أدب الرعب والعام

دموع وأحلام

بقلم : سيد محمد أجيد – موريتانيا

أحست بنسمة هواء تلعب بشعر رأسها وتيارات باردة قادمة من البحر تسبح مع دماءها داخل عروقها
أحست بنسمة هواء تلعب بشعر رأسها وتيارات باردة قادمة من البحر تسبح مع دماءها داخل عروقها

 
حملت حقيبتها الصغيرة المزركشة بألوان عديدة متنافرة ، لملمت ما تبقى من شتات أحلامها دستها برفق وهدوء دون أن تؤذيها لعل الله يؤذن لها بالتحقيق مستقبلاً.
تلك الأحلام التي باحت بها ذات يوم قبل الزواج ، لا زالت أطلال ذلك الجدار الإسمنتي شاهدة عليها ، وحتى ذلك المنزل القديم الموصد الأبواب المنسوج حوله من خيط العنكبوت بيوتاً وقصوراً تشبه إلى حد بعيد ما حلمت هي به.

ولعل أهم تلك الأحلام تلك الكلمات التي لا يزال صداها يتردد في أذنها منذ أربع سنوات وحتى في هذه اللحظة وهي قد وضعت قدمها الأيمن خارج ذلك المنزل ، نعم ! كان كأن هناك شخص يهمس لها في أذنها تلك الكلمات.
أيام كانت في سنواتها الأخيرة من الجامعة وكان الوقت ضحى والطقس شديد البرودة وأوراق الخريف بدأت تتساقط على أرضية باحة الجامعة المغطاة بالإسفلت الأبيض ، كانا جالسين على كرسي خشبي يتسع لشخصين فقط وكانت يده الرجولية الخشنة موضوع بحرارة على تلك اليد الأنثوية الناعمة ويده الأخرى يداعب بها شعيرات سقطت على جبينها الوضاء ، سألها

– عندما نتزوج أين نذهب ؟.
أجابت بصوت رخيم صادر من قلب قد أنهكته الأحلام البعيدة.
– عندما نتزوج … وبدأت تنظر نحو الأفق وهي تصك أسنانها المتراصة بظفرها الأحمر الطويل ، تردد : إلى أين نذهب يا تُرى ؟.
كانت في صورة شيطانية جميلة والتفتت نحوه بحواسها الخمس قائلة :
– عندما نتزوج أريد أن نذهب إلى آخر الدنيا ، أعنى إلى مكان يتسع لحبنا ، ولا أحد يرانا ولا أحد يسبب لنا مشاكل.
ضمها إلى صدره العريض مردداً : أعدك بذلك ..أعدك !.
دست وجهها الطفولي داخل صدره كانت كالعصفور يرتجف برداً ، وبدأت تنظم طوابير أحلامها.
كانت هذه اللحظات هي أسعد لحظات مرت عليها منذ أن عرفته ، تلك هي الذكرى الوحيدة التي ستظل عالقة بذاكرتها من ذلك التاريخ الموجع والكاذب.
لم تكن تدري أنها مقبلة على رجل لا يعرف من المرأة سوى دقائق خالية من الحب والحنان
، كانت آذانها قد صُمت قبل الزواج من كلمات مثل (أحبك..عزيزتي…لن أتركك…سننجب …سنحقق أحلامنا معا )…مسكينة هي ارتشفت تلك الكلمات المعسولة الظاهر المسمومة الباطن وتلقتها بطفولتها المليحة كالعادة ، و يا ليتها ما فعلت ولم توافق على ذلك الزواج الذى كان بنظرها رباط مقدس سماوي يفضى إلى الخلود في الجنة.
أربع سنوات مع ذلك الرجل البدين صاحب الشعر الأسبط والقامة المنتصبة والسريرة الخالية من معنى الحياة والحب.

تلك السنوات كانت كافية من السجن ، لقد تغير تماماً ، كان أفضل بكثير أيام تلك العلاقة الغرامية السرية الحرام ، لقد نسي تلك الكلمات الماضية ونسي تلك الوعود أيضاً ” لقد أصبحت العلاقة بيننا مبنية على أنني أداة للمتعة فقط لا أكثر من ذلك ، حاولت كثيراً معه ، أن افهمه أن الزواج شيء آخر ، كنه لم يصغى “.
هذه الكلمات كانت تغدو وتروح معها كأنها شبح يخيفها ، لم يعد قلبها الصغير الطيب يتحمل أكثر من ذلك ، و في ثواني ارتجالية اتخذت ذلك القرار لتخرج من تلك الزنزانة الضيقة وتحلق في سماء أحلامها بعيد حتى وإن لم تتحقق ، رددت بينها وثيابها بهدوء خافت ” أعرف أني مقبلة على فعل حرام … سامحني يا رب “.
وضعت قدمها الآخر خارج المنزل ، أحست بنسمة هواء تلعب بشعر رأسها وتيارات باردة قادمة من البحر تسبح مع دماءها داخل عروقها ، تنهدت الصُعداء كثيراً حتى خشيت أن يسمعها من في المنزل ، كانت أشبه بكثير من مسجون خرج لتوه من السجن منذ مائة عام.
 
كان جميع من في المنزل نيام والليل وسكونه سيد تلك الدنيا حيث لا ضوء سوى أعمدة كهرباء ضعيفة و لا صوت سوى أغصان الشجر وهي تعتز برياح البحر بالإضافة إلى القمر الذى بدأ يغادر تلك السماء في تلك الساعات المتأخرة ،
تقدمت شيئاً فشيئاً بخطوات متثاقلة كمن يتسلل خوفاً حتى أصبحت بكامل جسدها وحقيبتها خارج المنزل ، نظرت أمامها كان الطريق المعبد مد البصر تمنت لو أن لها جناحين كي تطير بعيداً بعد أن فتحت عنها ذلك القفص.
لكن شعوراً غامضاً كان يختلج خلدها وهي تحاول الركض بعيداً على ذلك الطريق ، كانت هناك أشياء صامتة تتحاور داخلها :

–  هل أرجع ؟.
– لا والله وقد استطعت أن أخرج دون أن يشعر أحد.
– أنتِ متزوجة وهذا لا ينبغي !.
– لا ، أنا لست متزوجة ، أنا مسجونة ، مجرد أداة للمتعة ، لم أحس بذلك الحب الذى حلمت به منذ أن ولجت هذ المنزل ، كنت سجينة ، صودرت حتى منى حرية الكلام ، وأحلامي كلها تحطمت ، وحتى جسدي يُضرب !.
 
خلصت نفسها وأخيراً من تلك الخلجات وأدارت بعينيها نحو ذلك المنزل بعدما تأكدت أنها خارج باحة المنزل وأن ما تمنت قد حصل ، ألا وهو إطلاق السراح !.
كانت دموعها الساخنة تتساقط من تلك العينين السوداوين الساحرتين على ذلك الخد الوردي الجميل و ذلك الأنف الحاد المحمر وتلك الأشداق اللينة التي بدأت هي أيضا تحمر ، انتبهت لنفسها لماذا أبكي وقد تحررت أخيراً ، على ماذا أبكي ؟
أبكي على تلك الأحلام العفوية اللطيفة وعلى تصديقي لتلك الكذبة القائلة أن “الحب والزواج يحققان الأحلام”.
 
ها أنا ذا أرثيك يا أحلامي و أحفر قبرك خطوة بخطوة وأهيل عليك الدموع وأحمل نعشك داخل حقيبتي هذه.
زمت شفتيها القرمزيتين المعسولتين الدائريتين الشكل المكتنزتين لحماً وطهارة ، عضت بأسنانها المتراصة شفتها السفلى قائلة بهدوء :
” لن أترك أحلامي تموت بهذه البساطة ، سأحققها ، و أجد من يحققها أو أموت دون تحقيقها”.

وختمت ذلك الموقف بدمعة غليظة أصدرت شعاعاً بعدما انعكس عليها ضوء القمر وهي تسقط بتثاقل مروراً بذلك الوجه نحو تلك الأرض ، راسمة بذلك خريطة صغيرة تشبه تلك الزنزانة الصغيرة الماضية.
 
أشاحت بوجهها نحو الطريق الذى بدأ يطوى نفسه لها ، ركضت ثم ركضت ومحفظتها الصغيرة على ظهرها ، كانت تنظر تارة إلى السماء وتارة إلى الأرض وتارة إلى الشجر ، فلأول مرة ترى تلك المعالم الصامتة ،
أسرعت في الركض حتى أصبحت في مأمن ، أشارت بيدها إلى تاكسي أوقفتها ، إلى أين ؟.
– إلى آخر الدنيا !.
– ماذا ؟.
– أعني إلى منطقة الجبل !.
حيث أستطع أن أعيش كما الجميع وأحقق أحلامي بقدر الله.
في الصباح الباكر أستيقظ الزوج و لم يجدها ظن بدأ ينادى ، لم يجبه أحد ، أعلى من صوته ، استيقظ الجميع ، ما بك ؟ بدأ الكل يبحث عنها لكن بدون جدوى ، كانت قد تركت رسالة على الطاولة ، عمد إليه الزوج و فتحها.

( لقد حاولت كثيراً أن أقنعك أن الزواج ليس كما تظن وأن الحب ليس للمتعة وأن الحياة أقصر من كل هذا ، لقد تحملت كثيراً ولم أعد أستطيع التحمل أكثر ، و أحلامي التي حطمت و وعودك الكاذبة ، سامحني ، لن تراني بعد اليوم ).
كان وقع تلك الرسالة كالصاعقة عليه فلأول مرة أحس بما كان يفعل ولأول مرة تذكر كل شيء ، و لأول مرة أحس أنه كان هناك شخص ، لكن وا أسفاه لقد ذهبت !.
اتجه نحو الباب مهرولاً عله يجدها لا تزال قريبة أو تسمع بكاءه فيرق قلبها فترجع ، نادى بأعلى صوته ، خرج جميع الجيران ، بدأ يبكي . …سامحيني …سامحيني…سامحيني
لكنها قد ذهبت بعيد وإلى غير رجعة ، وقبل أن تذهب تركت رسالة كتبتها بخط عرض على الحائط الكبير لعل الجميع يراها.

(الزواج رسالة إلهية مقدسة والحب العفيف أقدس من ذلك ، والمرأة إنسان وليست أداة والبيت بيتها وليس زنزانة لها ).
نعم ، لقد صدقت في كل شيء ، و بدأ يبكي كالصبى الصغير يجري هنا وهناك يبحث عنها ، أنا آسف ، لا زال عطرها يملأ كل الطرقات وبالأخص ذلك الجدار وتلك الكلمات ، حاول أن يعانقها لكن هيهات ، اتكأ على الحائط و ردد بصوت عال ، وا أسفاه ، أين أنت ؟.

النهاية ……

 
 

تاريخ النشر : 2020-05-23

سيد محمد أجيد

موريتانيا
guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى