطريق بحذر مبالغ فيه و انهمك فمه في تناول شطيرة التونة بينما ركزت عيناه البنيتان على الناس ، السيارات و المباني العالية التي أحاطت به ، دفع بعد ذلك لصاحب العربة ببقشيش سخي ، و بعد أن قطع الطريق مرة أخرى عائداً لمكتبه رن هاتفه فتشنجت أضلاعه للحظة و تسارعت نبضات قلبه و بخفة سحبه من جيبه : ” آلو! “.
” هل هذا غانم ؟ ” صوت أنثوي رقيق تحدث من الجانب الآخر .
ابتسامة صغيرة رسمت على محياه قال بعدها : ” ليندا … لقد اتصلت “.
ردت : ” لقد انتظرتك وقتاً طويلاً “.
شعر بشيء من الحرج و هو يقول : ” إنها ثلاثة أيام فقط “.
لكنها غيرت الموضوع سريعاً : ” هل أنت متفرغ الليلة ؟ هناك حفلة صغيرة في منزلي “.
” لست معجباً كبيراً بالحفلات ” قال و هو يدلف المبنى
، فأجابت مطمئنة : ” إنها حفلة صغيرة ، ثم أنت قادم لأجلي لا للحفلة “.
أخذ لحظة صمت بينما كان ينتظر المصعد ثم قال : ” طبعاً سأكون هناك “.
أنهت المحادثة بموعد الحفلة : ” الساعة الثامنة و لا تتأخر ” .
 
***
 
بعفوية رمى بوزنه فوق الأريكة البنية ثم قال بحماس مكتوم : ” حسناً ، عن ماذا سنتحدث اليوم دكتور حسن ؟ “.
عدل حسن نظارته الصغيرة بعدما انزلقت لتستقر عند أنفه المستدق ثم قال بنبرة هادئة : ” أنا مجرد أخصائي نفسي تابع للجمعية الخيرية لا أكثر ، يمكنك دعوتي بالسيد هادي لكني لست دكتوراً “.
صمت هنيهة ثم أضاف : ” ألن تستلقي اليوم ؟ “.
رد غانم : ” لا … لا أحبذ ذلك “.
أبتسم حسن فأظهر أسنانه غير المرتبة و التي تصطك ببعضها البعض عند حديثه ثم سأل : ” حسناً ، كيف كان العمل اليوم ؟ “.
” المعتاد … وجدت ورقة صغيرة أخرى اليوم ، كأن ذلك لم يحدث من قبل هاه ! “.
أومأ هادي برأسه : ” الناس يميلون عادة للخوف من الاختلاف و ردة فعلهم تكون بالسخرية مما لا يفهمونه “.
” يمكنهم فقط أن يبحثوا عن الاضطرابات النفسية في هواتفهم “.

مسح حسن على عينيه الزرقاوين بكلتا سبابتيه ثم أعاد نظارته لمكانها و قال : ” حسناً ، لنتحدث قليلاً عن زملائك في العمل فهذا موضوع لم نتعمق فيه من قبل ، لم الحاجة في البقاء بعيداً عنهم “.
مرر غانم يده على الأريكة بتوتر ثم أجاب : ” ليس هم بالضرورة ، أنا بعيد عن الجميع ، أشعر أنني لا أثق بهم و أنهم سيغدرون بي في أي لحظة “.
” أهاه ، لم لا تتحدث لشخص آخر غيري عن محاولتك للانتحار قبل أسابيع قليلة ، ربما شخص قريب منك بالدم ربما نصحهم سيريك أن البشر يختلفون “.

” الشخص الوحيد الذي كان قريباً مني هو أمي و قد توفيت منذ فترة كما تعرف “.

و في رأسه أستحضر صورة ألتقطها مع أمه في أحد الحدائق العامة للمدينة ، تذكر ابتسامتها و التي هي فن لم يتقنه ، وجهها ، فمها الصغير ، حاجبيها الكثيفين و بدون أن يشعر ، كما لو أن الجاذبية نفسها سحبته للاستلقاء أخيراً على الأريكة .

أبعد حسن كرسيه عن المكتب كي يعطي مساحة لبطنه المنتفخ ثم سأل : ” لديك أخ و أخت أليس كذلك ، القليل من الفضفضة لهما ستجعلك تشعر بتحسن “.
غانم رد : ” صعب أن تمشي فوق حبل الاكتئاب الصامت ، فزانة الاتزان تميل تارة للراحة التي توفرها الفضفضة و تارة أخرى تميل للندم الذي يأتي من إبداء الضعف “.
ضحك حسن ثم قال : ” الإجابة الذكية التي أتوقعها منك دوماً يا سيد غريب ، بعد سنوات قليلة ربما ستأخذ منصبي ، لكن لنضع المزاح جانباً ، ما هو الندم الذي يأتي من إبداء الضعف ؟ “.
” أنا الآن في الأربعين و قد أخذت وظائف متعددة ، لملمت حاجياتهما ، حممتهما و قمت بفروضهما المنزلية منذ كنت في عمر العشرين حتى نثرتهما الأيام بعيداً ، لقد شعرا دوماً أني السند الذي يتكآن عليه ، لا يمكنني أن أري انكساري بعد كل هذه السنوات ، لا يبدو الأمر منصفاً “.

أستمر حديثهما حتى نهاية الجلسة بشكل طبيعي كصديقين قديمين ألتقيا بالصدفة و قررا أن يجلسا على طاولة مقهى شعبي ، خرج من العيادة بنفس العقلية التي دخل بها لكن بشكل مختلف ، فكلمات حسن جعلته يفكر جدياً في أن يحظى ببعض الأصدقاء و أول من فكر فيه كانت تلك الفتاة التي استحوذت على تفكيره و ذلك السحر الغريب المحيط بها الذي يجعله يتصرف على عفويته .
 
***
 
الحفلة الأولى لم تكن بذلك الجموح ، فقط هو و ليندا مع بضع أصدقاء آخرين على شرفة باحتها الخلفية في منزلها بالضواحي ، الشراب كان حاضراً لكنه أنتشى فقط من شعوره أنه محاط بأشخاص آخرين ، طيلة الليلة لم يستطع أن يرفع عينيه عنها فقد كانت تلك الفتاة المثالية بقوام ممشوق و وجه ملائكي مستدير أنسدل فوقه شعرها البني فغطى عينها العسلية الوطفاء ، لم يكن جمالها فقط ما جعله يسرح بخياله بعيداً و لا عفويتها و جماحها بل كان تفكيره في القدر الذي أوقعه في قرعة فتاة بهذه المواصفات و إن كان فإنه رأى الحسن فقط و تغاضى عن السيئ فالحفلات أستمرت بالقدوم نحوه كالجراد ، و أستمر هو بارتيادها بسبب شعوره بشيء مختلف لم يفهمه ، الرفقة ربما و مع ذلك فإن كل شيء تغير في تلك الليلة التي أوقف فيها سيارته أمام ملهى صغير على أطراف المدينة ، كان مبهرجاً بأضواء نيون فاقعة كما كان متوقعاً و صوت الموسيقى الصاخب يتسلل عبر النوافذ ، للحظة وقف هناك مشككاً فيما إن كانت هذه فكرة جيدة أم لا ، لكنه تذكر جدران غرفته و المنظر الممل المطل على الثانوية فدخل ، و من اللحظة التي وضع فيها قدمه على عتبة ذلك الملهى و ألقى عينيه على الأضواء الساطعة و الأجساد الكثيرة ، طار الوقت بسرعة جنونية ليرميه مباشرة لصباح اليوم التالي ، سترته لم تكن على كتفيه و الصداع كان يشق رأسه نصفين إذ أنه كان يعاني من آثار ما بعد الثمالة ، وسط الزقاق الخلفي المتسخ لذلك الملهى وجد نفسه متكأ على حاوية قمامة خضراء قذرة ، بخفة وفزع تفقد جيب بنطاله الخلفي و تنفس الصعداء حين أحس بملمس حافظته الجلدية البنية و أزداد ارتياحاً حين وجد جميع وثائقه و ماله ، رفع وزنه من على الأرض محاولاً تذكر ما وقع من أحداث ليلة أمس ، لكن الصورة كانت ضبابية غير واضحة فابتعد بدون اكتراث و لا اهتمام كأنه موقن أن ما قام به فيه من الخطأ و الخطيئة الكثير لكنه تمادى فقط ليثبت إصراره و يخبئ ضعفه .

حياته عادت للروتين الممل ، لم يكن سيتصل بها فقد كان يفكر دوماً أن ذلك مؤشر على ضعفه و مزج ذلك مع اعتقاده أنها كانت مجرد شخص آخر سيخذله في نهاية المطاف لذا فقد أكتفى بالانتظار و النظر خلسة لهاتفه لمدة شهر و نصف حتى طفا ذلك الرقم المألوف مرة أخرى على الشاشة .
” غانم إنها ليندا ” قالت بنبرة واهنة .
رد مغتبطاً : ” أنا أعرف ذلك “.
” أسمع ، لدي شيء لأقوله لك “.
” آمل أنها ليست حفلة أخرى ، المرة الأخيرة كانت سيئ… “.
قاطعته بإجابة مباشرة : ” لا … أنا حامل “.
بعنف أنتفض من كرسيه و تناثرت حاجياته كأن جناح طير صفق فوقها ثم صرخ : ” ماذا تقولين ؟ ” ، و كانت على الأرجح تلك المرة الأولى التي يجلب فيها الانتباه لنفسه .
” أنا آسفة جداً ، لا أعرف كيف … “.
قاطعها غانم بنبرة هامسة و قد عاود الجلوس بهدوء فوق كرسيه البارد : ” ألتقيني في كافتيريا وسط المدينة وقت الغداء ، مهما كان ما تفعلينه أتركيه “.
بدون اكتراث لملم حاجياته ثم رماها بعفوية فوق المكتب و هو يتغنى بعبارة : ” لقد أخفقت حقاً هذه المرة يا غانم ” .
 
