أدب الرعب والعام

رصاصة الإرادة و زجاج المرض

بقلم : حمزة عتيق – فلسطين
للتواصل : [email protected]

تساقط شعري الذي دفعني لقصه كاملا ، الشيء الوحيد الذي كان يجعلني كالأميرة ذهب و ذهبت معه آمالي بالنجاة

الأورام الخبيثة ( السرطان ) اسم المرض كفيل بأن يعرف عن نفسه لا حاجة للتعريف عنه ، ” ريم ” هي إحدى ضحايا هذا المرض العضال و ستقص علينا تجربتها مع هذا المرض ..

أنا ريم كنت أبلغ الرابعة والعشرين من عمري عند إصابتي بسرطان الدم ، كان وقع الخبر قاسياً علي و بالأخص على أمي و أبي لأنني ابنتهما الوحيدة فبمجرد التفكير أن هنالك احتمال أن يفقداني كانا يشرعان في البكاء و كأن المنية ستوافيني فعلاً ، لا أحتمل رؤيتهما بهذا المنظر يا له من شعور مرير أن تكون أنت السبب في تعاسة أغلا البشر على قلبك ، ذهبت إلى مشفى الأورام السرطانية و كانت هذه زيارتي الأولى له ، لم أزر مشفى قط و أنا التي أكون المريضة ، كيف سيتعامل الطبيب مع حالتي ؟ هل العلاج مؤلم ؟ هل ستكون منيتي هنا ؟

جميع هذه الأسئلة كنت قد وجهتها إلى نفسي أثناء ذهابي لمقابلة الطبيب لا أنكر أنني كنت خائفة و لكن وجود والديّ بجانبي كفيل بتهدئة روعي ، دخلنا إلى الطبيب المختص و جلسنا عنده بعد أن سلمه أبي أوراق فحوصاتي الطبية و بدأ بدوره بمطالعة الفحوصات ، يا له من طبيب وسيم يبدو أنه لا يزال في ربيع شبابه أتمنى فعلاً أن يكون تعامله مثل مظهره ، نظر إلي الطبيب و ابتسم ثم قال : ريم أليس كذلك ؟ كيف حالك ؟ ، أجبته نعم أنا ريم و أنا سأكون بخير لو استثنيت ما قرأته لتوك ، ابتسم وقال : لا أكذب عليك و يبدو أنكِ واعيةٌ بما يكفي لتفهم الأمر ، مرضك ليس بالمرض الهين أبداً و العلاج الكيميائي وحده ليس مضموناً يجب أن تمتلكِ الإرادة الصلبة لمواجهة هذا المرض فهل تمتلكينها يا ترى ؟ أجبته بنعم .

لكن في قرارة نفسي أشك بذلك حقاً ، فما كان من الطبيب إلا أن طلب الممرضة لتأخذني لغرفتي وقال أنه سيتابع إجراءات الدخول هو ووالدي .

اقتادتني الممرضة إلى غرفتي برفقة والدتي و عند دخولي للغرفة وقع بصري على فتاة تشاطرني نفس الغرفة يا الله ما أجملها و أروع عيونها البريئة و لكن يبدو أن عوارض المرض ظاهرة عليها فهي صلعاء لا يوجد عليها ولا حتى شعرةً واحدة و كان يبدو عليها الإرهاق ، ظننت للوهلة الأولى أن هذا بسبب المرض ولكن ظني لم يكن في محله و ستكتشفون ذلك في الأسطر القادمة ، نظرت إلي الفتاة بحزن وقالت : كم تمنيت أن لا يأتوا بأحد إلى هذه الغرفة ولكن تحقق ما كنت أخشاه للأسف مرحبا بك .

ظننت أنها تريد الانفراد في الغرفة فأشحت بنظري عنها ولم أجبها ثم جهزت الممرضة سريري و استلقيت عليه أفكر في المصيبة التي حلت علي و كيف ستكون تجربة علاجي خصوصاً أنها في اليوم التالي ، قضيت يومي بين جدران الغرفة وضجيج أفكاري لم يرحمني ثانية واحدة ، أبي ذهب للمنزل و أمي بقيت بجانبي ، وبعد عناء وقلق شديدين خلدت إلى النوم .

في صباح اليوم التالي أشرقت شمس الصباح معلنة بطلتها البهية بداية يومي الثاني في المشفى و يومي الأول في العلاج ، قمت بالتحضير للعلاج نفسياً وبدنياً ثم أتت الممرضة لتصطحبني إلى غرفة العلاج الكيميائي ، جلست على كرسي مزود بوعاء مليء بسائل شفاف و يمتد منه أنبوب رفيع بنهايته إبرة ، كم أكره الإبر و لكن لا مفر من ذلك للأسف ، وضعت الممرضة الإبرة داخل وريدي في ذراعي و بدأ السائل بالمرور عبر الأنبوب ليدخل في وريدي ، ظننت أنه فور انتهاء السائل في الوعاء سينتهي علاجي ولكن يبدو أني كنت مخطئة ، توالت الأوعية بعده حتى بدأت أشعر أن يدي ستحترق ، ستة ساعات مرت و أنا لا أزال عالقة على هذا الكرسي ، حتى أتى دور الوعاء الأخير و كان أصعبها ، فور دخول السائل إلى ذراعي حتى بدأت أصرخ من الألم لم أعد أحتمل فما كان من الممرضة إلا أن خففت سرعة دخول السائل إلى وريدي ، خف الألم قليلا ولكنه لم يزل بعد و أنا مضطرة لتحمله رغماً عني .

لقد انتهى الوعاء الأخير ، هممت للعودة إلى غرفتي و لكن فور قيامي عن الكرسي شعرت بغثيان شديد هذا غير الألم الذي حل بذراعي نتيجة العلاج ، وصلت إلى غرفتي بشق الأنفس بعد مساعدة والديّ ثم استلقيت على السرير و أنا أشعر بألم فظيع لا يمكن وصفه ، بدأت أتلوى من الألم لم أعد أحتمل حتى نادى والدي على الممرضة فأعطتني إبرة مهدئ ، فخف الألم على إثرها ، حاولت النوم بعدها ثم نمت ولم أستيقظ إلى في صباح اليوم التالي .

في صباح اليوم التالي بدأت الأعراض الجانبية للعلاج بالظهور ، غثيان و كدمات تملأ جسدي لا أعرف سببها و آلام في جميع أنحاء جسمي ، يا إلهي لا أستطيع الاحتمال ، أردت الصراخ من الألم ولكني نظرت إلى أمي وهي نائمة على المقعد بجانبي بعد أن نالها التعب بسببي فكتمت صراخي و بدأت أبكي تحت غطائي ، استيقظت أمي على أنيني المنخفض فذهبت مسرعة إلى الممرضة طالبةً يد العون ، أعطتني الممرضة حقنة مهدئ أخرى و كأنه ينقصني المزيد من الحقن فما رأيته من الحقن كان كافياً ، هدأ الألم قليلاً بعد حقنة المهدئ ولكن الغثيان لم يزل و بدأت أتقيأ نتيجة له .

كان برنامج علاجي يتضمن يوم علاج و بضعة أيام نقاهة حتى يأخذ العلاج وقته لمكافحة المرض و أيضاً للحد من عوارضه الجانبية قدر الإمكان ، ولكن للأسف هنالك بعض العوارض لا مفر منها .

بعد عدة أيام حان موعد علاجي الثاني و كالمرة السابقة لم يختلف أي شيء عنها سوى تضاعف الألم و تضاعف الأعراض الجانبية ، هذه المرة لم تعطي المهدئات أي نتيجة تذكر فلا يزال الألم ينخر في عظامي و الكدمات بدأت بالتزايد و الغثيان أصبح يلازمني كظلي هذا غير آلام المعدة و تقرحات بدأت بالظهور على فمي و جفاف جلدي و بشاعة أظافري و أكثر ما يحزنني هو تساقط شعري الذي دفعني لقصه كاملا ، الشيء الوحيد الذي كان يجعلني كالأميرة ذهب و ذهبت معه آمالي بالنجاة ، أصبحت كالفتاة بجانبي صلعاء و الإرهاق واضح على تقاسيم وجهي .

ظهرت تحاليلي أخيراً و لكن تبين أن المرض لا يزال منتشراً في جسدي و لم أشهد تحسن مطلقاً بدأت حالتي النفسية بالتدهور ووضعي الصحي مستمرٌ بالتراجع ، أصبحت في حال لا أحسد عليه و لا أتمناه حتى لأسوأ أعدائي ، ولكن ما يساعدني على الصمود هو وجود أمي و أبي بجانبي و خصوصاً أمي التي لم تعد إلى لمنزل من لحظة دخولي للمشفى ، كم أشفق عليها فأنا أرهقها بملازمتها لي ، ادّعيت التحسن و طلبت منها العودة مع أبي إلى المنزل و لكنها رفضت و أنا أصررت على عودتها فعلمت أنه لا مفر لها و خضعت لواقع الأمر و عادت إلى المنزل .
الآن أنا لوحدي أستطيع الأنين كما أشاء ولكن لحظة ! هنالك أمر يمنعني ، الفتاة بجانبي رغم ألمها الأشد من ألمي ” يمكنني ملاحظة ذلك على وجهها ” إلا أني لا أرى غير الابتسامة البيضاء على و جهها كلما نظرت لها ، هل تخفي الألم عني يا ترى أم أنها تقاوم الألم بهدوء ؟

دخل الطبيب علينا و طرح السلام و بدأ يطمئن على حالاتنا ، فقلت له : يا حضرة الطبيب الألم بدأ يزداد مع مرور الوقت و أكاد لا أحتمل هل هناك علاج آخر ؟ فابتسم وقال لي : العلاج الكيميائي هو الحل الأمثل لمرضك يجب أن تحتملي الألم ، لم تنسي ما قلناه في أول مقابلة بيننا أليس كذلك ؟ ، طبعا لم أنسى يا حضرة الطبيب و لكن مواجعي بدأت بالازدياد و أنا أشك في قدرتي على التحمل ، فقال لي : ما هي إلى مدة عصيبة و ستزول قريبا بإذن الله .

عند خروج الطبيب التفتت زميلتي و قالت : العلاج الكيميائي يقضي على الخلايا التي تنقسم بسرعة و هذه إحدى خصائص الخلايا السرطانية فهي تنقسم بسرعة كبيرة مما يجعل مناعة الجسد عاجزة عن التصدي لها في آن واحد فيستخدم العلاج الكيميائي للحد من انقسام الخلايا السرطانية حتى تستطيع المناعة السيطرة على الخلايا السرطانية من جديد ، ولكن عيب العلاج الوحيد أنه لا يميز بين الخلايا السرطانية والخلايا السليمة التي تنقسم بسرعة فتجدينه يقضى على جميع الخلايا التي تنقسم بسرعة ، وخير دليل خلايا الشعر فبسبب انقسامها السريع يلقي العلاج شباكه عليها ، و من أضرار العلاج الجانبية أيضاً ” العقم ” ، لكنه لا يحدث للجميع ولكن لا تقلقي عندما يستعيد جسدك السيطرة على الخلايا السرطانية ستعود الأمور إلى سابق عهدها إن شاء الله .

يا إلهي ما الذي تقوله تلك ؟؟ العقم !! هل سأحرم من ذرّيةٍ لي ؟ يا إلهي ما هذا .

و ما إن أنهت كلامها حتى بدأت تشعر بالتعب و بدأت تصرخ من الألم حتى اجتمعت الممرضات عليها و حقنوها بإبرة مهدئ ، لم أصدق ذلك فهذه أول مرة أرى الفتاة تصرخ من الألم ، هدأت قليلا الفتاة ثم خلدت للنوم .

لا يزال الألم ينخر في جسدي و لكني لا أريد إصدار أي صوت كي لا أزعج المسكينة بجانبي ، فحاولت النوم و لكن كل ما جافاني النوم يأتي الألم ويطرده بعيداً ، لم أعد أحتمل ، استدعيت الممرضة عن طريق الزر المخصص لذلك بجانبي فأتت مسرعة وقلت لها بما أشعر ، ما كان منها إلا أن حقنتني بإبرة مهدئ و خلدت بعدها إلى النوم .

في صباح اليوم التالي استيقظت و حالي أسوأ من اليوم الذي سبقه ، لا داعي لأذكر لكم بماذا كنت أشعر حينها لأنني ذكرت لكم بما فيه الكفاية ، تفقدت سرير زميلتي و لكني لم أجدها مستلقية عليه ، أريد السير لقد تعبت من الاستلقاء ، حاولت النهوض و استعطت ذلك ولكن بشق الأنفس ، بدأت بالسير نحو باب الغرفة بخطىً متثاقلة إلى أن تسلل إلى سمعي حديث ممرضتين مع بعضهما ، ارتعدت فرائصي لما سمعته فعدت إلى السرير و خطاي تدفعني للأمام تارة و للخلف تارة أخرى ، استلقيت على السرير و بدأت بالبكاء أخرجت كل ما كان من مشاعر بداخلي ، يا إلهي صديقتي التي كانت مَثَلي الأعلى في مقاومة الألم قد وافتها المنية !! ، يا إلهي أرحني من هذه الحياة التعيسة ، هذا كان كلامي لنفسي في تلك اللحظة ، لا تستطيع الحروف وصف شعوري آنذاك .

بعد موتها بدأت حالتي تسوء أكثر فأكثر و بدأت صحتي بالتدهور فقد علمت خطورة الحالة التي أنا بها و سلمت نفسي للمرض ، لم أعد أهتم إن بقيت على قيد الحياة أم لا فأنا أعتبر نفسي مجرد جثمان ناطق ، والديّ أيضاً كانا في حالة يرثى لها .

في يوم من الأيام أحضرت الممرضة فتاة إلى غرفتي و كانت تنظر إلي باستغراب فابتسمت و قلت لها جملة صديقتي هل تذكرونها ؟ ” كم تمنيت أن لا يأتوا بأحد إلى هذه الغرفة ولكن تحقق ما كنت أخشاه للأسف مرحبا بك ” ، تحاشت النظر إلي كما فعلت أنا تماماً مع صديقتي ويبدو أنها لم تفهم المغزى من كلامي فأنا جلّ ما قصدته أني لا أريد لأحد أن يصاب بهذا المرض ، ولكن لن أتعب نفسي بالشرح لها ستفهم لوحدها مع الأيام .

في اليوم التالي ذهبت تلك الفتاة لتلقي أول علاج لها ، كم أشفقت عليها لأنها ستعاني مثل معاناتي تماماً ، دخل الطبيب إلى غرفتي و طلب من والديّ الخروج ثم أغلق الباب ، لم أهتم صراحة لما سيقوله فقد أصبحت بليدة المشاعر في الآونة الأخيرة ، جلس الطبيب على المقعد و قال : ما بك يا ريم ؟ هل هذا ما اتفقنا عليه عند أول لقاء ؟ لماذا سلمت نفسك للمرض ؟ .. لكني لم أعره أي اهتمام ، فوقف على قدميه ثم قال : زميلتك السابقة كانت دائماً بشوشة على الأقل و لم تشعرك يوماً أن المرض بهذه الخطورة مع أنها كانت تتألم كثيراً ، أما أنتي تحبطين زميلتك في الغرفة يا لك من أنانية ، على الأقل زميلتك السابقة كانت تخفي ألمها عنكِ لأنها كانت تريد أن ترى إرادتها المسلوبة فيكِ و أنتي بماذا كافأتها بالاستسلام و الخضوع للمرض ؟ ووالديكِ اللذان يسهران على راحتك هل تكافئينهما بطريقتك الفظة هذه ؟ للأسف لقد خاب ظني فيكِ يا ريم .

خرج الطبيب و تركني أصارع صدى كلامه وحدي ، لقد وقع صدى كلامه في أذني كوقع الرصاصة في الجسد ، يا إلهي هل أنا أنانية فعلاً ؟ و بدأت أبكي كطفل صغير ، ووالديّ لم يفهما شيء مما يدور حولهما .

في صباح اليوم التالي عزمت على تغير الوتيرة التي أصبحت عليها مؤخراً فطلبت من أمي أن تساعدني على النهوض لنذهب للسير في باحة المشفى ، بدأت أسير بخطىً متثاقلة و الخطوة تدفع الخطوة و صورة زميلتي كانت تتسلل إلى ذاكرتي كلما شعرت بالألم و تدفعني للأمام ، مرت الأيام و الأسابيع و أنا على هذه الوتيرة أتناسى المرض و الابتسامة لا تفارق وجهي و أخرج للسير كل يوم و من يراني لا يقول أن هذه الفتاة مريضة ، حتى بدأ الألم بالتلاشي تدريجياً .

ظهرت نتائج تحاليلي الأخيرة و لكن لن أخبركم بها ، أنا الآن في الثلاثين من عمري و قد تزوجت و رزقت بطفلين جميلين رائد و مَلَك ، و أشكر الطبيب المختص لأنه كان سبباً في شفائي من المرض فكلماته لا تزال تتردد في أذني كلما واجهت مشكلة في الحياة ، لقد عادت الأمور إلى نصاب عهدها و الحمد لله ، و برصاصة الإرادة قمت بتحطيم زجاج المرض ، وها أنا أكتب لكم هذه التجربة المريرة لتعلموا أن الإرادة تتحدى الصعاب .

تاريخ النشر : 2016-03-18

حمزة عتيق

فلسطين
guest
28 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى