أدب الرعب والعام

رحلة هشام أنيس

بقلم : محمد ذكي – مصر

رحلة هشام أنيس
أشار إلى لوحة زيتية قديمة ، عبارة عن وجه فتاة نحيلة يتطاير شعرها ، ويطل من عينيها حزن غريب

ركزوا قليلا ، اتركوا ما بأيديكم فحالة هشام أنيس ستعود بكم إلى تسعينات القرن الماضي ، حيث جمال وروعة وخفة ظل القاهرة ، ثم تأخذكم في رحلة لم تنتهي حتي الآن ، مروراً بمحطات الطب النفسي وعلماء الدين ، بل وحتي النصابين ، حتي نأنس بخداعهم لنا ووحتي تصبح الرحله شيقة . وحتى يعجب ضيوفنا ببرنامج الرحلة سنعرض لكم بعضا من كلاسيكيات الادب الامريكي مع اغاني وكليبات وافلام من مصر ولبنان والعراق . 

عندما أتذكر حالة هشام أنيس يتردد في أذني صوت سامي كلارك الرائع في أغنيته “آه آه علي هالايام اه اه ما عاد فينا ننام” . نعم لم نكن ننام ، كنا شلة مصريين كبيرة من احد أحياء الجيزة ، تضم الذكي والغبي واللماح والكسول ، ويجمعنا جميعا خفة الظل وصفاء النيه ، وكان عهدا غير مكتوب بيننا ألا نسمح بدخول غريب إلينا ، عندما دخلنا الجامعة في منتصف التسعينات تفرقت تخصصات التعليم ولم نتفرق ابدا ، جمعتنا جامعة القاهرة . 

كان هشام انيس من أوسم وأرق الشخصيات التي يمكنك أن تراها ، كان يشبه في ملامحه وشخصيته عمر الشريف في فلم أيامنا الحلوة ، الغير راضي دائماً عن تصرفات أحمد رمزي وعبد الحليم . كان أبوه ضابطا بالجيش وأمه ربة منزل وله أخت واحدة ، ورغم ذلك البعد الاجتماعي المميز كان خجولاً جداً في معرفة الجنس الآخر ، كان يردد دائما انه لن يخوض سوي علاقة واحده مع إنسانة سيمنحها كل شيء ، مشاعر وعواطف وعمره كله حتي الموت . لم يسمح لنفسه بالعبث بالآخرين أو دخول أي تجارب وكنا نسخر قائلين له طب ما تعمل علاقات وتحافظ علي شرفك لحد ليلة الدخلة ، فكان يضحك ضحكته الخجولة الرائعة ..

التحق هشام بكلية الآداب قسم لغة ألمانية ، فطبيعته لا تتناسب أن يكون ضابطاً بالجيش مثلما تمنى أبوه . بدأنا نسمع من بعضنا عن مواد دراسة كل منا ، حتى صديقنا الغبي الذي التحق بحقوق القاهرة كنا نؤكد له أن القاضي سيصدر أول حكم من نوعه بالتاريخ بإعدام المحامي نظراً لغبائه ، ومن هشام بدأنا نسمع عن نيتشه وهيجل وكارل ماركس ، و وأثناء الحديث فاجأنا هشام أن أبيه اشترى بيتاً جديداً وانهم سينتقلون إليه بعد أسبوع .

وفعلاً انتقلوا وذهبنا لنبارك ، وحقاً كان بيتا جميلا وأدخلنا هشام حجرته وفوجئنا به يشير إلى لوحة زيتية قديمة عبارة عن وجه فتاة نحيلة يتطاير شعرها ، ويطل من عينيها حزن غريب ، والخلفية منزل ريفي أوروبي وبحيرة ساكنة في ضوء القمر ، قائلاً لنا أخيراً وجدت فتاة أحلامي وأنه أخيرا عرف الحب . طبعاً لم نعر كلامه اهتماما بعد أن دخل لنا الطعام ، وترجينا هشام أن يعطي لنا مفتاح بيتهم القديم حتى نذاكر دروسنا بجد واجتهاد ونقدح زناد فكرنا في جو هاديء ، وخلال الإجازة سنحولها لصالون أدبي ، طبعاً فهم ما نرمي إليه.. وانتهت الأمسية بضحك لا ينتهي ، وتفرقنا .. 

ومرت أيام حتي فاجأنا أحدنا أن والدة هشام اتصلت به وأخبرته أنها قلقة لأن ابنها لا يبارح غرفته ولا يأكل تقريباً ودائماً شارد في تلك الصورة ، طبعاً لم نأخذ الكلام بجدية لكن عندما ذهبنا صدمنا أن ما قالته السيدة الفاضلة أقل بكثير مما رأيناه . لم يكن هذا هشام إطلاقاً ! هذا شخص مهمل في العناية بنفسه ، عيون حمراء وذقن لا تحلق بل ورفض تام لمجرد تواجدنا . استأذنا وانصرفنا وتجددت المكالمات من والدته التي أكدت باكية أن حالته تفاقمت ، ولو كانت الأم تعرف معني كلمة استحواذ لقالتها ، ولكنها أكدت أنها تسمع ابنها ليلاً يحدث الصورة ، فكانت محطة الطبيب النفسي ، وبعد جهد استطعنا أن نأخذ هشام له .

كان طبيباً عصبياً مغروراً ولكنه يملك العلم ، وبنفاد صبر تحدث كأنه فرويد قائلاً : “كلنا نملك الوساوس ولا بأس ، ولكن أن تتحول لضلالات فمرحبا بك في عالم المجانين ، يمكنك أن تتخيل نفسك نابليون وهذا شيء صحي ، ولكن حين ترتدي ملابسه وتضع يدك على معدتك وتصفف شعرك مثله فأنت مجنون ابن مجانين ، وفي حالة هشام كان الحب خيالاً تحول إلى ضلالات ، ويجب وضعه في مصحه نفسية “. 

طبعاً نال من الأم شتماً وسباً مصرياً رائعاً ، وتقريباً أنقذناه من يديها وهي تصرخ قائلة ابني مش مجنون يا ابن ال….. وبعد أن هدأنا واجتمعنا مره أخرى ورسمنا علي وجوهنا الاهتمام والأهمية الرهيبة ، وكان من يرانا حينها سيعتقد أنه يحضر جلسه لمجلس العموم البريطاني ، فذكر أحدنا أنه يحضره عمل كلاسيكي من الأدب الأمريكي اسمه صورة دوريان جراي ، عن لوحة مرسومة لشخص وسيم وتافه ، كلما ارتكب خطيئة كلما ازدادت اللوحة قبحاً وعجزاً ، فأخرسناه قائلين أن هذا ليس وقت استعراض الثقافة يا أوسكار يا وايلد ، وأنك جدير بأغنية أحمد عدوية السح الدح امبو .. تذكر آخر فيديو كليب لكاظم الساهر في أغنية لا تتنهد وأن المخرج استوحي إخراجه عن واقعة حقيقية لسيدة أمريكية هامت حباً بمانيكان في فاترينة ، فكانت تشتري كل ما يضعوه على المانيكان ، حتي استحوذ المانيكان عليها تماماً فقررت أن تشتريه . إذن نحن أمام حالة تتكرر ، فهناك أمل لحل اللغز ..

وكانت المحطة التالية هم علماء الدين ، فذهبنا مع أمه إلى عالم مشهور ومشهود له بالكفاءة ، فأخبرنا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر مصعب بن عمير أن يحلق شعره لأنه كان فتنه للنساء ، وأن سيدنا عمر أمر بقطع شجرة كان الناس يفتنون بها ، وأن العلاج هو تدمير الصورة . عندما عدنا لننفذ كلام مولانا اصطدمنا بهشام الرقيق الوديع الذي هدد بالانتحار ، فذهبنا مرة أخرى لنجلس في القهوة مؤكدين لأنفسنا أن أكواب السحلب والكاكاو ستكون خير معين لنا في حالة هشام أنيس ، فقررنا المحطة التالية وهي الدجالين والنصابين ..

فذهبنا مع أمه إلى أحدهم ، وكان النصاب أنيقاً وقوراً بعيداً عن جو البخور والعمة والجلباب وأشتاتا أشتوت ، وبعد أن أخذ مبلغاً محترماً يرضي غرور الأسياد تحدث وهو شارد في الأفق في لحظة نيرفانا لم يصل إليها الحكيم بوذا نفسه أن هناك ابن حرام عمل عمل سفلي وضعه في الصورة بحجاب محبة ، وربط روح هشام بالصورة ، وعندما تقمص أحدنا دور المحقق بوارو متسائلاً من أين لك بمعرفة اسم هشام فأجابه النصاب قائلاً ” أنت اللي قولتهولي يا غبي ” ، فاستشاط صاحبنا غضبا وقرر استكمال التحقيق قائلاً الصورة واضحة فأين الحجاب ، فأجاب الدجال أن هناك سحر مرشوش ومنثور وأننا لا نعلم من العلم شيء ، وحين اقتنع صديقنا المحقق بأنه أمام عالم طلب منه حجاب محبة حتي تنظر جارته إليه ، فأجبته أنا أن هناك أحجبة وسحر مانيوال وأوتوماتيك . فانتهت الجلسه على المسخرة وطردنا الدجال متوعداً إيانا بانتقام الأسياد .

عند هذه المرحلة كنا بالمصري “بنتلكك” لعدم فعل أي شيء ، لن نذهب للجامعة حتى يشفى هشام أنيس ، لن أخطبك من أبيكِ حتى يشفى هشام أنيس ، لن أذاكر أو أفتح كتاب حتى يشفى هشام أنيس . ” مصريين بقي وكلنا جدعنة مع صاحبنا” ، حتي قررنا أن ننهي ذلك الجدل المستمر عامين متتاليين ، حاولنا الكلام مع هشام حاولنا خلق جو كوميدي فمنا من طلب خطبة أخت من في الصورة ، ومنا من امتدح أخلاقها لأنها منذ عامين لم تنطق حرف واحداً ، وهذا هو النوع الهادئ الذي يحبه ، حتى حاول أحدنا تقبيل الصورة فضربه هشام محاولاً قتله ونعته بأسوأ الألفاظ ، وطردنا جميعاً .

مع الأيام ساءت حالة هشام وابتعدنا ، وكنا نعرف أخباره لِماماً ، رحل أبوه ولحقته أمه ، ولم يكمل دراسته ، وكمجنون رسمي معتمد استحق معاش والده . هو الآن كهل في الثانية والأربعين يعيش مع أخته التي لم تتزوج ، وكيف تتزوج وأخوها مجنون ! الكل في مصر يريد أن يحافظ على ذريته وسلالته النقية وكأنها سلالة الملكة اليزابيث . ومازال هشام حياً يأكل بالكاد ولا يتوقف عن حب معشوقته .

ماذا كان في الصورة ، لا تسألني ، فحينما تجيب الحياة عن سر مسلسل برمودا ولماذا تنتحر الحيتان ، حينها فقط سأجيبك عن سر صورة هشام أنيس .

محمد ذكي من مصر

 

تاريخ النشر : 2019-01-09

guest
18 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى