أدب الرعب والعام

رحمة

بقلم : هديات هناء – الجزائر

دموعي أحرقتني و أحرقت قلبي

بداية قصتي كنهايتها ، لم يتغير شيء ، ولا شيء سوف يتغير ، مللت حقاً ، نفد صبري ، بكيت الدم بدل الدموع ، لم أستطع التحمل أكثر ، ليس ذنبي والله .
ذهب أبي و تركني وحيدة في عمر الزهور ، لم أجده في حياتي ، انتقل لحياة أخرى وعالم آخر و تركني بمفردي ، دموعي أحرقتني و أحرقت قلبي ، العيش مع أم متسلطة ليس سهلاً أبداً ، احترمها لأنها تدعى أمي ، لا يهمها شيء سوى راحتها ، لا أذكر أنها عانقتني أو أنها قالت كلمة طيبة تشفي جروح قلبي المنفطر ، همها الأكبر كان أخبار الجيران و التجمعات بالساعات .

ذات يوم سوف تنسى اسمي ..

أنا رحمة ابنة السابعة عشر ربيعاً ، وجهي من شدة البكاء ظهرت عليه تجاعيد تحكي سنيناً من الألم ، ولونه الأصفر أشبه بعلبة كرتون متهالكة مر عليها زمن و أصبحت تقبع في النفايات كحالتي ..
أنا رحمة جسدي الهزيل المليء بالكدمات يحكي ألمه و يصرخ “النجدة يا ناس”
شعري الذي كان يضرب المثل به أصبح كشعر دمية خرقاء أشعث أشبه بنبات الشيح
أنا رحمة يا ناس أنجدوني من عذابي ، ولكن هل من مجيب ؟

مرت سنين حياتي كالجحيم ، حرمت من أبسط حقوقي ، مدرستي و صديقاتي ، أنظف وأطبخ و أغسل وأضطر لسماع سيل الشتائم اليومي من أمي وكأنه ذنبي عندما مات أبي ، هل سمعتم يوماً بالأجل ؟

أجلس في عتمة الليل أحارب أحزاني بقطرات الدموع الساخنة ، إنه روتيني اعتدت عليه .
في ظلمات الليل الحالك جلست أستمع إلى شخير أمي العالي ، ضممت نفسي بنفسي وحاولت خلق حرارة تدفئني من برد هذه الليلة ، بدأت أدعو للخالق أن يساعدني و يفرج همي و يأخذ روحي لم أعد أتحمل .
قامت تلك المدعوة أمي و وجدتني في ظلام المطبخ أتمتم وحدي ، وبختني كالعادة ، أما ضربة الشبشب للرأس فقد اعتدت عليها .

شربت كأساً من الماء وعادت الى مكانها ، واجهت دموعي ونهضت ، أنا أقوى الآن .. أنتِ قوية يا رحمة .
أسرعت إلى الغرفة المجاورة ارتديت معطفي الذي أصبح يتفتت من شدة قِدَمه و فتحت باب منزلنا الحديدي الصدئ ، أصدر صوتاً أشبه بصراخ عجوز .

بدأت أجري و أجري في حينا الشعبي الذي أكرهه و أضواء الفجر فوقي تعلن بدايةً جديدة بالنسبة لي إنها نهاية جديدة
.. وصلت إلى أبعد نقطة من قريتنا و صرخت من أعلى التل صرخت و شتمت الحياة الماكرة بكل قوتي ، نظرت إلى القرية من بعيد لأجد الحياة قد دبت فيها .
أرجوك يا حياة دبّي في نفسي مرة أخرى ، أشعر بأنني عاجزة تماماً ، أدركت الآن أنني جبانة أيضاً و يجب أن أعود لعدم إغضاب أمي ..

عدت وأنا أبحث في جيوبي ، وجدت قطع دراهم ، مبلغ قليل ولكنه ينفع ، اشتريت قطعة كعك لأمي وانطلقت بأقصى سرعة ، وجدتها تنتظرني ، اقتربت وقدمت لها الكعك بيد مرتجفة وأردفت :
– تفضلي تفضلي يا أمي مايزال ساخناً
– أين الشاي يا بقرة أريد الشاي حالاً
– حسناً حسناً يا أمي لا تصرخي أرجوكِ الشاي في طريقه لك

ذهبت للمطبخ ووضعت إبريق الشاي و بدأت أكوي نفسي تعبيراً عن غضبي ، هذا ما أفعله عادةً .
حضرت الفطور لأمي وجلست مقابلة لها انتظر و بكل شوق أن تقتسم معي قطعة الكعك اللذيذة تلك لكن لا جدوى ، جلست تلتهم الشاي و الكعك دون توقف ، وضعت كأس الشاي الساخن بعنف على الطاولة وقالت بغضب : هل سوف يمر اليوم وأنت تنظرين إلي ببلاهة يا حمقاء ، هيا قومي و نظفي البيت .

شمرت عن ساعدي وبدأت في ترتيب خم الدجاج أقصد منزلنا المتواضع .
سمعت صوت إنغلاق الباب بعدها ، إنها امي قد خرجت في مهمتها كالعادة ، مهمة صيد الأخبار من الحي ، قفزت و شربت كأساً من الشاي و تناولت فتات الكعك بكل سرور.  نهضت في نشاط لأرى ما سوف أطبخه على الغداء لكنني وجدت المطبخ فارغ ، الرفوف والثلاجة كلها فارغة تماماً ، جلست وسط فناء المنزل الصغير و بقيت أنتظر أمي وأحاول حفظ بعض الجمل لأبرر بها عدم تحضير الغذاء .

فتح الباب ودخلت أمي تعلو وجهها ابتسامة ..
– آسفة أمي أرجوك آسفة اقتليني إذا شئتي أرجوك قطعني أنا أرجوك لا تغضبي
اقتربت مني وكدت أن أموت من الرعب الذي تملكني
– هيه يا غبية كفي عن الثرثرة جارتنا ثرية أقامت حفلاً جمعت فيه كل نساء الحي و هنالك طعام كثير ، هيا لنذهب ارتدي شيئاً مناسباً بسرعة

و ذهبت تقفز بفرحة و مرح تركتني حائرة وسط دموعي التي لم أفهم سببها ، ذهبت أبحث وسط ملابسي الرثة المعدودة على الأصابع ارتديت فستاناً أسود لونه حائل بعض الشيء لكنه يفي بالغرض .. مشطت شعري الأشعث و ثقبت إصبعي بإبرة ، استعملت الدماء كأحمر شفاه ، لا تضحكوا
– أمي أنا جاهزة
– هيا هيا يا فتاة لنذهب
– تمتمت بغضب اسمي رحمة
مشينا وسط الأزقة في شمس الظهيرة الحارقة كل الطريق و أنا أمشي خلف أمي كالمتخلفة عقلياً وأنا أفكر ماذا سأفعل إن ضحكوا علي و على شكلي ، أخاف حتى من ظلي ، لا أحب التواجد مع الناس إنهم مرعبون .

دخلنا إلى منزل السيدة ، كان صوت الموسيقى و الطرب و نساء الحي كلهن مجتمعات في الصالة الكبيرة
– اقتربي يا فتاة .
زمجرت أمي في وجهي :
–  اذهبي و قفي مع الفتيات هناك و لا تتصرفي كالمجانين توقفي عن تدوير أصابع الإبهام .
– حسناً أمي

حاولت القيام ببعض الصداقات لكن لا جدوى ، أنا أقترب و هم يبتعدون .
بقيت في ركن من أركان الصالة أنظر إلى أمي وصديقاتها و وجوههن المرعبة المليئة بالمكياج الرخيص ، أمي مع ألوان قوس قزح فوق عينيها و حمرة الشفاه المتطايرة أما الأخرى فتسريحتها شعرها أغرب ما في الوجود ، و تلك رداؤها الأزرق اللماع كأنها أحضرته من أحد أفلام الثمانينات ، قهقهت بصمت ثم اتجهت إلى البوفيه،  أكلن وأكلت ، وكلما أجد نفسي وحيدة أخبئ ما استطعت في جيوب حقيبتي ، جمعت كل أنواع الحلويات و المملحات و كنت سعيدة جداً .

جلست بمفردي ألعب بأصابع يدي في ركن من الأركان ، و بدأت أغفو شيئاً فشيئاً لتمضي ساعات و أنا أراقب الحاضرين ، حتى أعلنت نهاية ذلك الحفل الهمجي و نعود في المساء أنا و أمي ، كنا أتينا هي تمشي و أنا خلفها
جلست أمي تأكل قطع البطيخ بشراهة و أنا قمت لأحضر العشاء .

نادت أمي باسمي :
– يا فتاة أسرعي أسرعي أريدك في موضوع هام
حملت الصيني وذهبت لتلبية نداء أمي
– يا فتاة هنالك أحد ما تقدم لخطبتك وأنا قبلت
أوقعت الصينية بما فيها و وقفت بذهول أحاول استيعاب الأمر
– و و و لكن أمي لا أزال صغيرة !
أسرعت أمي و هجمت علي ، انهالت بالضرب بكل قوتها ، أردت أن أصرخ ، لم أستطع ، أمي خنقتني
– إنه غني يا غبية يا تافهة إنه غني ، و بالنسبة لعمرك أنا كذلك تزوجت صغيرة ، ليست نهاية العالم ، هيا هيا العرس بعد أسبوع ، غداً سوف يأتون لزيارتنا فالعريس يريدك بأسرع وقت .

صعقت ، لا بل أحسست بالموت ، أختنق من فعل أمي الشنيع ، أمضيت الليل بطوله أبكي و أدعو الله أن يقف إلى جانبي و يحميني من شر هؤلاء الناس .. أبكي فأنا لعنة على الأرض ، لا يوجد شخص يحبني ولكن الشفقة تكفي ، أنجدوني ، أبي ساعدني أرجوك .

مرت ساعات الليل الطويل في رمشة عين ، و مر كل الوقت وأنا لم أتحرك من مكاني ، نهضت أمي صباحاً و بدأت تحضّر ما لذ و طاب من الحلوى للضيوف ، حضروا و أنا جسد بلا روح ، امراتان في منتصف العمر وشابة في مثل سني و كهل في عمر الخمسين .
جلسوا و بدأت أمي تمدحني ثم قالت لي قدمي القهوة لخطيبك و عائلته .. آه حسناً هذا هو عريس الغفلة و المرأتان أختاه و الشابة ابنته ، فهمت لا بأس إنها نهاية اللعبة .

بدأوا في الحديث عن حفل الزفاف و متطلباته و أنا أصارع دموعي و ألعن نفسي وحظي ، لم أستطع ، فتشت جيوبي بسرعة و وجدت قطعة كعك تحبها أمي كنت قد سرقتها
، جثمت على ركبتي و بدأت أبكي و أنوح و أطلب منها أن توقف هذا الزواج ، أنا لا أريد
– خذي خذي يا أمي قطعة الكعك هاته إنك تحبينها ، خذي يا أمي ، أفضل أن أكون عبدة عندك أرجوك يا أمي ارحميني

وقفت أمي و وجهها لا يبشر بالخير و صفعتني بقوة ، سقطت على إثرها في الأرض حتى سالت قطرات دم من أنفي ، ذهل الضيوف وودعوا أمي ، و قضي الأمر.. العرس بعد ستة أيام .

مرت الستة أيام ولياليها ثقيلة على قلبي كالجحيم ، كل تلك الأيام بقيت في غرفتي كالدمية و كل يوم كان ذلك الشائب يأتي لزيارتي يجلب ما لذ و طاب من الحلوى و أفخم الهدايا وفي المقابل يحاول لمسي و التحرش بي .
قرفت نفسي و لم أعد أستطيع النظر إليه ، لم أحتمل حتى أن أنظر إلى وجهه ذلك النسونجي المقرف النذل تحرش بي ولم يكفه ذلك بل كان ينظر إلى كل النساء الموجودات

أحس أنه وحش بشري مستعد لالتهام جسدي النحيل الضعيف .. بريق مخيف في عينيه يروي مدى تعطشه و رغبته في إطلاق ما كبح من الرغبات الجنسية المتوحشة مثله .
مازاد تعاستي فرحة أمي و الزغاريد التي كانت تطلقها معبرة عن سرورها الشديد .تأكل كل أصناف الطعام والحلوى بشهية مفتوحة ، وأقامت حفلات جمعت فيها كل نساء الحي الجاهلات مثلها .

اكتفيت فقط بالجلوس في الزاوية المظلمة أبكي و أنوح على حظي العاثر ، هل كنت عقبة في حياتها ؟ هل تكرهني لهذا الحد ؟ هل تركها ضميرها تبيعني بثمن بخس لرجل أكبر مني و منها فقط لأنه غني ؟؟ أدركت أن الوضع جحيم و ألا مغزى لي من الجلوس هنا بدون فائدة و الصبر على تحرشات ذلك الهمجي .

جاء اليوم الموعود ، اليوم السادس ، تظاهرت باللطف و حملت ما بقي من سجدي المنهك طلبت من أمي أن تتركني لأجهز نفسي ، وارتديت بكل ألم ذلك الفستان الأبيض الفاخر الذي جلبه ذلك العجوز ، على الأقل سوف أموت بشيء فخم ، سوف أعتبر بياضه كفني .
تأملت وجهي الحزين في المرآة المكسورة كقلبي الصغير و عظام رقبتي البارزة من شدة حجمي الضعيف ، لا حول ولا قوة لي .

**

خلطت رحمة جميع أنواع الدواء المتوفر مع سم الفئران و الحشرات في كوب ماء و شربته بعد أن ربطت حبل مشنقتها في السقف المتهالك كحالتها ، دخلت أم رحمة بعد سمعاعها لنحيبها و قفزت لتنقذها من الحبل و هي تشتمها و تلعن اليوم الذي ولدت فيه ، وضعتها على السرير وبدأت رحمة تتخبط من شدة الألم حتى أدركت أمها أنها تموت حقاً ، أصبح وجهها شاحباً و قطرات العرق على جبينها ارتفعت حرارتها ، ولم تعرف أمها ما تفعله الآن ، الوضع محرج .

أدركت في هذه اللحظة ، اللحظة التي صرخت فيها رحمة صرخة مدوية تعبيراً عن آلامها ، أدركت هنا حقا أنا أنهت حياة ابنتها ، حياة شابة في عمر الزهور و رمت بها إلى الجحيم الأبدي .. بدأت تبكي و تترجاها أن تصمد .
أما رحمة اكتفت بالنظر إلى أمها ، انعقد لسانها و دموعها الغزيرة لم تتوقف .. قبلت الأم جبين ابنتها لأول مرة ، أصبحت تصرخ من شدة الألم الذي يقطع أمعاءها ، خرجت روحها و تحررت من جسدها الضعيف الملعون و بدأت والدتها تصرخ بأعلى صوت ، أدركت حقاً أنها خسرت نعمة يتمناها الكثيرون .

أغمضت رحمة عيناها المحمرتين مع ابتسامة لترحل إلى الأبدية إلى عالم تكون فيه تحت رحمة خالقها ، ليسمع بعد ذلك صوت الطبول و الزغاريد في الخارج ، إنه موكب العروس قد جاء .

تاريخ النشر : 2018-06-11

هديات هناء

الجزائر
guest
25 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى