أدب الرعب والعام

رقصة سرمدية

بقلم : مصطفي جمال – مصر
للتواصل : https://www.facebook.com/profile.php?id=100012779294789

ليعود صوت غناء الظلمات المكلوم المعتاد لتقف معه راقصة على الحانه رغماً عنها

 

يتمايل جسدها في الظلمات وحيدة على الحان صادرة من العدم كأن الدجى من يعزفها طرباً و كأن تلك الألحان امتزجت بالظلام حتى لا تكاد تدرك أحدهما دون الأخر فصارا كياناً واحدا خالي من المعاني و الأهداف ، مجرد ظلام أزلي بلا نهاية أو بداية ، دائرة من العبث لا يبرز فيها إلا رقصات رشيقة رشيدة و هادئة مثل تلك الألحان تسايرها في انسجام بحركات لا تتكرر فلا رتابة في رقصها و لا ملل في الألحان و كأن الفتاة تجسيد مرأي لتلك الموسيقى المكلومة ،

يا له من ظلام غريب ! فرغم عتمته القادرة على أن تستر من الشموس ما تشاء خلف عباءته الحالكة إلا أن جسد الفتاة ما يزال جلياً للعيان واضحاً لمن يقف وسط تلك الظلمات بردائها الأسود المساير لرقصاتها الرزينة بشحوب بشرتها كأنها الثلج يتساقط في إحدى ليالي ديسمبر الهادئة بعينيها الرماديتين الميتتين المحدقتين في العدم ، هما عينين لا يجفنان رغم انعدام أي جمال يستحق أن تراه قد أرتسم تحتيهما خطين فاحمين فكأنها لم تنم منذ وجدت في هذا الوجود ، انقشع بعض من الظلام ليظهر من بعيد دائرة من النور الساطع تراه العين قريباً و هو بعيد ، دائرة مضيئة صغيرة تراها أين كنت في هذا الظلام لكنها رغم وضوحها و لمعانها البراق لا تكاد تخفي من الظلام إلا قدر حجمها فمحيطها مظلم و ما حولها مظلم و هي وحدها تضيئ دن أشعة تخرج من جنباتها ، فهي تبرز لشذوذها و اختلافها عن ما يحيط بها من سواد لربما ضعف منها أو قوة للظلام ، كأن تلك الدائرة ظهرت لتعاند الظلام فتختلف عنه لاختلاف ليس فقط في الكينونة المتناقضة و لكن في موسيقاه الصادرة فمن الدائرة تسمع أصواتاً لأشخاص يغنون بتناغم في حماس ظاهر تقشعر له الأبدان نكاية في أصوات الظلام المؤلمة المتألمة

 توقفت عن رقصاتها منبهرة فلم ترى في حياتها إلا جسدها و الظلام المحيط بها من كل الأركان و لم تسمع إلا موسيقى الظلمات و أصوات المتألمين المغنين على تلك الألحان ، فلا ريب أن أصواتاً سعيدةً تصدر من نور مبهج ستدفعها لاندهاش جهلاً و ارتياباً “هذا يناقض ما كنت أراه منذ الأزل” لم تصدر منها تلك الكلمات حقاً فما كانت تعرف عن الكلمات شيئاً لا تعرف من المسموعات إلا المألوف من الألحان و كلمات أغاني الظلام التي لم تفهم منها شيئاً ، هي فقط جميلة رغم حزنها الواضح للسامعين ،

اتجهت بخطوات ثابتة نحو مصدر الضوء الخافت و خلفها أصوات الظلام تعلوا حتى بدأت أذناها تقطران الدماء من علوها تأمرها التوقف بكلمات واضحة تفهمها رغم جهلها للكلمات تعلم أن الظلام يرغب منها الوقوف و البقاء معه ، لكن تطلعها لما يوجد خلف الضوء يجذبها و يجبرها على الاستمرار ، وقفت متأملة لذلك الكيان الغريب الطافي بثبات أمامها لا يتمايل أو يهتز فقط يطفوا مصدراً أصواتاً يطغى عليها الحماس و التفاؤل و بدون أن تعي ذلك غمرتها تلك المشاعر فدفعتها لمد يدها بأصابع مهتزة إلى مصدر الضوء ، انغمست يديها ببطيء في كرة الضوء و بدأ جسدها يغوص تدريجياً فيها كأنها تجذبها لأعماقها الساطعة ، تلك الأعماق التي لا قعر لها أو شطئن ، كانت تطفو وحيدة في بحر النور الأبيض الباهر الوضاح لا تشوبه سوى كرة ظلام خرجت منها لتوها ، كان شعور لا يمكن وصفه سوى بالنقاء بأصوات أجراس هادئة تسايرها صلوات حامدة كأنها ادركت النعيم الذي بدأ يجتاح فؤادها و يخرجها من دورة حياتها البائسة ، فجأة حل الصمت توقفت الأجراس و هدأت الصلوات ، أحست حينها بالريبة و كمن في نفسها خوف من مجهول فلا تدري ما القادم بعد الصمت و ما الذي يحمله من وصمة فأل أسود ، كسر حاجز الصمت بصرخات ألم شديدة عالية كأنها شهقة احتضار أخيرة يتبعها صوت بكاء معتاد تنبعث كلها من كرة الظلام الطافية بهدوء شعرت بأضلعها تضيق على قلبها خالقة ألم لم تذقه من قبل ، شعرت بدفئ في وجهها مخالفاً لطبيعته الشاحبة المتجمدة ، سقطت دمعة تتلوها أخرى على يديها فظلت تتأمل كفيها الملطخين بالسواد إثر دموعها تتأمل إحدى عبراتها حالكة اللون تتأمل الأثر الداكن لقرارها ، تتأمل كل ذلك بتعابير الحزن على وجهها هو مرار لا تعرف له مصدراً ، لم يكن لألمها منبعاً أو سبب هي فقط تتألم بهدوء ، حتى أهاتها المنخفضة ليست كفيلة بتهدئة النيران المتوقدة في صدرها ، حاولت أن تتمالك نفسها أن تسير للأمام ، أن تبتعد عن أصوات الصراخ التي تعلم أنها تنبعث من قعر الظلمات ، أن تتجه نحو مصدر الضوء الساطع البعيد ، هي تراه أمامها تراه يتسلل من جانبيها من فوقها هو في كل مكان حولها لكنها لا تستطيع له وصولاً و لا تعرف له سبيلاً ، كلما ظنت أنها كادت تبلغه تدرك أنه ما يزال بعيداً عن أناملها الملطخة بالسواد و أن أصوات الصراخ ما تزال تتبعها أينما حلت و كأنها تظل واقفة في موضعها ثابتة مهما حاولت التقدم أو الرجوع ،

أدركت عبث ما تقوم به فوقعت جاثية على ركبتيها مطلقة صرخة عالية تشوبها حشرجات البكاء تركت ألمها يتملكها و يطلق العنان لعبراتها التي قاومت انهمارها على البهاء الساطع أسفلها محاولة ألا تلطخه بدنسها ، أشتد صراخها و أشتد بكائها و معهما اشتدت صرخات الظلمات ، التقت دموعها المنهمرة بالدماء النازفة من أذنيها ليخلق امتزاجهما سائلاً حالك السواد مدنساً حرمة الضوء حولها ، بدأ النور يبهت و يقل بريقه كلما استمر السائل بالتسلل نحو الضوء حتى انطفئت أخر لمعة لمحتها خلف ستار أدمعها ليحل الظلام محل الضوء ، سمعت آخر صرخة لهذا النعيم معلنة احتضاره ليعود صوت غناء الظلمات المكلوم المعتاد لتقف معه راقصة على الحانه رغماً عنها و على محياها قد ارتسمت ابتسامة مصدومة.

النهاية…

ملاحظة : هذه القصة منشورة سابقا على إحدى صفحات  الفيسبوك الخاصة بالكاتب

تاريخ النشر : 2019-10-02

guest
60 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى