أدب الرعب والعام

رحمة

بقلم : حوريه الحديدي – مصر

صغيرها الوحيد يصرخ ألماً و هي مقيّدة..
صغيرها الوحيد يصرخ ألماً و هي مقيّدة..

 

تلك هي الحياة، مشقة و عذاب، و لكن أترضخان المشقة و العذاب لقلب أمٍ ذُبحت ألماً؟! أو أتسكنان من أجلِ قلبٍِ صغيرٍ واهنٍ على حافةِ الحياة؟!

جلستْ في المِقعدِ المُخصصِ لها، و حمدت الله بقلبها أنّه جوار النافذة، فلا يجاورها من الجانبين أشخاصاً، فيحاولوا بجدٍ معرفة أدقّ تفاصيل حياتها، و أكثر أسرارها خصوصيّة، فيبدو أنّ ركابَ القطارِ يرونها مثيرةً للإهتمامِ و موضوعاً جيّداً للنقاش بالفعل، فمنذ خطت قدمها عربة القطار، توقّف الجميع عن الحديثِ و الثرثرةِ، و لم تتزحزح أعينهم عنها لحظة، و كيف يفعلوا و هي بهذا المظهر!

فتاة عشرينيّة جميلة تبدو هادئة، ترتدي الأسودَ فحسب، و نظّارة شمسيّة سميكة، و يبدو عليها الحزنُ و الألمُ النفسي الشديد، راقبها ركّابَ القِطار لبعض الوقت و قد خلعت نظّاراتها لتكشف عن أعين بُنيّة هادئة ذابلة لم تكن تحوي في محيطها أيّ مساحيقِ تجميل.

جلستْ تنظر إلي المارّة علي الرصيف: فهذا أبٌ و طفلة، و هؤلاء زوجان مع ابنتهما، و تلك جدّة تصطحب أحفادها لمكان ما، و ذاك رجلٌ يحمل رضيعاً بين يديه، و مرّت بجانب نافذتها امرأة تحمل طفلةً علي كتفها، و نظرت الطفلة للفتاة الحزينة و ابتسمت بإشراق و لوّحت يدها بعشوائيّة ثم ابتعدت بها السيدة، فابتسمت الفتاة الحزينة رغماً عنها، و لكن سرعان ما تحوّلت ابتسامة شفتيها إلى عبوس يصحبه دموع -فاضت بها عينيها- و شفاه مرتجفة. 

جفّفتْ الفتاة وجهها، و حاولتْ تهدئة قلبها الثائر المشتاق، و قد أخرجت من حقيبتها صورة صغيرة تبدو متهالكة، و نظرت لها بتمعّنٍ لعدّة دقائق، فصورته كانت الشفاء الوحيد لألمها و المصدر الأكبر لعذاب قلبها.

اقتربت سيدة أربعينيّة، و جلست جوارها و لم تعلم الفتاة هل انتقلت السيدة لجوارها حين رأتها تبكي؟ أم أنّها صعدت لتوّها إلى عربة القطار؟، و لكن لم يهم هذا، ففي الحالتين بدأت السيدة تتحدّث إليها : “هل أنتِ بخير عزيزتي؟”  تحدثت السيدة بهدوء، فأومئت الفتاة ب(أجل)، فعادت السيدة تسألها  “ما اسمكِ؟”  أجابت الفتاة بعد تماسكها قليلاً  “رحمة”.

بدا على رحمة أنّها لم تُودّ الحديث، حيث كانت تنظر إلى الصورة في يدها و إجاباتها مقتضبة، و لكن السيدة ربما أغفلت هذا فأكملت حديثها  “اسم جميل، و لكن لِم الحزن و الرداء الأسود يا صغيرتي؟”  تابعت رحمة صمتها، فهي ليست مستعدّة لترك الآخرين يطّلعون علي أحزانها و ألامها ، و ربّما إتخذوا من الأمر موضوعاً للتسلية يخضع للقيل و القال، و لكن الألم في قلبها كان شديداً و صعباً و أبى أن يريحها و لو للحظة، و كانت مستعدّة لفعلِ أيٍ كان لوقف الألم، و ربّما إن أخبرت تلك الغريبة فيهدأ نواح قلبها و صراخ روحها. 

تنهّدت بعمق، ثم بدأت بالتحدّث، لكنّها لم تعرف من أين تبدأ، كانت تائهة، لا تدري أي جزء كان بداية عذابها، “إنّه ابني الوحيد، قد مات بعد ولادته بشهور قليلة” لم تستطع كبح دموعها أو شهقاتها، و لكنّها انشغلت بذلك عن ملاحظتها أنّ تقريباً كل من بالعربة يستمع. 

“أهذه صورته التي تحملينها؟، و لكن لا تحزني فهو الآن ملاك بجنّة الرحمان”  تحدّثت المرأة ببعض التعاطف في صوتها فأمالت رحمة الصورة تجاهها بأنامل مرتعشة لترى السيدة طفلاً ذو أيام قليلة مستلقي علي مهدٍ صغير، و كان الصغير مستغرق في النوم و يشبه مظهره الملائكة حقاً، أجابتها رحمة “أجل إنه كذلك، و لكن صوت صراخه لا يفارق أذني، لا أستطيع التنفّس حتّى، و أنا أسمع صغيري يصرخ و يبكي ألماً”.

سألت السيدة عدّة أسئلة أخرى، و كادت رحمة أن تجيبها و لكنّها شعرت بالشفقة حول حالها، فهل وصل حالها بأن تتلمّس الشفقة من الغرباء؟! هل لهذه الدرجة وصل ضعفها؟! رفضت الحديث، و تمالكت نفسها حتي وصل القطار إلى القاهرة. 

تركت القطار، و استقلّت سيّارة أجرة إلي منزلها الصغير الذي ابتاعته في أحد أحياء القاهرة الكبرى. 

كان المنزل بسيطاً و هادئاً مثلها تماماً، فطوال حياتها كانت فتاة مطيعة و هادئة تفعل ما تؤمر به من قِبَل والديها حتّى و إن كان ضد رغبتها، فبعد التخرّج أرادت السفر للقاهرة و العمل، تاقت الخروج من قوقعتها الصغيرة، و لكن أهلها دفعوها للزّواج من ابن الجيران الذي وعدهما بشقّة في المبنى المجاور لهم فوافقوا سريعا و كأنّهم يريدون تقييدها جوارهم و اكتفوا بذلك و بأنه ابن الجيران المعروف عن عائلته الأخلاق و الكرم.

و بعد المأساة التي حلّت بالفتاة، تغيّرت و صار صوتها مسموعاً، و أصرّت علي الرحيل إلى القاهرة و العيش فيها و بدأت تخرج من قوقعتها. 

كانت الشقة مريحة فقد مثَّلت لها منطقة الأمان التي لطالما عاشت بها قبل الزواج، و ربما تشبّثت ببقاياها بعيشها بتلك الشقّة، فقد رتّبت أغراضها، و صنعت بعض القهوة، و جلبت كتاباً و جلست في شرفة المنزل التي أطلّت علي شارعٍ واسعٍ عريض تحتسي قهوتها و تقرأ الكتاب، و بين الفينة و الأخرى، ترفع رأسها إلي السماء فترى الغمام و القمر يتوسّطها، و كأنّه يطمئنها أنّ غمام حياتها سيزول، كما كانت القراءة تفعل في الساعات القليلة متى ترافقها صحبة الكتب، دون الإلتفات إلى هذه العادة بالشؤم و النحس، فقد كانت سبب التفات زوجها السابق إليها.

نشلها هذا الكتاب من الواقع الأليم الذي تعيشه، و لم تشعر بالعالم من حولها إلّا و كوب القهوة ينزلق من يدها فأمسكته سريعاً قبل أن يصل للأرض، و نقلته إلي المطبخ، و عادت إلى مقعدها في الشرفة لتدخل إلى عالم لا يوجد إلّا في الكتاب الذي تقرأه، و لكنّها لمحت شيئا يتحرّك بين ظلال أشجار الشارع فأمعنت النظر في اهتمام و تأمّل. 

كانت سيدة لم تحدّد ملامحها، سوى شعرها الطويل المنسدل حول كتفيها، و كانت تحمل بين ذراعيها شيئاً لم تستطع تحديد ماهيته، و لكن ما لاحظته هو أن السيّدة كانت تتلفّت كثيراً حولها، و كأنّها خائفة من أحد ما و تتوارى عن أنظاره، و تبعتها رحمة حتى دخلت إلي مبنى لم يكتمل بناؤه بعد، في الجهة المقابلة للمبنى الذي حوى شقتّها، و لم تعد قادرة على رؤيتها، لذلك لم تعر للأمر انتباهاً، و انتبهت إلى الكتاب في يدها.

شعرت رحمة بالإنهاك، و قرّرت النوم بعدما أصبح عقلها غير قادر علي احتواء معلومات الكتاب، فخلدت للنوم و كانت أحلامها مشوّشة، و لكن كساها الضوضاء و العويل و صوت سارينة المطافي و الإسعاف و غيرها، و قد أزعجتها تلك الأصوات في نومها حتّى استيقظت لتدرك أنّها تحدث في الواقع بالشارع الذي تسكنه. 

خرجت إلى النافذة مسرعةً، و وقفت فيها لبضع دقائق دون أن تفهم ما يحدث، و لكنّها سريعاً ما وجدت سيدة في النافذة المجاورة تشاهد ما يحدث ايضاً و علي محياها حزن عميق، فسألتها رحمة “أعذريني، و لكن ما الذي حدث؟”، فأجابتها السيدة “احترق المبني المقابل صباح اليوم، و وجدوا فيه جثّة لفتاة، المسكينة احترقت حتي الموت، فليكن الله في عون أسرتها”.

وقفت في شرفتها تشاهد ما يحدث لعدّة دقائق، و لا يدور في خلدها إلّا سؤال واحد “أيمكن أن تكون تلك الفتاة التي رأتها أمس هي نفسها المتوفاة؟” .

كانت مدركة أنّ النيران و الموت هما آخر ما يجب عليها التفكير فيه، فعليها أن تفكّر في أمور أكثر سعادة حتّى إن كانت محض خيال، فأغلقت النوافذ و بسطت الستائر و تراكمت الكتب علي سريرها و أكواب القهوة المتّسخة في المطبخ حتّى حلّ المساء، و بالرغم من أنّها لم تفعل شيئاً طوال اليوم سوى القراءة و شرب القهوة فهي كانت منهكة و قرّرت النوم مبكراً. 

حاولت رحمة النوم جاهدة، و لكن ذلك الصوت كان يطاردها…صوت ابنها و هو يصرخ في مهده…حاولت أخذ حبوب مهدّئة أو دندنة بعض الألحان لعلّ الصوت يختفي، و لكنّه ظلّ يصاحبها و يعذّبها، و لا يترك لها مجالاً للتنفّس، فقرّرت ترك الفراش و التوجّه للشرفة الرئيسيّة فربّما تستطيع هناك تشتيت ذهنها عن صوت البكاء و الصراخ، و لكن لا فائدة صوت البكاء لا يتوقّف بل يعلو و يكاد يؤذي أذنيها من شدّته، فوضعت يدها على أذنيها في ألم تحاول إخراج الصوت من مسامعها و لكنّ الصوت يعلو أكثر فأكثر و يتركز في اتجاه واحد، و لأوّل مرّة تستطيع تمييز الإتّجاه القادم منه صوت البكاء و الصراخ…… المبنى المقابل. 

انشغل عقلها لعدّة ثواني بأنّها لم ترى أحد من الجيران في الشرفات المجاورة ألم يؤرق نومهم صوت صراخ الطفل كما فعل بها؟ أكانت الوحيدة التي استهدفها صراخه؟ أكان قلبها الوحيد الذي تحمّل العذاب؟ و أي عذاب هذا!

انقبض قلبها و تعرّق جسدها فور تمييز صوت وليدها الميّت صادر من المبنى المقابل، و كان السؤال الذي يدور بخلدها هو “كيف و لِمَ قد يصدر صوته من مبنى محترق؟!”  حاولت الصمود و التقوّي ضدّ الصوت، و لكن قلبها خانها و عقلها في صراع مع صراخ الطفل الذي اصمته و قاد قدماها نحو المبنى المقابل، و هي تبكي بحرقة علي قدرها المحتم بالقهر و قلبها الذي عاد إليه شعوره الأوّل حين فقدت صغيرها، فقد أحسّت و كأنّ أحد ما قد قذف بها إلى چام بركان و وقف ينظر لمعاناتها بابتسامة.

وصلت للمبنى، و بدأت تصعد السُلم و الصوت يعلو و قلبها بين انقباضاته المعتادة و شوقه لذلك الطفل الصغير، و قد إختلّ عقلها مؤقتاً، و اقتنعت أنّه ربّما يكون بالأعلى رغم أنّه ميت. 

وصلت إلى الطابق العلوي، و هي تضمّ شفتاها معاً بقوّة حتّى لا تصرخ من الجزع، فإن كان الجيران لم يهرعوا إلى المبنى بسبب صوت الوليد، فهم سيفعلوا حال سماعهم صراخها المتألّم. 

كانت لحظات كأنّها سنوات حتّى وصلت لمصدر الصوت لترى علي الأرض خلف حائط محترق غير مكتمل طفل صغير ابن شهور قلائل يبكي و يصرخ، و قد أخرجتها رؤيته من جزعها المتزايد فدون أن تشعر قد جثت علي ركبتيها بجانبه و حملته بين ذراعيها و قد انفجرت في البكاء تلقائيّاً حين شعرت بنبضات قلبه الصغير تلائم النغم المتسارع الذي يصدره قلبها، و جعلها الدفء النابع عن ملامسة أصابعه الصغيرة لعنقها تفقد السيطرة على قدميها فجلست كلياً على الأرض المتّسخة بالرماد و التراب.

كان صوت بكائهما متلائماً، و كأنّهما يشعرا بنفس الشعور، و كأنّ كلّ منهما يصرخ معاناته، و يشكو للأخر ألمه الذي تفجّر كبركان يصرخ بالنار، فهي تصرخ فقدانها لابنها و لعذاب شهور طويلة من الحسرة على أمل حياتها الذي أُعدم دون وجه حقّ، أمّا هو فيصرخ الأمان الذي فقده بموت أمه، و الحب الذي تخلّى عنه مع تصاعد نيران المبنى، و قد شعر كلاهما و كأنّ أحداً قد وضع زهورا على جرحه فضمّده و أخرج ألمه.

كان صراخهما يُخرج كمّ العذاب الذي تحمله روحه المنهكة. جلسا في الظلام، لم تشعر بالوقت، و كلّ منهما يستجمع شتات روحه المفقودة في بقاع الفراغ الصارخ، وقد هدأ الصغير، و كأنّ جوعه كان للأمان و ليس للطعام، و لكن قلب الأمّ بداخلها أيقظ عقلها من ثباته العريق و أهداها إلى محتوميّة جوعه، فتركت روحها الممزّقة، و أخذت الصبي بين ذراعيها تحميه من برد ليل الخريف، و توجّهت به إلى منزلها و جسدها ينتفض، و لكنّها لم تعلم أهو ينتفض لاشتياقه للصغير ؟ أم أنّ الهواء البارد الذي راقص خصلات شعرها هو الذي أثّر على جسدها.

في الحقيقة لم تهتم لذلك كثيراً، و إنّما إهتمت بالطفل الصغير الذي وضع إصبعه في فمه يمتصّه جوعاً، و قد أرهقه البكاء فأراح رأسه علي كتفها و أغمض عينيه “إنّه يشعر بالأمان برفقتي كما أشعر به برفقته”، تسارعت نبضات قلبها للحظات، و لكنّها تنهّدت بعمق تحاول تهدئة قلبها حتّى لا يقلق الصغير.

“لا بأس يا…آدم ماما ستحضر الطعام و الدفء قريباً” تحدّثت إليه و هي تسرع الخطى إلى شقّتها الصغيرة، و بعدما أوصدت الباب أغلقت جميع النوافذ و أسدلت الستائر فآخر شيء تريده هو ثرثرة الجيران.

وضعت الصغير على فراشها بعدما نظّفته و أبدلته ملابس أخرى نظيفة بخاصته، و ذهبت إلى مطبخها تعدّ له اللبن الدافئ، و هي تتمتم و قد اغرورقت عينيها بالدموع  “من الجيد أنّني تركت ذلك الحقير كي لا يهنأ بعودتك المحمودة يا عزيزي، فهو قد أخذك من بين أحضاني و قد أعادك الله إلي…هو لم يكن عاقلاً متوازناً بأية حال فأيّ أب هذا الذي…” لم تستطع أن تنطق بالحقيقة التي لطالما هشّمت قلبها و نسفته، و إنّما أغمضت عينيها بقوّة تحاول تصفية ذهنها و تهدئة خاطرها من الذكريات المتسارعة التي تمضي إليه، و لكنّها شهقت و هي تقول بغلٍّ و غضب “كيف لأب أن ينهي حياة ابنه بهذا الشكل و أمام أمّه أيضا…و من أجل ماذا؟ متعته الخاصة!! لقد اختلّ توازن عقله بالتأكيد من القاذورات التي اعتاد تناولها”.

جفّفت دموعها سريعاً، و وضعت اللبن الدافيء في كوب ابنها و حملته إلى الصغير الذي نادته آدم و بدأت ترضعه و تداعبه، و يبدو أنّه أحب أمّه الجديدة فأخذ يقهقه و يلعب معها باستمتاع، حتى فجأة بدأت وجنتاه بالإحمرار، و صار يبكي منزعجاً من شيءٍ لم تفهمه رحمة في بادئ الأمر، فيبدو أن لقياها بهذا الصغير قد أنستها سبع سنوات متتالية من دراسة الطب.

كان يجب أن تتوقّع حدوث هذا له منذ رأته، فهو قد استنشق ما يكفي من الدخان الذي أرهق رئتاه، فانتفضت سريعاً تتّصل بالصيدليّة القريبة من المنزل تطلب منهم بعض العقاقير و الحقن، و عادت إلى صغيرها الذي ضمّته إليها و قد غطّت شعرها، و جلست على الأرض باتجاه القبلة تتوسّل إلى الله أن يبقيه لها، و ألّا يأخذه منها مرة أخرى.

بعد سويعاتٍ، كان الطفل قد تناول دوائه، و قد سهرت إلى جانبه تطمئنّ أنّ حالة الاختناق لن تعود له، ثم وضعت الصغير بجانبها على الفراش، و اهتدت إلى النوم، فاليوم كان شاقاً و الشمس تكاد تشرق مجدداً و هي لم تنم بعد، و من شدّة إرهاقها أصبحت كل كوابيسها تتداخل و كأنّها قد اجتمعت جميعاً أن تعذّبها و لا ترحمها.

كانت في منزلها القديم الذي تشاركته مع زوجها، واقفة بجوار مهد صغيرها تداعبه و تستمتع برفقته، فهو الشيء الوحيد الذي اثلج قلبها بعد حرقته بحقيقة زوجها. سمعت باب المنزل يُفتح و يُغلق فعرفت أنّه عاد، و لكنّها لم ترد أن تحدّثه فهو على الأغلب مخموراً، و هي أخيراً تهنأ براحة البال مع صغيرها فأسرعت تغلق باب الغرفة و هي تنتظره إمّا أن يطلب التحدّث إليها أو يفهم عدم رغبتها في رؤيته، فيغادر المنزل محافظاً على بقايا كرامته التي تبعثرت حين علم الجميع بتعاطيه المخدرات و شربه للكحوليّات، فأصبحوا ينظرون إليه باحتقار و يرفضون وجوده معهم، و لكنّه لم يفعل أي الأمرين بل إنّه قد فتح الباب و دخل كالثور الهائج و قد احتقنت عيناه بالدماء و تعرق وجهه بغزارة و ارتجف جسده كأنّه محموم. اجفلت من مظهره الذي أسرع إليها يسحب يدها بعيداً عن الصغير و يمسكهما بقبضة قويّة و هو يتوسّلها “أرجوكِ حبيبتي أخر مرّة أعدك لن أتعاطى المخدّرات مجدّدا و لكنّي الآن أتألّم.. أرجوكِ خلّصيني و اعطيني نقوداً” كان يتحدّث بشكل هستيري. 

سحبت يدها ببطء من خاصته و هي تقول و كأنّها تحاول أن تشرح شيئا لطفل صغير “دواء آدم سينتهي اليوم عليّ شراء دواء جديد له غداً و إلّا سنفقده و يجب عليك أن تتحسّن من أجله إنّه يفتقد أباه” نظر إليها ببلاهة، و كأنّها كانت تتحدّث لغة لا يفهمها 

“قلت أنّني أريد نقوداً الآن”، صرخ في وجهها. فبدأت ترتجف و هي تحيط كلتا يديها بجسدها، و كأنّها تحمي نفسها، و قد تحدّثت بصوت خفيض “لا نقود لديّ”.

تحوّلت تعبيرات وجهه إلى الغضب العارم، و انهال عليها بالضرب المبرح و هو يطلب منها النقود، و في كلّ مرة تخبره أنّها لا تملك أيّا منها لأجله، و في النهاية، قيّدها بالسرير بعيداً عن ابنهما الصغير، و بحث في أرجاء الغرفة عن النقود حتّى وجدها، ثمّ رحل و هي تستجديه أن يتركها و تصرخ عليه بأنّه سيتسبّب في موت ابنهما، و لكنّه رحل بأي حال.

بدأ أدم بالبكاء فقد صار يتألّم لتأخّر دوائه، و حاولت أن تصل إلى هاتفها لتتّصل بوالديها و لكنّها كانت بعيدة عن الهاتف. بعد سويعاتٍ، صار الصغير يصرخ ألماً، و كانت هي تبكي و تصرخ بقلّة حيلة، تحاول أن تجذب أيٍّ من الجيران، و لكن لم يأتي أحد.. 

كان صراخه عالياً حتّى شعرت أنّها ستفارق الحياة من شدّة الجزع، فصغيرها الوحيد يصرخ ألماً و هي مقيّدة لا تستطيع الوصول إليه، حاولت أن تكسر جزءاً من السرير حتى تتحرّر، و حاولت حتّى أن تسحب يدها من القيد و لم تهتم إلى أنّ يدها ربّما تتهشّم، و لكن لم يفلح شيء. اضطرّت أن تجلس لساعات طويلة تستمع إلى طفلها يصرخ حتّى هدأ صوته أخيراً، و مع تألّمها لصوت صراخه و لكنّه كان أرحم بكثير من السكون الذي عني أمر واحد…لقد مات الصغير.

استيقظت متعرّقة من هذا الكابوس البشع، تتساءل عن سبب تكراره حتّى بعد أن وجدت صغيرها مرّة أخرى، فلشهورٍ طويلة عانت من تكراره يوميّا، و كأنّ عقلها لا يستطيع التصديق أنّ هذا ما حدث حقاً، و أنّها أُرغمت على أن تشهد صغيرها يموت.

كان حلقها جافاً، فتوجّهت إلى المطبخ بجسد مرتجف تحضر لنفسها كوباً من الماء، و قرّرت أن تصنع بعض القهوة لتبعد عنها النوم، و أثناء ذلك لاحظت صوتاً عذباً لامرأة يصدر من غرفتها حيث الطفل نائم.

تسمّرت مكانها، لا تدري كيف يَصدر صوتا من غرفتها، فقد تأكدت قبل النوم أنّ باب المنزل موصدا، و لا يوجد غيرها و الطفل في المنزل، إذا من يغني للصغير؟!

أسرعت الخطى إلي غرفتها، و بمجرد لمسها مقبض الباب، توقّف صوت الغناء، و حين دخلت لم تجد أحداً بالداخل سوى الطفل مستيقظاً، فضمّته إلى قلبها حتى استكان بين ذراعيها، فعلمت أنّه عاد للنوم. 

وضعته في فراشها، و أخذت تنظر بتمعّن في ملامحه، و لأوّل مرة منذ رأته تلحظ أنّه لا يشبهها في مظهره أبداً و لا يشبه آدم في شيء ايضاً.

تشنّجت ملامحها سريعاً كرهاً للفكرة الوحيدة المنطقيّة التي خطرت لها، فهي ليست مستعدة بعد للتخلّي عن حلمها الجميل الذي تعيشه. 

فعقلها قد فقد صوابه، و أوهمها أنّ هذا الطفل الصغير هو ابنها عائداً من الموت، و إلّا كان الألم سيدمّرها ولا يبقي منها عظماً، فلم تكن لتتحمّل فكرة أنّه طفل صغير قد قُذِف في طريقها و هو ليس ابنها و كأنّها ليس لها الحقّ في ممارسة أمومتها في حبه، و كأنّها رأت الجنة بأمّ عينيها و مُنعت من دخولها. 

مرّت بضعة أيام، و قد اعتاد الطفل النوم بغرفة الأطفال التي رتّبت بها حاجيات ابنها، و كأنّها تجهّزها لاستقباله من جديد، و في كلّ يوم، تستيقظ من الكابوس البشع الذي لا ينفكّ يقبض مخالبه علي قلبها فيعتصره، فإذا بالغناء العذب يخترق مسامعها، و حين تدخل غرفة الطفل لا تجد شيئا سوى الطفل باسما بلمعة حياة تغزو عينيه، و أحيانا بينما تضع له حاجياته في حقيبة لاصطحابه لدار الحضانة – التي تبقيه بها حتّى تعود من عملها- تراه ينظر للفراغ و يضحك، و أحيانا يمدّ يديه الصغيرتان إلى الفراغ و كأنّه يحاول التقاط شيئاً ما، و لكن لم يعد مايحدث يزعجها فلابدّ أنّه طفل ذكي واسع الخيال يشغل وقته بلعبه مع الفراغ، و لابدّ أنّ لعبة في غرفته تصدر صوت الغناء.

كانت ذات صباح، تعدّ له حاجياته في حقيبة بينما كان في مهده يلعب بدمية صغيرة، و للحظات، تركت غرفته و ذهبت إلي خاصّتها تحضر منها شيئاً لأجله حتّى عاد صوت الغناء العذب و كان واضحاً عالياً يتخلّله صوت الصغير يضحك. 

فتسلّلت بهدوء إلى غرفته على أطراف أصابعها، و نظرت إلى الداخل بحذر، فرأت إمرأة تقف جوار مهده تهدهده و تغنّي له، و لاحظت الشبه العظيم بينهما فترسّخ في عقلها فكرة متوارية بين ظلال الحقيقة  “إنّها هنا لتأخذ ابنها او ابنك، لا يهم ضمير الملكيّة و لكن ما يهمّ أنه من نصيبك انتِ” .

لم تتحمّل فكرة أنّها هنا لتأخذ الصغير، و هي تواري في قلبها أنّ الشبه العظيم بين المرأة و الطفل ليست بمصادفة، فاندفعت إلي تلك الغرفة سريعا، و حملت الصبي بين ذراعيها و قد صُدمت السيدة الأخرى و وقفت لا تدري ماذا تفعل.

“لن تأخذيه، لن أدعك تأخذيه إنّه صغيري” تحدّثت رحمة بغضب و حنق و هي تعتصر الصغير بين ذراعيها خوفا، و أمّا السيدة وقفت في توتّر و خوف تترقّب ما سيحدث لها و لصغيرها من مصائب أخرى و هي على وشك البكاء، حتّى انفجرت رحمة باكية  “أرجوك لقد عوّضني ربّي به فلا تأخذيه منّي.. افعلي بي ما شئتي و لكن اتركيه لي أتوسّلك”  انزلق ظهرها علي الحائط حتّى جلست ضامّة قدميها و الطفل بين أحضانها تستنشق عبيره البريء تحسّباً لأي مصير ستتعرّض له.

“أنا… أنا لا أريد أخذه، اطمئني…”  تحدّثت السيدة ببكاء للقرار العسير الذي تحمّله قلبها، و اقتربت من رحمة حتّى جلست قبالتها، و قالت بابتسامة ضعيفة  “لا تحزني من أجل ابنك، فإنّه في جنان الرحمن يمرح و يلعب فهو بين يدي الله، أمّا أنا فمتّ و تركته بين براثن حياة لا ترحم، فهل تطمئني قلبي الذي لا يشفى من جرحه؟”.

نظرت إليها رحمة بشكّ، و سألتها بصوت ضعيف “ما الذي تريدينه؟ ”  فأجابتها السيدة بهدوء  “أن أبقى بين ظلال حياته لعلّ قلبي تهدأ ثوراته و يقطب جرحه”  ثم أسرعت تستكمل بهرولة  “أعدك سيكون لك القرار في كلّ شيء، و لكن لا تحرمي أمّ من البقاء مع وليدها و لو لفترة”.

أثَّر الحديث في قلب رحمة، فهي قد قاست ألم الفراق عن الابن من قبل، و لن تتحمّل أن تكلّف نفساً أخرى بما لا تطيق الروح فتُسجن في بحر الحزن و الألم. وقفت ببطء و قد أعادت الطفل إلى مهده، و اقتربت إلى السيّدة الشبح و ربّتت على الهواء الذي اتخذ هيئة كتفها و أخبرتها أنّها وافقت.

امتلأت عينيّ السيدة بدموع السعادة، فقد شعرت أنّها لن تجتمع بإبنها مجدداً، و تلك المرّات القليلة التي تسلّلت إليه لم تكن لتضع في قلبها الميّت أيّ بوادر حياة.

“الحمد لله الذي هداني إلى طريقك و جعل امتزاج بكاء طفلي و صغيرك وسيلة لجذبك إليه، 
الحمد لله الذي أعطاني قوة لأجذب انتباهك إلينا، 
 الحمد لله الذي طمأنني على وليدي بعد معاناة و خوف خضناها معاً”. 

قد استعادت رحمة أخيرا شتات عقلها و أيقنت أنّ الصغير ليس ابنها، و لكنّها لم تُحرم منه، و ربّما مواساة السيّدة لجروحها كان لها عاملاً في إرساء سفينة حزنها إلى الشاطئ .


تاريخ النشر : 2019-02-11

guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى