أدب الرعب والعام

رسائل نصيّة

بقلم : أحدهم – كوكب الأرض
للتواصل : [email protected]

خمس رسائل نصية متتابعة !! يبدو أن هناك خطب ما

تنفستُ الصعداء وأرجعت ظهري للخلف، أخيراً انتهيتُ من كتابة آخر حرف من التقرير السنوي الذي تأخر عن موعد تسليمه لأكثر من شهر، نحن في شهر أبريل (نيسان) والمفترض ان يكون آخر موعد لتسليم التقرير السنوي نهاية شهر فبراير (شباط) كما هي العادة في كل سنة، وكنت على أحرّ من الجمر كي ارسله للإدارة فقد أخذ من الجهد والوقت الكثير خصوصاً بأن الكل في القسم بين إجازة سنوية وطارئة ومرضية وأمومة.. لكني طمحت بنظرة أخيرة تفادياً لأي هفوات ممكن ان تجلب النقد أو التساؤل، فالإدارة تسعى دوماً أن تظهر بعضاً من كرم ملاحظاتها وتوجيهاتها وهذا أمر تعودنا عليه، لذا ارتأيت أن ارسل الملف غداً خصوصاً بأن الوقت الرسمي انتهى والكل غادر منذ ساعة، وزوجتي الحبيبة وطفلتي الصغيرة حتماً تنتظرا عودتي.

 

***

عند موقف السيارة:

 

أدرت محرك السيارة وانتظرت لبرهة حتى تستيقظ أمعاء السيارة استعداداً للذهاب للبيت.. على المقعد الجانبي كان ملف التقرير قابعاً في انتظار المراجعة الأخيرة في المساء، وكان هاتفي النقال بالقرب منه ينتظر مني أن أرى جديد رسائله خصوصاً أنه ظل طوال اليوم على الوضعية الصامتة وكان ينتظر لمسات أطراف أصابعي التي تعود عليها كل برهة، طاقته المتبقية كانت تعلن عن غيبوبة متوقعة في أية لحظة.. لكن شعور غريب انتابني فجأة وألح علي أن القي نظرة على جديد الرسائل فيه، وقد كنت محقاً، كانت هناك خمس رسائل نصية متتابعة من أخي سالم.. يبدو أن هناك خطب ما، وارتأيت ان اقرأها قبل ان يسقط الجهاز في غيبوبة مفاجئة لأن طاقته شارفت على الانتهاء.

 

***

الرسائل النصية:

 

الرسالة: ٥

المرسل: أخي سالم

وقت الاستلام: ٢:٠٥ ظهراً

نص الرسالة: هل أنت بخير؟ أين أنت؟

 

الرسالة: ٤

المرسل: أخي سالم

وقت الاستلام: ١:٢٥ ظهراً

نص الرسالة: أخي.. كل شيء على ما يرام.. لا تقلق.. فقط اتصل بي الآن.

 

الرسالة: ٣

المرسل: أخي سالم

وقت الاستلام: ١٢:٠٨ ظهراً

نص الرسالة: إنا لله وإنا إليه راجعون.. هل أنت مشغول؟.. اتصل بي فوراً..

 

الرسالة: ٢

المرسل: أخي سالم

وقت الاستلام: ١١:٣٤ صباحاً

نص الرسالة: اسمع.. لا تتهور!!! اتصل بي مباشرة بعد قراءة هذه الرسالة.. زوجتك والطفلة في الطواريء.. وقع حادث مروري أثناء العودة من الحضانة.. أكرر: لا تتهور.. اتصل بي مباشرة.. ضروري.

 

الرسالة: ١

المرسل: أخي سالم

وقت الاستلام: ١١:٠٢ صباحاً

نص الرسالة: ارجو الاتصال بأسرع وقت ممكن.. مصيبة وقعت

 

***

دواسة البنزين

 

لا اعلم كمية جرعة الأدرينالين التي سرت في جسدي، كان قلبي يخفق بشدة وانفاسي تلاحق بعضها.. وعلى عجل اتصلت بأخي لكي اطمئن، وكنت ارجو أن لا يموت الهاتف في يدي بسبب طاقته الضعيفة.. وسمعت أخيراً ذلك الطنين الثقيل على الطرف الآخر..

 

سالم: (طنين الاتصال المتقطع)

أنا: هيا أجب.. بسرعة

 

سالم: (طنين مستمر)

أنا: يا صبر أيوب !!

 

سالم: مرحبا أخ… (وفجأة ينطفئ الجهاز في لحظة مأساوية)

أنا: مرحبا سالم.. ألوو.. ألوووو.. وهل هذا وقته؟!؟

 

وبلا شعور كانت قدمي تدعس على دواسة البنزين، وكانت هواجسي تدعس على قلبي الواجف.. فأنا لا أدري ما الذي حصل بالضبط؟ وكيف؟ وهل الوضع خطير؟ وطفلتي كذلك؟.. لطفك يا إلهي !!

 

كانت حركة المرور سلسة نسبياً، وكنت أنا اتقافز بين المسارات بسرعة واتجاوز المركبات بتهور، هذه القيادة ليست من طبعي، لكنني كنت شخص آخر.. وفجأة وجدت المسار السريع أمامي خالي من السيارات.. انتهزت الفرصة ودعست على دواسة البنزين بلا رحمة.. غدت السيارة كوحش يلتهم الوقت ليصل إلى المشفى.. لكن فجأة تنعطف سيارة صغيرة ساذجة من المسار الآخر لتدخل بلا انتباه ضمن مساري، وكان الوقت قد فات لكي اسيطر على السيارة، ولم يكن بيدي سوى ان انحرف بالسيارة بعيداً عن مؤخرة السيارة المتطفلة.

 

***

حطام:

 

وجدت نفسي بالعرض البطيء اتجه نحو الحواجز الإسمنتية.. ثم كانت بعدها تلك الشقلبات المجنونة والصور المتداخلة وصراخ الإطارات.. رأيت أوراق التقرير السنوي تتطاير حولي داخل كابينة السيارة، والهاتف الميت كان يسبح معي في جو الحدث.. بعدها عم الصمت والظلام.. عندما استيقظت كنت كما لو أنني احلم وعالمي كان هادئا بلا صوت لكن الرؤية كانت واضحة جداً والمظاهر برّاقة.. لم أكن اشعر بجسدي بل كنت كما لو أنني أسبح خارج جسدي.

 

كانت السيارة محطمة على جانب الطريق في وضع مأساوي كالذي كنت أراه في حوادث المرور القاتلة، وكان هناك حشد كبير من الفضوليين في انتظار سيارات الدفاع المدني.. رأيت ذلك الجسد خلف مقود السيارة مهشم، وبقايا كابينة السيارة من الداخل كانت مصطبغة باللون الأحمر القاني.. إحدى الأطراف كانت ملقاة خارج السيارة.. كنت ميتاً تماماً.. وذلك الهاتف كان محطماً هو الآخر لكنه بالمصادفة كان في نفس الموضع الذي وضعته فيه على المقعد الجانبي قبل حدوث هذا كله.

 

***

عن غير قصد:

 

وجدت نفسي فوق الحشود أسبح بلا جسد.. رأيت ما تبقى من أوراق التقرير السنوي مبعثرة عند أقدام الجموع، بعضها كان ملطخ بالدماء .. بعدها وجدت طيفي يهيم في اماكن اعرفها: بيتنا القديم، الأسواق، مقر عملي، مغسلة السيارات، مجالس المعارف، ملعب ترابي كنا نلعب فيه أيام الطفولة، ثم أخيراً وجدت نفسي في البيت.

 

كان الجميع هناك، والكل بين نحيب وعويل.. زوجتي الحزينة كانت معهم هناك، لكن وجودها أسعدني كثيراً.. طفلتي اليتيمة كانت في غرفتها نائمة في سكون.. أبي وأخي سالم كانا في مجلس الرجال وعلامات الأسى كانت ظاهرة على وجه أخي أمام عتاب والدي المكلوم.. عتاب لم افهم فحواه في البداية لكنه كان يحمل تأسف لمزحة سمجة لم نتعود عليها.

 

لم تكن الرسائل سوى مقلب في شهر أبريل (نيسان).. كذبة كانت كفيلة بأن تحطم قلوب الأحبة، ليتني كنت استطيع أن أهوّن عليهم المصاب.

تاريخ النشر : 2016-08-29

guest
49 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى