أدب الرعب والعام

زوجة أمين من العالم الأخر

بقلم : طاهر نعمان المقرمي – اليمن
للتواصل : [email protected]

وجدتها حسنة الوجه عكس ما تسمعه عن قبح وبشاعة ملامح الجن
وجدتها حسنة الوجه عكس ما تسمعه عن قبح وبشاعة ملامح الجن

 
– لماذا هذه الغرفة مغلق يا جدة من يوم عرفت نفسي ما قد فتحها أحد ؟.
لم ينتظر الفتى مرشد جدته كي تتم تسبيحها بعد صلاة المغرب حين سألها وهو يشير لغرفة مغلقة في أخر رواق الدار ، كان السؤال في صدرها بمثابة انفجار قنبلة في حقل غاز.
إذ فتح فوهة بركان مشاعر مختلطة و تفاصيل حكاية غريبة ، لكنها أخفت لمعة عيونها عنه وهي تقول :
– هذه غرفة عمك أمين الله يرحمه ، من يوم مات ما حد فتحها ، وجدك وصانا أن لا حد يفتحها أو يغير فيها شيء.

ظننته اقتنع بالإجابة ، لكن تلك لم تكن كل الحقيقة
، ذلك أن الحقيقة الكاملة التي تخفيها في صدرها وحدها ولا أحد غيرها الأن يعرفها و كانت عصية على التصديق وأغرب من الخيال !.
****

قال أمين لأبويه ذات ليلة في ذلك الزمن البعيد :
– إن العيشة هنا لم تعد تناسبني ، أريد أن أغترب جيبوتي أو أي مكان أشتغل ، لقد ضقت بالعيشة هنا.
هز أبوه رأسه وقال : لكن يا ولدي لمن تترك الأرض و أخوك لا زال صغير ، و أنا كم يكون جهدي !.
و راحا في نقاش ، وكان أن انتهت المناقشة بأنه سيغترب عدة سنين و يعود.
في الصباح و دعوه وسار هو باتجاه مدينة المخأ ليركب البحر.
لم يكن معهم من شيء يهبوه له سوى تلك النقود القليلة والكثير من الدعوات والدموع عند الوداع.
****

وعاد أمين و رفيقيه بعد أسبوع ، عادا جثثاً هامدة ! فقد ابتلعت أمواج البحر العاصفة أحلامهما وحياتهما ! حياتهما التي لم يبدأها أصلاً.
تحسرت نسوة القرية من جيران أمين ، لقد مات في ريعان الشباب ولم يتهنا ولم يتزوج ! كان أمين شاباً وسيماً و بنيته القروية القوية من فلاحة الأرض منحته مظهراً رجولياً وعضلات بارزة ،
لكن الأمواج أنهت حياتهما و ضم التراب كل تلك الملامح والشباب و انتهت حياة ، لكن بدأ فصل جديد !.
****
مر عام على وفاة أمين ، لم يعد بالدار إلا هي وأبوه وأخوه و أخته الأصغر منه.
حين بدأ أمين شبابه بنى له أبوه غرفة جديدة ملحقة بالدار و كان يزمع على الزواج فيها .
بعد وفاته ظلت مغلقة و لم يرد أحد أن يفتحها أو يغير بها شيء ، أو بالأصح لم يكونوا بحاجة لها ولم يفكروا حتى ، لم تكن أمه تحتاجها إلا حين يغلبها الحنين لابنها الفقيد ، فتدخل غرفته وتظل تشم في ثيابه و فراشه وتبكي.

لكن الأم كانت تلاحظ أشياء غريبة أو تحس بأشياء غريبة لو شئنا الدقة ، كانت تحس بما يشبه القشعريرة حين تدخل الغرفة ، عزت ذلك في  نفسها من أنه شعور الرهبة الطبيعي للإنسان حين يدخل مكان أو غرفة شخص ميت.
و لم تعد تستغرب من تلك القشعريرة التي تسري في جسدها ، لكنها أيضاً صارت تلاحظ أشياء غريبة أخرى.

مؤونة البيت التي كانت تكفيهم بالعادة لفترة شهر تقريباً صارت تنتهي سريعاً وكأن هناك من يختلس منها أو يأخذ منها غيرهم.
صارت متيقنة أكثر حين ركزت على الأمر ، و نقلت أفكارها لزوجها الذي أكد ما قالته حين رد عليها :
– أنا مستغرب أنك هذه الأيام تكملي الحاجات بسرعة ، و كان كيس الدقيق يدوم معك شهر و يزيد.
و صار الأمر أوضح ما يكون.
قال له الشيخ إمام المسجد بعد أن استشاره : أنا أرى أن تكتب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وتطرحها بين الدقيق وأماكن المؤونة ! يمكن الجن يأخذوا منها !.

نفذ الرجل الوصية ، و في الليالي التالية حدث ما لم يتوقعاه ! لم تنقص من المؤونة شيء ، لكن أصبحوا في الليل يسمعون مثل ثغاء وبكاء طفلين ، كانا يسمعان صوتهما بوضوح ! وكان الصوت يأتي أحياناً من ناحية المطبخ و أحياناً من ناحية حجرة أمين المغلقة.
كانت الأم أحياناً لا تستطيع العودة للنوم حتى الفجر والآذان حين تهدأ الأصوات.
في الليلة التالية حين سمعا الأصوات لم يستطع الحاج أن يصبر أكثر ، تسلل إلى حيث مكان حفظ الأدوات ليعرف مصدر الأصوات و..

ناداه صوت : يا عم قاسم ، يا عم قاسم !.
شعر قشعريرة وهو يسمع إسمه بصوت غريب ، كان الصوت يأتي من ناحية غرفة الفقيد أمين ، كان الظلام يلفها ، وأقترب من بابها المغلق ، لكنه كان يسمع الصوت من خلفه بوضوح :
– أنا هنا .. أنا و أولادي الإثنين !.

– ومن أنتي ؟ سألها والاستغراب يشل حواسه !.
– أنا جنية و زوجة أبنك أمين ، و معي منه ولدين ، وأنت حرمتنا من الأكل حين وضعت التعويذة بين الطعام ! و يجلسا يبكيان في الليل من الجوع !.
كان ما يسمعه أقرب للخيال ، و لم يدرِ ماذا يفعل ولا ماذا يرد ! كانت كل ذهنه مثل جدار مسدود أو كقطعة من الظلام.

كل ما استطاعة هو أن يتسلل لحجرته وفراشه ويحاول النوم وهو يقلب ما سمعه بينه و نفسه بين مصدق ومنكر لما سمعه ! حاول النوم لكنه لم يستطع ولم يشعر إلا وخيوط النهار في النافذة .

حين حكى لزوجته ما حدث في النهار التالي ، لم يكف فمها عن الاستعاذة والبسملة وقراءة القرآن ، أخذت بعبارات قروية تستنكر ما يقوله و تتعوذ وتعوذه وتعوذ حتى أبنها الميت من الجن ! لكن الحاج كان قد ذهب قبلها وأخذ كل ما كتبه من أوراق ومزقها ومسح كل تعويذة كتبها على أوعية الطعام.

و في الليالي التالية لم يعودا يسمعا شيئاً .
قال لزوجته : سواءً كان خبرها صدق أو كذب وما دام سكتت أصوات الجهال الذي يبكوا خلاص سنعتبر ما ينقص من أغراض صدقة لوجه الله تعالى ، و لا أريد أي أحد أن يعلم بما صار و لا حتى الأولاد ، والغرفة هذه لا تُفتح سواءً في حياتي أو بعد موتي !!
****

مثل نجوم الفجر كانت ترى وجه أبنها أمين كل ليلة ، ذات يوم غلبها شوقها وفي غياب الأب دخلت الغرفة ، نست أمر القشعريرة و نست الخوف من الجن ، نست أمر تلك الجنية ! كانت تريد أن تلمس أغراضه التي بقيت هناك لسنين ، ثم وجدت نفسها تقول وهي تبكي : الله يرحمك يا أمين .. الله يرحمك سواءً كانت هذه تكذب أو صادقة !.
فجأة سمعت صوتاً من حولها ، صوتاً نسائيا رقيقاً قبل أن تلتفت لترى على ضوء الشباك الوحيد النصف موارب خيال إمرأة بشرية الملامح ! جفلت الأم و راحت لتقف و تخرج من الغرفة هاربة.

قالت صاحبة الخيال الواقفة في حيز الظلمة : لا تخافي ..لا تخافي .. لن أؤذيك ، أنتي أم أمين.. وأمين كان طيب معي!.
في كلمات قليلة و وسط رعشة قلب الأم وكانت تتحاشى أن ترفع نظرها تجاهها و تتأمل ملامحها أكثر ، و فعلت مرة فوجدتها حسنة الوجه عكس ما تسمعه عن قبح وبشاعة ملامح الجن ، لكنها لم تعاود النظر وسط نبضات قلبها الواجف ، فليس في كل يوم يجد الإنسان من يحدثه غير البشر فكيف بمن يحدث جن ؟.

شرحت لها الأخيرة قصتها مع أمين بكلمات مختصرة وختمتها بقولها :
( إنها لا تظهر للبشر ، فقط ظهرت لها مثلما لم يكن يراها إلا أمين ، وأنها عشقته ولأجله خالفت سالف أسرتها والجن وتزوجته مما جعلهم يحرموها وينفوها من بينهم ، ولهذا كانت تأخذ الطعام لأولادها من أمين.

لكنها لن تزعجهم بعد الأن إذ سترحل قريباً لعالمها بعد ما كبروا أولادها لأن أسرتها قررت أن تسامحها بعد أن مات أمين وسمحوا لها بالعودة
****
ومرت سنوات ..
مرضت الجدة و شعرت أنها ستلحق زوجها ، قررت أن تحكي كل شيء لحفيدها مرشد بعد أن ظلت الحكاية حبيسة صدرها سنين طوال.
أخذت الجدة وهي تحكي لحفيدها القصة تمسك بيده وتقول له وهي تختم الحكاية :

هذا أنا قلت لك كل الحكاية الأن قبل أن أموت ، و بعد ما كبرت و أصبحت شاب ، و أريد منك أن تكتم السر و لا تخبر به أحد ، لكن حافظ على غرفة عمك أمين مغلقة ، و لا تغرك نفسك و تفكر في أن تدخلها أو تسكنها بعد أن أموت ، أخاف أن تعود تلك  أو غيرها ! و لولا أنه بيتنا و ليس معنا غيره كنا تركنا البيت كله ).
وعدها مرشد أن لا يخبر أحد ولم ينكث بوعده ، لكن أمه التي كانت تستمع ما تحكيه الجدة وعرفت قصة الغرفة المغلقة بعد كل هذه السنين لم يعنيها ذلك الوعد ، لذا لم يمر إلا بضعة أيام و بدأت بعض النسوة يحكين قصة الغرفة المغلقة منذ سنين طوال وقصة أمين الذي تزوجته جنية وأنجبت منه و خبأ والديه الحكاية عن الكل ! و حتى اللحظة تتعوذ النسوة حين يحكين القصة ، لكنهن يواصلن سردها وكأنهن يتلذذن بذلك ، فيما كان البعض من الرجال يؤمن و يؤكد الرواية و صار البعض من يبتلون الأرض بالمحراث يزملون وهم يحرثون :
– وليلبو وليلية ..أمين تزوج جنية !.

فيما الكثير من الناس يقول عنها : هذه خزعبلات وخيال ! وتستمر الحكايات باستمرار الصباح والليالي ، لكن غرفة أمين ما زالت مغلقة حتى اليوم ! مثل الكثير من العقول ، مثل الكثير من الأسرار.
 

تاريخ النشر : 2020-07-08

guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى