أدب الرعب والعام
د.واز
للتواصل : [email protected]
شاهدت واز يقف حاملاً القداحة التي أهدتها له بالقرب من أنبوب الغاز |
المريض النفسي هو الإنسان الذي فهم تماماً ما يجري من حوله.
“ويليام بوروز”
في منزل بسيط أجتمع آرثر الصغير ، أخته الأكبر قليلاً إيميلي ، الأب و الأم حول طاولة الطعام ، حيث أن وجوه الأطفال الممتعضة من الحساء كانت تنظر باستمرار إلى السقف ، بينما كان الأب يصدر أصواتاً و كأنه يتلذذ بطعم الحساء أو إنه يطلق نداءً يشجع فيه الطفلين على قبول المجازفة ، بعد الانتهاء كانت الأم بحاجة إلى أكبر كمية من أكياس النفايات غير المحترمة لتحتوي هذا الحساء .
في حجرة صغيرة مظلمة جلس آرثر على سرير حديدي يرسم ، و بالقرب من وسادته كانت رسومات عديدة مكتملة ، منها منظر الطاولة و العائلة مجتمعة على العشاء.
ربما بالنسبة لآرثر فأن الجلوس في الظلام يبدو أكثر لطفاً من مشاهدة الأخرين في النور ، حيث أنهم يمثلون له البقع المظلمة الوحيدة داخل حيز النور ، اعتاد آرثر أن ينهض ليلاً بشكل متكرر ، و أعتاد أن يسير في الممر المظلم وصولاً إلى المطبخ ، أخذ يتلمس الطاولة بيديه حتى أمسك بزجاجة الماء ، فجأة اشتعل عود ثقاب ، و بنفس الوقت سقطت الزجاجة من يد آرثر حينما شاهد إيميلي تقف مبتسمة حاملة عود ثقاب مشتعل قرب أنبوب الغاز في المطبخ ، ركض آرثر و هو يصرخ : ماما…ماما… إيميلي تريد أن تقتلنا مجدداً.
في حجرة معزولة تقع في نهاية الممر كان د.واز نائماً و شعره يغطي وجهه ، صوت طرق متكرر على الباب : د.واز ، أنا نيكول… هل أنت مستيقظ؟ ، وضع د.واز نظارته على عينيه المغلقتين : نعم نيكول ! أنا على قيد الحياة ، ماذا حصل ؟ ، نيكول بنبرة حزينة : إنه آرثر.. يصرخ مجدداً و لا يتناول طعامه ، أرجوك يجب أن تتحدث إلى المديرة ، قبل أن أنسى ، لقد تركت لك القداحة الجديدة على الاطار أعلى الباب.
أندفع د.واز تجاه غرفة المديرة ، السيدة هوفمان ، دخل و هو يصرخ في وجهها و أخذ الاثنان يتناقشان حول منع السيدة هوفمان لآرثر من ممارسة الرسم ، لم تستجب المديرة لطلب الطبيب بخصوص السماح لآرثر بالرسم و أخبرته أنه بهذه الرسومات يخلق عالماً خيالياً يبعده عن الواقع ، مما أدى إلى خلق صعوبات في التواصل و الانسجام بينه و بين بقية الأطفال في الملجأ !.
بعد أن ترك مكتب المديرة غاضباً أتجه (د.واز) إلى حجرة التأديب ، فتح الباب و ظل واقفاً ينظر إلى (آرثر) الذي كان يجلس في زاوية الحجرة و يضم قدميه إلى صدره ، أقترب منه د.واز و جلس بجواره :
– حسناً آرثر ، ما الذي حصل ؟ أخذوا منك الأصباغ و الأوراق ، ثم ماذا ؟.
– لن يأتوا مرة أخرى ، لن نأكل معاً مجدداً.
– سيأتون ، صدقني سيأتون حتماً.
بدء آرثر بالبكاء .
– لن يأتوا ، لن يأتوا ، حتى إيميلي اختفت ، لن نلعب مجدداً.
بغضب شديد و صراخ أجابه د.واز :
– سيأتون أيها الضعيف ، لقد اعتمدت عليك طويلاً ، لم يتبق سوى القليل ، لا تكن جباناً الأن!.
خرج د.واز و أغلق الباب بقوة.
جلست نيكول على طرف السرير في غرفة د.واز بينما كان هو مستلقيا ، أخبرها أن القداحة التي أهدتها له ستكون هي السبب ! استغربت نيكول من الجملة حتى فسر لها د.واز : ستكون السبب في عودتي للتدخين و أشياء أخرى ، الاثنان لم يكترثا لا للمديرة ولا للعاملين الأخرين في المكان ، حيث أن استلطاف أحدهما للأخر كان واضحاً جداً ، خرجت نيكول و أغلقت الباب ليبقى واز مستلقياً وهو يشاهد دخان سيجارته مختنقاً يتجه نحو النافذة باحثاً عن مخرج ، وهو وحده يعلم أن هذه الحجرة لو كان لها حرية التصرف لاختارت أن تذهب إلى حجرة أخرى طلباً للراحة بعيداً عن واز ، بعيداً عن السجائر ، بعيدا عن زفير نيكول خلف بابها و جدرانها ، ربما أدرك واز في مرحلة عمرية متأخرة نوعاً ما أن الماضي قد يمحى من الذاكرة بشرط واحد ، هو أن يتسلل إلى المستقبل و أن الذاكرة أشبه بمرآة كبيرة ، مرآة سحرية عندما تنظر اليها مرة واحدة فأن صورتك ستظل هناك إلى الأبد مهما ابتعدت ، مهما أسرعت و توغلت ، بينما تتسلل هذه الأفكار كالصراصير إلى حجرة واز .
كان النوم قد استعاره قليلاً ليمارس معه عادات النوم الأكثر إثارة ، تجربة أحلام جديدة على شخصية مضطربة ، هذه المرة لم يكن الحلم جديداً ، بل كان كابوسا دائماً ما يتكرر :
” الشمس تسقط بسرعة في النهر ، قطيع من الأغنام يتجه مسرعاً نحو الحظيرة ، الخيل مضطربة في الإسطبل و هي تشاهد جزاراً ملثماً بفأس كبيرة يضرب عنق بقرة تبدو ميتة مسبقاً ، فتاة خائفة تركض مسرعة و خلفها ثلاثة رجال سكارى و كلب ، ثم يطير وشاح الفتاة لتحمله العاصفة إلى السماء ، منزل خشبي بسيط ، الأب و الأم نائمان ، فتاة صغيرة تسير في ممر مظلم حتى تصل المطبخ ، تتحسس الطاولة بيديها لتعثر على زجاجة الماء ، فجأة يشتعل عود ثقاب و بنفس الوقت تسقط الزجاجة من يد الفتاة و تتحطم عندما شاهدت طفل صغير ملامح وجهه ممسوحة ، حيث يبدو وجهه مسطحاً و يمسك عود ثقاب مشتعل و يقف قرب أنبوب الغاز في المطبخ ، تركض الفتاة الخائفة و تحطم بقايا الزجاج المتناثرة على الارض بقدميها ، تترك أثاراً لأقدام دموية في الممر وتصرخ : ماما….ماما.. آرثر يريد أن يقتلنا مجدداً”.
استيقظ واز من كابوسه على وجه نيكول الجميل التي أرعبتها طريقة استيقاظ واز ، بعد ثواني من الاستدراك من قبل واز ، أخذ ينظر باتجاه نيكول محاولاً جمع تركيزه حتى شاهدها كصورة ضبابية أقل وضوحاً من لحظة استيقاظه الأولى ، شاهدها ممسكة برسومات لعائلة مجتمعة حول مائدة الطعام و رسوم أخرى ، نيكول بنبرة حزينة سألته عن مصدر الرسومات التي أخرجتها بنفسها من خزانته ؟ بعد تردد و لعثمة أجابها واز أن الرسومات لآرثر ، و قفز من السرير مسرعاً .
دخل واز غرفة التأديب حيث أرثر و أيقظه.
– يجب أن نذهب الأن ! لم يعد هذا المكان أمناً ، أنهض هيا.
– لن نذهب ، سنبقى هنا ، ماذا تخاف ؟ تتحدث عن الأمان؟ تعتقد أن الأمان بعيد عن الناس ؟ الأمان في العزلة ؟ أمثالنا يجب أن يختبئوا بين الناس ، في الزحام ، الخطر الحقيقي يكمن في داخلك عندما تبتعد ،عندما تدخل تلك الغرفة التي تمتلك مفتاحها وحدك ، أفضل الجلوس مع الحمقى على الجلوس وحدي.
– لست بحاجة إلى نصائح طفل أحمق أفسد مخططنا ، نحن نفعل ، ما أقوله أنا ، أنا فقط.
في الممر ، عند مدخل الملجأ واز و آرثر أسرعوا بمغادرة المكان حيث صرخت نيكول من خلفهم :
– واز إلى أين أنت ذاهب ؟ واز أرجوك عد إلى هنا
– سنغادر ، قررنا ذلك ، سنغادر ، أدخلي ، نيكول هذا لن يجدي نفعاً ، لن نعود.
– أرجوك.. أرجوك.. توقف وعد إلى الداخل ، لا داعي لتكرار هذا كل مرة ، سيقومون بصعقك و طرحك أرضاً كالعادة ، أرجوك توقف وعد إلى الداخل.
بينما أكمل الاثنان مسيرهما باتجاه المخرج ، صوت من الخلف ، ثلاثة حراس يحملون العصي الكهربائية.
– د.واز ، توقف من فضلك و عد إلى الداخل ببطء ، د.واز من فضلك استدر على مهلك وعد إلى الداخل ، آرثر واز أنها الفرصة الأخيرة ، لن أكرر ذلك.
عند سماعه لنداء الحارس خصوصاً بأسم آرثر واز ، سقط أرضاً و كل شيء حوله يدور بسرعة ، بين الحلم و الحقيقة ، أو بين الحلم و العبث ، حيث بدأت المشاهد تنهال أمامه و تدور مع بقية الأشياء ، قطار سريع جداً و شخص في احدى غرف القطار ، أخرج رأسه من النافذة ليتقيأ ، مكتبة جدارية في حجرة ضبابية ، بين الكتب قماط تخرج منه بعض الأصوات ، عجوز يقترب بشعلة نار ليحرق المكتبة ، كما شاهد آرثر ممسك بحذاء كبير متسخ لرجل معلق بحبل من رقبته بغصن شجرة كبيرة ، سيدة بدينة جداً تدفع عربة بناء ممتلئة برؤوس البقر المقطوعة حديثاً ، أخذت أقدام الحراس تقترب أكثر من وجه واز الملقى على الأرض ، حتى أحتل الظلام الصورة كاملة.
في الصباح ، نيكول وقفت تنظر إلى واز نائماً و بالقرب منه تقف ممرضة ، تراقب جريان المهدئ داخل المغذي بينما كانت المنظفة تفرغ خزانة واز من الرسومات ، حيث استفسرت نيكول عن المهدئ و أجابتها الممرضة أنه سينام ربما ليومين أو ثلاثة كالعادة ، أو على الأقل لن يقوى على مغادرة السرير قبل ثلاثة أيام.
أخذت نيكول تنتقل من غرفة إلى أخرى في طابق المصحة المخصص للحالات غير المصنفة حتى دخل المساء و أخذت الأنوار تتضاءل ، حيث أن الجو العام كان يشير إلى مساء هادئ ، أو هدوء عبثي.
سارت نيكول ليلاً في ممر مظلم داخل المصحة يؤدي إلى المطبخ ، دخلت و أخذت تتحسس الطاولة حتى عثرت على زجاجة الماء ، فجأة انطلق لهب القداحة و سقطت الزجاجة من يد نيكول عندما شاهدت واز يقف حاملاً القداحة التي أهدتها له بالقرب من أنبوب الغاز ، لينطلق إنذار الحريق و ينزل الماء من السقف ، وقف الاثنان ينظران إلى بعضهما البعض في ذهول ، و قطرات الماء تحاول أن تتشبث بأطراف شعر نيكول و كذلك واز ، حتى قالت نيكول بخوف كبير:
– كدت أن تقتل الجميع !.
– آسف ، كنت أحاول الاستحمام فقط !.
النهاية ….
تاريخ النشر : 2021-04-07