***
 
” ليلة واحدة يا ليندا ،  ليلة واحدة ! كيف حدث ذلك ؟  ” قال غانم و هو يضرب على الطاولة الخشبية بغضب .
ردت ليندا بخوف : ” لا أعرف كيف حدث ذلك ، كانت تلك ليلة جنونية “.
أكتفى بالصمت للحظة و حدق في القهوة و هي تتماوج داخل الفنجان ثم قال : ” أبقي هنا ، سأعود حالاً “.
” غانم إلي أين … “.
” لقد نسيت هاتفي في السيارة فقط سأعود حالاً “.
أخذ لحظات الصمت تلك متقوقعاً خلف زجاج سيارته للتفكير ، نظر للطريق و فكر جدياً في المغادرة ، لكن ما وقع قد وقع و رحيله الآن سيكون كالهرب من الظل ، أنهمك في هاتفه قليلاً قبل أن يضعه على أذنه : ” هنا الدكتورة حميم ، كيف أساعدك “.
قال بنبرة مسترخية : ” آآه … دكتورة إنه غانم “.
” غانم ، كيف حالك ؟ لم أسمع منك منذ مدة “.
رد و هو يحك جبهته بتوتر : ” آسف لاتصالي بهذه الطريقة لكني في موقف ضيق نوعاً ما ، هناك فتاة … “
قاطعته : ” كم مضى على حملها ؟ “.
فأجاب و قد أنتعش جسده : ” حوالي شهرين “.
” أجلبها للعيادة بعد أسبوع و سأتكفل بالباقي “.
” أنتظري ، كم ستكلف العملية ؟ “.
” خمسة ملايين “.
عض على قبضته المحكمة ليكتم غضبه ثم قال : ” أووه ! ذلك كثير ، حسناً سأراك بعد أسبوع و من فضلك أبق الأمر سراً “.
عاود الجلوس خلف الطاولة بهدوء : ” حسناً ، سننهي هذا “.
ردت ليندا بارتباك على محياها : ” ماذا تعني ؟ “.
” الأمر واضح ، الإجهاض هو الحل الوحيد “.
” لا يمكنني فعل ذلك ، هناك مخلوق حي في بطني و أريده أن يأتي للحياة “.
أمسك يدها رغم محاولتها التهرب و قال برزانة : ” ليندا من فضلك تريدين تربية طفل ، أنظري لنفسك ، يمكنك رؤية الدم يسري داخل عروقك من فوق جلدك الذي زخرف بنقاط الإبر ، تبدين كأنك لم تأكلي منذ عام و … “.
قاطعته : ” لا تحاول إصلاحي يا غانم فأنت في مشاكل بحد ذاتك “.
رد عليها : ” أنا لا أحاول إصلاحك ، أنا أحاول القيام بما هو صحيح ، ليندا ! كنت منتشيه لحد الجنون منذ شهرين ، و أنا كنت على الوشك الانتحار أسبوعين قبل ذلك ، و ماذا ؟ … سنتزوج و حسب “.
” إذاً ؟ “.
” إذاً ، بعد تسعة أشهر ستكونين إما في السجن أو مركز إعادة تأهيل ، و أنا سأكون في مصحة عقلية أو ميتاً ، و سينتهي المطاف بذلك الطفل في مأتم أو ميتاً على كل حال إذا استمريت بالتعاطي “.
” إذاً فقتله بحضور طبيب يجعل الأمر مباحاً ؟ “.
” نحن لا نقتله ، بل ننقذه من الحياة المزرية التي سيعيشها “.
زمت ليندا فاهها للحظة و راحت تأكل أظافرها بهستيرية دون أن تشعر ثم سألت :
” إذاً ، هل توجد عيادة لأمر كهذا ؟ “.
رد غانم و هو يهم بالمغادرة : ” لدي شخص في رأسي ، فقط أبقي الأمر بيننا ، سأقوم ببعض الاتصالات لأحجز موعداً ، أبقي الهاتف قريباً منك “.
 
***
 
توقف بجانب العيادة و ليندا تجلس بجانبه ، كانت عيادة صغيرة ذات طلاء أبيض و باب بلون أرزق لامع ، بفتور أدار المفتاح فتوقف هدير المحرك ثم قال : ” هذه هي ، إنها عملية الدكتورة الأخيرة لذلك اليوم و ستقلك مباشرة للمنزل بعدها “.
” و لما لا تفعل ذلك أنت ؟ ” سألت ليندا بنوع من الغضب.
” إنها دكتورة ، ألم تكوني تستمعين ؟ تريد التأكد أنك ستصلين للمنزل بخير بدون أي مضاعفات ، أشكري الله أنها أدت لي هذه الخدمة ، و جدياً عليك التوقف عن الشرب و بد … “.
انتفضت ليندا مترجلة من السيارة و صفعت الباب بغضب ثم صرخت فيه : ” أنت تعرف أنك كنت تريد شفاء مشاكلك بالمخدرات أيضاً فلا تلعب دور الواعظ “. .
قال بخيبة أمل : ” أنا لا ألعب … “.
راقبها و هي تدخل العيادة ثم شغل المحرك ، ببطء وضع يده فوق المقود لكنها انهارت كأنما أصابها الشلل ، حركها بضع مرات بخفة و فجأة اختلط ذلك التحريك الخفيف لأعصاب يده بالغضب فراح يلطم المقود دون سابق إنذار و هو يصرخ بكل قوته : ” أيها الفاشل اللعين … تباً لك ، تباً لك ” .
كتاجر خاسر يدفع ثمن الخطيئة بالخطيئة أمضى بضع ليال جالساً فوق سقف سيارته التي ركنها على هلة مرتفعة تسمح له برؤية المنازل المتراصفة للمدينة و المأذنة الخضراء التي أرتقت لتعانق السماء و في يده زجاجة شراب مغلفة بورق رقيق ، لم يكن الهدوء فقط ما شد مشاعره كالحبل لذلك المكان فقد كره شقته إذ رأى أنها تذكره بضعفه و كان يذهب للعمل فقط لينام فوق مكتبه حتى الرابعة مساءا ، أضواء الليل الساطعة ، أصوات الملاعق و هي تضرب الصحون وقت العشاء و الأحاديث الودية التي تتسلل من نوافذ الغرباء جعلته يفكر هل هو الوحيد الذي أقترف ذنب قتل روح بريئة لم ترى النور حتى أم أن هناك من سولت له نفسه أن يقدم على أكثر من ذلك لكنه يختبأ خلف غطاء المثالية ؟.

في صباح يوم أحد تلى مسابقة الشرب التي أقامها مع نفسه ، فتح عينيه ، ليس من الثمالة فقط بل من الخيال أيضاً ليرتمي في أحضان الواقع ، تذكر عمله و حياته لذا اهتدى مباشرةً لمكتبه سيراً على الأقدام فهو لم يكن في حالة تسمح له بالقيادة ، سار عبر شوارع المدينة الغدقة مواجها نظرات الناس التي طالما تهرب منها ، فقد رمى بمفهوم منطقة الراحة مع سترته التي لاحظ عند دخوله المبنى أنه لا يرتديها ، يمكن القول أنه لم يحتجها فأيدي محمد رئيسه في العمل تكفلت بدفعه للخارج كقطعة أثاث ، وقف الرجلان للحظة يحدقان ببعضهما البعض عند باب المدخل الدوار ، محمد بقامته القصيرة و تسريحة شعره الغريبة التي لا تتطابق مع وجهه الطويل و غانم الذي بدا كرجل مشرد
” تمهل يا سيد غريب ، لا يمكنني أن أدعك تفعل هذا بعد اليوم ” قال محمد بغضب
رد غانم : ” أفعل ماذا ؟ “.
” تأتي هنا و رائحتك كرائحة حانة مكتظة ، هيا يا رجل ، هذا مكتب محترم ، هناك أمهات يعملن لأجل أولادهن هنا و أنت تخيفهن ، لقد كنت أراقبك في الأيام التي مضت و لم تقم بشيء سوى النوم “.
” محمد… إنه أنا ، ماذا حدث ؟ “.
” أنت رجل صالح يا غانم و جيد في عملك أنا أعرف ذلك ، لكن عليك حل مشكلاتك يا رجل بالإضافة لكل هذا أسمع إشاعات عنك مع فتاة أخرى ، لملم شتات نفسك و إلا لن تعود للعمل هنا أنا آسف ” .
حاول غريب التوسل : ” محمد ، أحتاج هذا العمل أكثر من أي وقت مضى … “.
قاطعه مديره و هو يغادر : ” الأمر ليس عائداً لي ، اذهب للصلاة بدلاً من الشرب ، الشعور بمسجد صغير في صدرك ليس بذلك السوء ، صدقني ” .
 
***
 
” سارة إنه غانم “.
” غانم … كيف حالك ؟ “
” لا يمكنني القول أني بحال جيدة “.
” لماذا ، ماذا حدث ؟ “.
الكثير يا أختاه ، الكثير … أحم ! فقدت عملي و كان علي بيع السيارة ، دفعت كراء شهرين للشقة لكن لا يمكنني أن أتحمل دفع شهر آخر ، سيطردني في مرحلة ما و أحتاج مكانا للمبيت ، فقط لبضعة أيام “.
” بالطب… بالطبع ، سأحضر لك … سأحضر الأريكة “.
” شكراً … شكراً جزيلاً “.
أغلق الخط و حدق بالحقائب السوداء الثلاثة التي وضب فيها أغراضه ، استدار و أخذ نظرة مودع عميقة للشقة ، كان يضع يده على مفتاح التشغيل فأداره لينسل الضوء من المصباح البسيط الذي توسط الرواق ثم أهتدى سائراً على الأقدام تحت زخات المطر الباردة كمسافر نحو بيت شقيقته .
بلطف طرق باباً خشبياً صغيراً كتب عليه بطلاء أسود الرقم ثمانية و تراجع بضع خطوات للوراء ، أستند على الدرابزين بجانبه و أخذ نظرة على الأدراج اللولبية أسفله قبل أن يجفله صوت الباب و هو يفتح .
” غانم هذا أنت ؟ “.
” سارة كيف حالك ؟ ” قال و هو يلج المنزل
ردت سارة : ” بأفضل حال و أنت ؟ هل أتعبك المشي ؟ “.
سلم عليها ثم أجاب : ” لا … لا على الإطلاق “.
” لقد قالوا للتو في الراديو أن الاضطراب قد يزداد سوءاً “.
” آآه ، القليل من المطر لن يضر ، أين فارس ؟ “. سأل غانم و هو يحرك عينيه حول المكان.
” لديه مناوبة ليلية في المصنع “.
” إنهم يضعونهم للعمل هناك حقاً “.
غيرت سارة الموضوع بسرعة : ” لقد تأخر الوقت و أنت على الأرجح متعب ، الأريكة في غرفة الجلوس ، دعني أنزع عنك المعطف فقد أرتوى ماءً “.
بلطف أزالت المعطف من على كتفيه و اختفت داخل غرفتها بينما سار غانم ببطء نحو غرفة الجلوس على يساره ، كانت واسعة بالنسبة لشقة في عمارة لكنها فارغة ، مجرد الأريكة البنية مرتبة ببطانية و وسادة ، بضع أفرشة غطت بها بلاطها الأبيض و تلفاز صغير رمادي جلست فوقه صورة سارة بعمر الثامنة ، حمل غانم الإطار و أمعن النظر فيه للحظة ، ملامحها الجميلة و الصلبة في آن واحد ، عينيان سوداوان مثل شعرها و ابتسامة عريضة .
” لم تتغيري كثيراً ” تمتم غانم ثم جلس فوق الأريكة و هو يفكر
” هل أستلق ؟ أم أغادر و أقول أني ارتكبت خطأ فادحاً ، لا أعرف ربما تحتاج وقتاً مع زوجها ، لكنها بضعة أيام فقط و سأجد مكاناً آخر ” .
هدأ تفكيره لوهلة ثم نهض ثم من مكانه و راح يذرع المكان جيئة و إياباً مفكراً : ” لا … لا هذا ليس من شيم الرجال يا غانم ، عليك بالخروج و المبيت تحت المطر كرجل لن يتحمل أحد آخر أخطائك ” أفزعه صوت سارة و هي تقول ممازحة : ” أما زلت تريد المشي ؟ “.
فرد : ” أنا آسف ! سآخذ مكاني حالاً ” ، عاود الجلوس فوقفت سارة أمامه سائلة :
” ماذا حدث يا غانم ؟ كيف أنتهى بك المطاف بأن تفقد عملك ؟ “.
” قمت بشجار صغير مع رئيس عملي ، لم نكن معجبين ببعضنا حقاً ، على كل سأجد عملاً آخر قريباً “.
ضمت يديها و قد سرت رعشة طفيفة جسدها : ” يبدو الأمر غريباً ، أعني لقد كنت في ذلك المكان لوقت طويل “.
” لقد كنت دوماً شخصاً يتحمل الترهات ، هاه سارة “.
” يجب عليك أخذ قسط من الراحة ، فأنت منهك “.
احتضنته الأريكة فدفأت عظامه بروية حتى ألقته في بحر النوم .

فتح عينيه على منظر الضوء المتسلل من النافذة المستطيلة خلفه ، لم يكن ساطعاً كثيراً لكنه كان كافياً لإيقاظه ، تململ قليلاً قبل أن يهم بالنهوض لكن تناهى لأذنه صوت خشن يهمس : ” لدينا ما يكفي من المشاكل يا سارة ، و أخوك ليس ما أريده الآن “.
” إنه أخي يا فارس و لن أتركه مرمياً هكذا في الشارع “.
بسرعة و جزع لملم حاجياته دون أن يفكر حتى في غسل وجهه ثم صرخ : ” سارة أحتاج معطفي من فضلك “.
دخلت مبتسمة لكن سرعان ما تحولت ابتسامتها لحيرة : ” غانم ، أمغادر أنت ؟ “.
رد و هو يحك مؤخر رأسه : ” نعم … صديق مقرب وفر لي مكاناً “.
وقفت محدقة و قد غاصت في شرود ثم قالت : ” حسناً ، سأجلب معطفك “.
ربط غانم أشرطة حذائه البني و غمغم بتهكم : ” لم تصر على بقائي حتى ، هاه ، أنا لا ألومها ” .
تناول معطفه من يد أخته : ” القدوم هنا كان خطأ ، أنا آسف حقاً فأنتِ في مشاكل كافية “.
عند عتبة العمارة ، رفع رأسه لأعلى و سرح في ملامح السماء الملبدة بغيوم رمادية .
” كنت تقنع نفسك أن تمشي تحت المطر بالأمس ، الآن أنت تعيش ذلك ” ، أقنع نفسه بهذه الكلمات ثم رفع حقيبتيه من على الأرض و عدل الثالثة التي كانت معلقة على كتفه لينطلق بالسير وسط الشارع الفارغ ، الريح تداعب معطفه الطويل فترمي به شمالا و الرعد يصرخ من أعلاه ليمهد الطريق لوابل المطر الذي حضر كضيف غير متوقع ، كالقط كان يتلبد تحت المباني سيرا حتى وصل لزقاق ضيق متسخة جوانبه ، زينته مأذنة طويلة خضراء استأنست بمرقد تابع للمسجد ، توقف و رفع عينيه مستبصراً النقطة التي كان يشرب فيها قبل أيام ليتلذذ بسخرية القدر ، أخرج هاتفه و قال : ” لن تضر المحاولة ” ثم وضعه في أذنه ، أطربته نغمة انتظار شرقية للحظات و بعدها تحدث صوت رجالي خافت : ” نعم … من هذا “.
” أحمد ! إنه أنا يا أخي … غانم “.
” آآه غانم ، كيف حالك ؟ “.
” بخير يا رجل … بخير ، كيف حال ماريا ؟ “.
” إنها بخير … شكرا ًعلى سؤالك “.
وصل لأذنه صوت فتاة صغيرة تقهقه فقال متفاجئاً : ” أحمد ، لما لم تخبرني أن لديك ابنة … “.
قاطعه أخوه : ” علي الذهاب يا رجل … أنا آسف إنه وقت غير مناسب ، سأعاود الاتصال بك “.

نظر غانم للهاتف مصعوقاً ثم للطريق أمامه ثم للهاتف مجدداً ، و شعر كأن أقدامه خارت قواها ، مترنحاً سار تلك الطريق و قد احمرت عيناه من الدمع ، مسح وجهه بعنف ليكبت مشاعره و قل ما يعرف أن مشاعر كتلك لا يمكن أن تكبت إذ فاضت دموعه و بدأ بالبكاء ، أحس بوحشة الغريب في بلاد غريبة ، و ما إن وصل عتبة المرقد العالية حتى تهادى كجبل جليدي و راح يعاتب نفسه في صمت بكبرياء جامح و هو يشهق : ” ماذا فعلت ليعاقبني القدر هكذا ؟ لقد اعتنيت بهم يا أمي ، اعتنيت بهم كما وعدتك ، من ذا الذي سيعتني بي الآن فأنا وحيد يا أمي ؟ ” ذكريات تمر عليه كسراب يخدع ذلك الذي ضاع وسط الصحراء فتلقنه أن جرح البعيد أوهن إذ يشفى بدواء الزمن و النسيان أما جرح القريب فيزداد عمقاً بسكين الذكريات الجميلة ، بضعف وضع يده على حقيبته المبتلة : ” لو عرفت كم أحتاجك الآن يا أمي ، لو عرفت أنهم تخلوا عني … لو عرفت أن أحمد رُزق بطفلة و لم يخبرني ” و مع كل جملة تزداد دموعه فصعب هو هذا الموقف حين تخزن في صدرك الكثير ثم تنفجر لتجد نفسك وحيداً دون كتف تستند عليه .
 
***
 
غرفة المرقد كانت ضيقة و دافئة بشكل غريب حتى بدون مدفأة ، في الزاوية اليمنى وقفت خزانة خشبية مهترئة لا يغلق بابها بإحكام لذا أسند بكرسي خشبي و على اليسار سرير حديدي بارد أخذ معظم المساحة ، رمى غانم بحقائبه على الأرضية مباشرة و تحرك نحو النافذة ليرى منظر الشارع من أعلى ثم استدار و أغلق الباب ، قدمه كانت تتحرك بهستيرية و جسمه بدأ يرتعش فدفعه للخروج و التحرك ، في الأسفل ألتقى بالإمام و تحادثا عن إمكانية عمله متطوعاً كمنظف للمأذنة و المسجد ، لم يتقبل غانم الأمر في البداية لكنه أقتنع أنه عليه أن يلهي نفسه بشيء و إلا سيحاول شنق نفسه مجدداً مستعملاً الكرسي نفسه الموجود في غرفته و ربما هذه المرة لن ينقطع الحبل ، كان يتطوع فقط لأنه يستطيع و يملأ ساعات يومه بكل شغل يستطيع أن يجده حتى جعل من العمل عبادة ، أما عن ليله فقد كان يقضيه بين الخشوع و التأمل و لا ينام منه إلا القليل و بدا كما لو أن سكة قطار الحياة قد عادت للمسار الصحيح ، لكن صباح الجمعة المبتل ذاك أرجعه لذكريات الطريق المنكسر .

بابتسامة غابت عنه منذ دهر ، كان يسير في ذلك الزقاق و بين يديه كيسي قمامة سوداوين سقطا لحظة رؤيته لوجه ليندا الشاحب ، ضيق عينيه ليتأكد و همس مرتبكا : ” ليندا … هل هذا أنت ؟ ” ، بسرعة تقدم نحوها فلاحظ آثار بكاء طويل على عينيها مما دفعه ليسأل : ” هل أنت بخير ماذا حدث ؟ “.
رفعت رأسها له وقالت : ” لم أتمكن من البقاء هكذا أكثر من ذلك “.
” البقاء … ماذا ؟ “.
” لقد حاولت … “.
قاطعها : ” أنا أتفهم … أنا أتفهم ذلك ، لقد كنت سافلاً حقيراً و تركتك تتخبطين وحدك ، لم أرد أزرك مخموراً فأزيد وجعك وجعاً “.
أزداد صوت بكائها فاقترب منها ليواسيها لكنها صدمته : ” إنه ليس أبنك “.
تموجت جبهة غانم من الحيرة و أخذت يداه ترتجفان : ” ماذا ؟ … “.
” لقد أجبرني صالح على فعلها “.
توقف به الزمن للحظة : ” و من هو صالح بحق الجحيم ؟ “.
” واحد من الأصدقاء الذين حضروا الحفلة “.
” ليندا … ما الذي تتحدثين عن … ؟ ” سار قليلاً في الاتجاه الآخر ثم أستدار على عقبيه عائداً ،
” لم أثق في شخص طيلة حياتي ، و في اللحظة التي أقرر فيها فعل ذلك … “.
” غانم أنا آسفة حقاً “.
زأر كالأسد بصرخة قوية : ” آآه … تباً لك ليندا … تباً لك ، و تباً لليوم الذي عرفتك فيه ، لقد دمرت حياتي ، و أسفك لن يعيدها كما كانت “.
” لقد كنت عمياء و استمعت له ، لم أعرف أنك ستكون بهذه الطيبة و العفوية “.
بعنف أحكم على قبضته : ” أوه ! إنه خطأي اللعين الآن أني كنت خلوقاً كفاية لأصدقك “.
” غانم ، لم أعن ذلك أنا … “.
رد بهدوء مفاجئ و قد صقل جليداً داخل صدره في تلك اللحظة : ” خذي مشاكلك بعيداً عني ، إذا كانت لديك أي كرامة لنفسك أذهبي لمركز إعادة تأهيل … هذه التجربة هي طريقك للخروج من تلك الدوامة ، لقد أفسدت حياتي فلا تفسدي حياتك أيضاً “.
قالت متوسلة : ” أنا أعرف أنك لا تستحق هذا “.
رد بهدوء أكبر : ” توقفي عن التمثيل من فضلك ، لقد لعبت دورك باحترافية لآخر دقيقة ، فقط غادري المدينة و أبداي حياة جديدة فأمثال صالح سيرونك دوماً مجرد قطعة لحم “.
رفع يده كطالب في محاضرة و قال : أريد أن أعرف شيئاً واحداً فقط ، هل كنت حاملاً قبل أن تلتقيني ؟ “.
تلثمت ليندا بالصمت و أكتفت بالتحديق فقال غانم ساخراً من نفسه بابتسامة مخزية : ” ذلك رائع حقاً ، كم كنت غبياً ! و محمد أخبرني عن إشاعات بالرغم من أني أمرتك بإبقاء كل شيء سراً “.
” أقسم بالله أنها كانت فكرته … “.
” أتعرفين في تلك الحفلة الأولى تساءلت كيف لفتاة كتلك أن تكون لشخص مثلي ؟ و ها هي الإجابة تأتي متأخرة “.
و فقط في تلك اللحظة أدرك أن ليندا لم تكن النصف الذي احتاجه في حياته بل النصف الذي أراد أن يملأ به فراغه فقط ، عاد لحمل الأكياس و واصل سيره مبتعداً متمتماً بشتائم بالعامية حتى وصل للمكب حيث رمى القمامة ، صفع الغطاء بقوة فوجد في تلك الحركة تنفيساً عن الغضب و دون أن يشعر رفع يده و صفعه مرات متتالية حتى كسره .
 
***
 
بينما رمت الأسقف بقطرات المطر و انقشعت السحب الرمادية لتغدو قزعاً ، جلس غانم وحيدا ً بدون رفيق سوى الذكريات محملقاً عبر نافذته للشارع بشرود قطعه صوت الإمام سائلاً : ” لنا حاجة ببعض العون يا غانم ، إنه دفن شخص قريب “.
” آآه سأكون هناك بعد لحظة “.
أربعة رجال كل ألقى بزاوية من ذلك النعش على كاهله ، بحيرة نطق غانم مستفسراً : ” هل سنكون نحن فقط ، ألا يملك عائلة ؟ “.
” له أبن مغترب لم نوفق في الاتصال به “.
مستاءً قال : ” رجل مسكين “.
فجاء الرد من الإمام : ” ليس حقاً ، فلهذا الرجل الصالح مواعظ وصل صداها خارج البلاد ، و قد قدم الكثير للمسجد ، لم يقدر كلمات الناس قط حتى الإيجابية منها بل كان لعمله هدف أسمى بكثير ، هدف سينفعه اليوم “.
” بالطبع “.
في مشهد مألوف عليه ، ساعد غانم في الدفن و اتجه بعد ذلك للإمام شاكراً : ” أقدر لك كل ما قمت به ، لقد قدتني للطريق الصحيح “.
” أفهم من كلماتك أنك مغادر ؟ “.
” نعم ، علي المضي قدماً بطريقة أو بأخرى “.
” معك حق في ذلك فالحياة رحلة يا سيد غريب و ليس البطل من ينهيها أولاً بل من ينهيها راضياً عن نفسه ، كان الله في عونك ” .
بخطوات قصيرة سار نحو جسر بسيط مطل على الوادي الذي فاضت مياهه ، استند على الدرابزين ظناً منه أنه وحيد لكن صوتاً معروفا له به بحة خفيفة أقنعه عكس ذلك
” غانم … هل هذا أنت يا بني “.
استدار متفاجئاً و قال : ” سيد هادي … عاش من سمع صوتك “.
” كنت سأقول نفس الشيء عنك ، أين اختفيت يا بني ، لقد مضى وقت طويل ؟ “.
” كنت مشغولاً قليلا … ما الذي أتى بك إلى هنا ؟ “.
جاوره حسن في الوقفة ثم قال : ” أنا أتأمل هنا أحياناً ، إنه مكان هادئ ” و أكتفى بالصمت هنيهة ثم سأل : ” ما قصة اللحية الكثيفة ؟ “.
فأجاب غانم : ” لتذكرني بالهراء الذي مررت به في كل مرة أنظر للمرآة “.
سحب هادي من جيبه قطعة حلوى صغيرة نزع عنها الغلاف ثم قال : ” إذاً أنت تخطط للنظر للمرآة مجدداً “.
بروية رفع غانم يديه من على الدرابزين و أسند ذراعه ليواجهه : ” هل أنت هنا لتتأمل حقاً ، أم أنك افترضت أني سأكون واقفاً في هذا المكان ؟ “.
رد حسن و أسنانه تصارع الحلوى : ” القليل من الأمرين لأكون صريحاً و مع تجربتك الأخيرة … “.
قاطعه غانم : ” القطار ينطلق عند الواحدة ، أنا مغادر ، لكن ليس لذلك المكان “.
” إلى أين أنت ذاهب ، إن لم تمانع سؤالي ؟ “.
” اتصلت بصديق قديم في شركة النقل ، و قد وفر لي مقعداً خلف مقود شاحنة للمسافات الطويلة في الشمال “.
” لكن ستعود هنا صحيح ؟ “.
أومأ غانم رافضاً ، فانبثقت كلمات غير مفهومة من فغر حسن : ” لكن عائلتك ، سارة و أحمد ، لقد عشت هنا طيلة حياتك “.
” لم يبقى لي شيء هنا ، لقد اقترفت خطأ … و الناس لا يسامحون المخطئ إنما يشيدون سياج قصص حوله ، أما عن عائلتي فقد رحلت “.
” أنا متأكد أن سارة ما زالت هنا و أحمد يملك وظيفة ثابتة في الجنوب ، إنه على بعد ساعة “.
” جيد ، إذاً لدي شخص هنا ليبقي عيناً عليهم “.
تجمد حسن سارحا فأضاف غانم :
” ليست تلك العائلة التي كنت أتحدث عنها ، هذه التجربة بدون الالتفات لسوئها ، علمتني أن الناس يتغيرون و أنه لا يمكن الثقة بهم و من المنصف القول بما أن هذا هو لقائنا الأخير أنك ساعدتني بطريقة ما لأعرف أنه لا يجب أن أبني حياتي في الباحة الخلفية لشخص آخر و أنتظره أن يمدني بخيط السعادة “.

بطريقة كوميدية طرق على الحديد بأطراف أظافره فأصدر نغمة صغيرة ثم قال : ” سأرسل لك مجموعة ملابس لتعطيها لسارة و بعض المال أيضاً في أقرب فرصة ، فقط قل لها إنها تقدمة من الجمعية ” ثم مد يده ليصافحه فأغلق حسن المصافحة و الصداقة . ” و الآن علي الذهاب ، شكراً لكل شيء يا سيد هادي أناس مثلك هم قلائل “.
بينما سار غانم مبتعداً صرخ حسن بجملة استغاثة أخيرة : ” أولم تعلمك تجربتك في المسجد مع الإمام شيئاً “.
رد غانم و قد استدار دون أن يتوقف عن السير : ” علمتني أن رمي نفسي من ذلك الجسر لن يغير شيئاً “.
 
***
 
تحركت عجلات القطار بتناسق فجعلت الأرض تهتز أسفله و راحت تلك المقدمة الحديدة الضخمة تكتسح الطريق ، أسترخى غانم فوق مقعده و قد شعر بسعادة غريبة ، كتلك التي يحس بها فتى يوم عيد ، عاش مدة في الحياة ليعرف أن لكل رجل خطيئة سهلة دخلت حياته و إيمان أصعب كان متجذراً فيه ، لكن ما لم يختبره حتى كبوته تلك هو الماراثون الطويل بينهما ، مشية طويلة متعبة مليئة بالقرارات ، و الآن لكل ما يعرفه هو أن الغفران هدية لا نسأل أن تعطى لنا ، بل هدية نفتكها بأنفسنا .
 
النهاية ……

تاريخ النشر : 2020-03-04

تقي الدين

الجزائر
guest
11 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى