أدب الرعب والعام

ستريجوي

بقلم : هيثم ممتاز – مصر
للتواصل : [email protected]

ستريجوي
هذا المخلوق بشع الشكل والهيئة ويعتبر من أعتى مصاصي الدماء

السفر هو أحد متع الحياة وبما أنني أمتهن مهنة تعني بالسفر فلابد أن أسافر. أعمل في مجال الموسيقى ..عازف كمان وكل بضعة أسابيع أجد نفسي في إحدى البلاد وأشارك في فعالية ثقافية تتبع الهيئة الثقافية ببلدي ..أنا حقاً أستمتع بذلك ,حتى أن صادف وجودي الحظ السيئ مثلما حدث معي في ترانسلفانيا برومانيا ..ما هو الحظ السيئ ؟ سأحكي لكم الآن فليس لدينا جميعاً وقت.

إنها مدينة صغيرة تنظم في الثاني من ديسمبر حفلاً للموسيقى الشرقية للتقارب بين البلدين .وصلنا سيغشوارا تلك المدينة الصغيرة المنظمة للحفل واستعددنا لدخول الفندق في يوم للراحة قبل بروفات غداً وحفلة بعد الغد.
سمعنا عن احتفالات اليوم وأن المدينة بأكملها ستكون في الشارع .. “ما المناسبة؟”.
“عيد القديس أندرو”
في تلك الدول الأوروبية يؤدون احتفالاتهم وأعيادهم بذمة وضمير .. الأزياء والبهرجة .. التنكر المخيف .. الطبول .. الشموع … ماذا ؟

“هنا لا أحد يبقى في بيته بعد المغرب وحتى شروق الشمس”
في بلاهة سألنا “لماذا إذن ؟”

“نحن نؤمن أن ستريجوي يتجول في هذه الليلة داخل المنازل والأماكن المغلقة ويمزق ضحاياه”

على الفور قاموا من حولنا برسم علامة علامة الصليب ثم حكوا لنا أن ذلك المخلوق هو تجسيد للأرواح المضطربة السيئة والأرواح المعلقة بسبب الطقوس السيئة للجنازة ..هذا المخلوق بشع الشكل والهيئة ويعتبر من أعتى مصاصي الدماء ..نذير شؤم .. يجلب المرض .. يهاجم من يجده في المنازل. في الماضي كان الناس يحمون أنفسهم منه من خلال وضع الثوم في منازلهم ,ولكن الحكومة حظرت وضع الثوم في تلك المناسبة بالذات بسبب منع السكان من تصديق الحكايات الخرافية والأساطير والسماح بالاحتفال في هذا اليوم بالشوارع ووفقاً للإسطورة فإن ……

لم أكن في مزاج كافي للاستماع إلى هذا التخريف .تعجبت من هؤلاء القوم أيخافون من ستريجوي هذا وفي بلدتهم نشأ دراكولا ؟ ضحكت سراً استخفافاً بعقولهم.
صعدنا غرفنا ودخلت غرفتي بصحبة زميلي واستلقيت متعباً من عناء السفر ونمت..

“ممتاز .. إستيقظ .. حان وقت الخروج”
لست في مزاج كافي للاستيقاظ ..أو حتى فتح عيني.
فقلت في ضيق بالغ.
“أستيقظ ! لماذا ؟”
“ألا سمعت ما قالوه بالأسفل ؟”
“وما الذي قالوه ؟”
“عن ذلك العفريت …”
“حسناً ..أتركني لأكمل نومي”
“إن أهل البلدة ينادون بضرورة إخلاء البيوت والفنادق قبل الغروب”
“اتركني من فضلك أكمل نومي إذن”

تركني وأنا أفكر أن عيب ما يفكر فيه رفقائي وحتى مدير الفرقة والمايسترو ..أيصدقون الخرافات ؟ أيعومون على عوم أهل تلك المدينة ؟ طقوس الأعياد كثيراً ما يُبالغ فيها من قِبل العامة!
نم يا ممتاز ..نم.

وجدت نفسي أستيقظ على صوت طرقات على باب الغرفة .. قمت مترنحاً أثر النوم وفتحت الباب لأجد رجلاً بزيّ عمال الفندق .. لوهلة لمعت عيناه الحمراء ..حمراء ؟ بالتأكيد بنيّة ورأيتها مع اللمعة المفاجأة حمراء ..هلوسة النعاس. كان فمه فاغراً في سعادة لوهلة أيضاً ثم تحول إلى الجدّ قائلاً.
“عذراً سيدي ,هل لي بتنظيف الغرفة ؟”
أشرت برأسي أن نعم ..دخل وأغلقت الباب وتركته وجلست على كرسي أراقبه ..انتهى وابتسم لي ثم قال بالرومانية شيء فلم أفهمه وأعاد.
“هل تريد أي شيء ؟”
“شكراً”

كنت جالساً على الكرسي كما أنا ..مرت دقيقة ولم أسمع صوت إغلاق باب الغرفة ! شعرت بالقلق وقمت وذهبت ناحية الممر لأجد الباب مغلقاً. نظرت حولي ..لا يوجد أي أحد. فتحت نور الحمّام بجانب الباب واصطدمت عيناي وأذني بشيءٍ ما ..عيناي اصطدمت بشكلٍ بشع دامي اللون وأذني إصطدمت بصرخة حادة الصوت ..اندفعت رغماً عني إلى الوراء وانطفأ نور الحمّام.
هل صرخت ؟ هل خفت ؟ هل هذا سؤال ؟!
بالطبع .

ما هذا الذي رأيته ؟ لم ألحق أن أفكر كثيراً فالكهرباء انقطعت في الغرفة ووجدت نفسي أجُرّ من شعر رأسي ..صرخاتي تعلو بينما هذه الزمجرة أسمعها بوضوح!
ما أنت ؟
فجأة ترك شعري وعمّ السكون المكان ..والظلام المخيف أصبح أكثر إخافة ..أكثر سواداً .هل ..هل ..
“ستريجوي”
تباً ..يا ليتني ما سألت بداخلي.

بدت الثواني اللاحقة كأنها ساعات ..قرون طويلة مرت وأنا في قمة الذعر .شعرت بحرارة شديدة تلفح وجهي ..أصبح صوت نفس هذا الكائن مخيفاً. أنا لا أرى أي شيء ولكنني أستطيع تخيّل وجهه الدامي المشوّه وعينيه الجاحظتين وشعره المجعد وهو أمام وجهي يتنفس.. رائحة أنفاسه بشعه كرائحة فأر ميت وجدته تحت سريرك!
أريد أن أتذكّر آية واحدة أقولها ولكن كما يبدو أنني فقدت الذاكرة أثر الرعب. اختفت صرخاتي وبدأت أدخل في مرحلة الترقب مما سيفعله.

أنفاسه بدأت تقترب وأنا على وشك التقيؤ .. أنه بالتأكيد يفتح فمه لتظهر تلك الأسنان المدبّبة لينقضّ على رقبتي..
مصاص دماء !
ولكنه لا .. مرت ثواني عديدة أنتظر النهاية ولكنها لم تحدث. رائحة وحرارة أنفاسه تلاشت.. أُضيئت أنوار الغرفة ..لا شيء ..ولا أدري ماهية القوة التي دفعتني لأجد نفسي في الشارع بملابسي تلك وبلا أي شيء. أجري كالمجنون والناس تبتعد عني ..أجري والناس تبتعد وعلى وجوههم الرعب راسمين علامات الصيب في الهواء. الناس بأكملها في الشارع وأضواء الشارع والزينة وملابسهم الغريبة كل هذا يشير إلى “ستريجوي”.. لماذا أسبب لهم الرعب ؟

وقفت لأخرج هاتفي.. تباً أنه بالأعلى في الغرفة الملعونة . كيف أصل إلى أصدقائي ؟ الرؤية أمامي مشوشة بسبب إضاءة الشوارع .. كالمجنون أجوب الطرقات و إلى تلك التجمعات المخيفة لطرد الأرواح الشريرة اندفعت بحثاً عنهم ..وإذ فجأة تلاشت التجمعات في ذعر فور أن رأوني كأنهم رأوا أكثر الكوابيس رعباً في التاريخ.
“ربّاه ..إحمينا”
ظهر أحد زملائي من بعيد جرياً نحوي ونادى على البقية فاندفعوا نحوي.
“ماذا حدث لك ؟”
ماذا حدث لي ؟ لقد هجم عليّ إحدى هذه المخلوقات .

لاحظوا كما لاحظت أن الناس تتحاشى الاقتراب مني وإن رأوني قرأوا التعاويذ والتمائم ورسموا الصليب.
“ربما عقلك أوهمك بهذا جراء تأثرك بقصص هؤلاء الناس!”
لكن ..مستحيل ..أتتوهم عيناي شيئاً بتلك البشاعة بهذا الوضوح ؟
ولكي لا أُجنّ ولكي أنسى سريعاً ..إعتبرت أن كل ما رأيته هو مجرد خدعة عقلية تماشياً مع أجواء هذا اليوم.

باقي اليوم قضيناه مشياً نراقب عادات هؤلاء الناس وخوفهم مني ..لحظة ! وراء خوفهم مني شيئاً لا يمكن اعتباره خدعة عقلية هو الآخر . هل عرفوا بطريقة ما أنني تعرضت لهجوم من ستريجوي هذا ؟ أهل المدينة أدرى طبعاً.
ذهبت لأحد الناس وسألته .
“ما سبب ذعركم هذا مني ؟”
لم أكمل الجملة حتى رأيته يبتعد في حذر وعلى وجهه ملامح الخوف ويتمتم بفمه ..قلت لزملائي.
“ألم أقل لكم أنني لم أتوهم ؟”
قال أحدهم.
“ولماذا لم يقتلك إذن إذا كان هو ؟”
“لا أعلم”
أنا حقاً لا أعلم.

مرت الأيام التالية وأنا أشعر بشيءٍ ما في معدتي ..ألم بسيط ..ومع سعالي المتواصل بدأ الناس في اللجوء إلى التعاويذ والتمائم بشكل أكبر ..هذا ما شعرت به.
في ذلك اليوم لم أستطع إكمال الحفل بناءً على عوامل كثيرة أهمها عدم تقبل الناس وجودي ..ذهبنا في النهاية إلى العاصمة ومنها عدنا إلى القاهرة .كانت حالتي النفسية تبدو كأنها تترك علامتها في جسدي ..أصبح تنفسي أكثر صعوبة من أي شيء. هناك أشياء كثيرة وجدتها تحدث لي ولزملائي من بعدي ولعائلتي ..كلهم مرضى مثلي ..نفس الآلآم. انتقلت عدوتي لهم.

وفي يوم من الأيام ..وجدت فوضى عارمة تحدث في قنوات الأعلام ..حجر صحي! فوضى! الجميع يتحدث عن “الطاعون” والمصدر مجهول!
بدأت أشعر بضعفي وبضعف عائلتي وجميع من حولي .بدأت أربط كل هذا بشيءٍ واحد وعدة حقائق ..هذا الشيء يتمحور حولي والحقيقة الأولى أنني المصدر الأول للطاعون وأن كل هؤلاء الموتى ماتوا بسببي. الحقيقة الثانية أن زوجتي ماتت بسبب الطاعون وابني يعاني مثلما أعاني. الحقيقة الثالثة أنني لست القاتل لأنني تذكرت أن “ستريجوي” نذير شؤم وجالب للأمراض ..لقد ذكروا هذا فور وصولنا الفندق ويبدو أن أهالي شيغشوارا كانوا يعلمون أنني ملعون وكانوا يحمون أنفسهم من لعنة “الطاعون” التي لعنتني بها هذه الروح السيئة الشريرة المسماه “ستريجوي”.

أنا انتهيت ..وحقاً ليس لدينا وقت !

-تمت-
هيثم ممتاز

تاريخ النشر : 2018-10-02

guest
21 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى