أدب الرعب والعام

ستلتقي الأرواح يوماً

بقلم : آية – سوريا

ما أنفك الثلج يتساقط منذ الصباح، الأحوال الجوية مُفاجئةٌ وغير معهودة، فهنا، على الساحل، قليل من النفناف الأبيض الناعم أكثر من كافٍ لشل دروة الحياة العادية، بيد أنها لم تكن نُدفاً قائلاً هذه المرة، بل عاصفة فعلية، فقد شُلت حركة الطائرات، والقطارات التي ألغت رحلاتها كاملة، فيما غدت الطرقات غير سالكة في معظمها، ناهيك عن التيار الكهربائي الذي راح ينقطع في شكل مكيف.
أخذت من نافذة المطبخ تتأمل المسار المؤدي إلى الشاطئ الذي جمده الصقيع، فبدا كتلة من الثلج الشفاف، فأخذ كل شيءٍ يتلون بالأبيض الناصع، لون السلام، والأمل، لون الهدوء والسكينة التي غادرت روحها، فأحنت أشجار الزيتون والحمضيات رؤوسنا إجلالاً أمام “الجنرال الابيض”، أمّا أشجار الصنوبر فبدت كأن يداً سحرية اقتلعتها لتعيد غرسها مع ثوب جديد،في مشهد حالم يلفها زغب أبيض.
مدت يدها لتفتح النافذة سامحة للرياح بالدخول إلى المنزل، حيث كانت باردة وصقيعية، وتلفح قسمات وجهها نسمات تجمد وجهها وتجعل عيناها تدمعان وانفها يسيل، تأرجحت على وقع صخب ارتطام أمواج البحر الذي كان يبان إليها، فلم يكن يبعد سوى عد خطوات عن المنزل، كانت أمواجه هائجة وثائرة نتيجة العاصفة.
أخرجت من أحد أدراج الخزائن ولاعة فضية وعلبة سجائر قديمة مُجتزئٌ منها، حيث كانت تخفيها لايام عصيبة كهذه، أشعلتها بارتباك وسرعة، أغمضت عينيها محاولة الغوص في أعماق ذاتها، وروحها، لكنها شعرت بيد تلامس كتفها الأمر الذي استدعائها للألتفات خلفاً، رأت زوجها الذي رمقها بنظرات حادة، ثم احتج قائلاً:

كنت أعتقد بأنك أقلعت عن التدخين.
صمت لبرهة ثم أضاف على احتجاجه:
-, هذا سيقتلك يوماً ما.
وافقت إينولا بحركة من راسها على تحذيره، وقالت مستديرة إلى النافذة بهدوءء:

-صحيح، لكن على المرء أن يموت لسبب ما، أليس كذلك؟
عند هذا الكلام، حاول أن يقول لها بلهجة أكثر لطفاً:

-لكن عليك التوقف، هذا يحزنني عزيزتي.

-إنها سيجارة واحدة ألفريد، لا تضخم الأمور.
أجابته بلامبالاة.

-هذه الواحدة ستصبح عشرة! قال محاولاً كتم غيظه
لم تعره أي اهتمام، بل تابعت بشفغ حلقات الدخان وهي تتشكل حولها ثم تتلاشى بصمت في الجو، تنهد بضيق من تصرفات زوجته، ثم انتبه إلى أن النافذة مفتوحة، همَّ لإغلاقها لكنها استوقفته بسؤالها بنبرة أكثر تجمداً من الجو:

-أتذكر تاريخ اليوم؟
ارتبك ولم يجبها، كيف له أن ينسى أمراً كهذا؟ ابتعد عدة خطوات عنها ليقول مواسياً:

-اذكر ذلك

قاطعته وهي ترمي سيجارتها في الحوض: ٢٨ ديسمبر..
صمتت لثوان لتفتح الصنبور فوق السيجارة ليبقى الرماد منها فقط، تابعت وهي تلتفت نحوه دون أن يرتسم أي تعبير على وجهها:

-ذكرى وفاة بيتي…
اقترب منها ليمسح الدمعة التي هربت من عينيها، لكنها أوقفته وتابعت بنظرة تحمل الكثير من الألم:

-لقد كان يوماً عاصفاً كهذا..

محاولاً مواساتها قال بحنانٍ بالغٍ: لا ترهقي نفسكِ، دعيني أغلق النافذة ثم نجلس بجوار المدفاة ونتحدث بما تريدين..

أبعدت نظرها عنه بضيق وقالت مستاءةً: تتهرب من الحديث فقط.. يالك من وغد!
لم ينفي أو يؤكد قولها، ابتعد عنها ليقول بهدوء: سأخرج لإحضار بعض الحاجيات، أتودين مرافقتي؟

مسحت الدمع الذي شوش رؤيتها ورتبت هندامها لتجيبه: كلا، أنا مرهقة، سأبقى في المنزل..

-كما تشائين..
سار نحو الباب مبتعداً عنها، ألتقط معطفه الرمادي الصوفي من على الشماعة، قبل أن يخرج، تبعته وصاحت به بانفعال وغضب مفاجئ:

-أنت مخبول تماماً! لا تقدر وفاة ابنتنا، عاودت حياتك بشكل طبيعي، على مر الايام أعدت بناء حياتك، إن كان ذلك يلائمك فأنه لا يلائمني! الالم هو ما لا أستطع اجتيازه.
متجاهلاً حديثها الذي كان مضربة موجعة سددت في منتصف وجهه صفع الباب خلفه ولكنه استطاع سماع صوت إينولا وهي تصيح به:

-عديم الرحمة!
أخذت نفساً عميقاً، ثم صعدت السلالم المؤدية إلى الطابق العلوي الذي يحوي غرف النوم، بينما كانت تسير بالرواق، انتصبت أمام إحدى النوافذ التي كانت تتوسط الرواق، رغم أنها لم تكن تستحسن الصورة المنعكسة، لكنها وقفت تتأملها، جسد يكاد يختفي من الهزالة، وشعر كستنائي أشعث يتخلله بعض الشيب مرفوع بعشوائية، اقتربت من النافذة أكثر ليبان وجهها حاد القسمات وجبينها العريض بإفراط، لاحظت هالات سوداء حول عينيها، وشحوب بشرتها بشكل مفرط، الالم يعتصر قلبها والتفكير ينهش عقلها، لم تجد وسيلة أفضل من الاعتكاف عن الاهتمام بمظهرها والامتناع عن تناول الطعام للتعبير عن مدى حزنها وأساها.
ابتعدت عن النافذة وحاولت طرد انعكاسها من مخيلتها، لتتابع سيرها باتجاه غرفة ابنتها، فتحت القفل بتأنٍ وخوف ولهفة ممزوجة بالألم.
عندما دخلت، تمعن كل تفصيلة بروية، كأنها المرة الاولى التي تدخل بها الغرفة، رغم أنها تحفظ زواياها عن ظهر قلب، كانت غرفة صغيرة بديكور بسيط، جدران مطلية باللون الأبيض، وإحداها وردي اللون، سرير وستائر وردية، وخزانة ملابس خشبية صغيرة، مع سلة موضوعة بالزاوية ملائ باللعب والدمى، ورغم مرور كل تلك السنوات ما زالت نافذة الغرفة مفتوحة على مصرعيها، ولم تفكر يوماً بإغلاقها، إضافة إلى صورةٍ معلقة على الجدران لصاحبة الغرفة ذات السنوات الأربع.
اقتربت من الصورة بتوجس وأمعنت النظر بها، شعرها الكستنائي القصير المُضفر، وعيناه الزرقاوتين اللامعتين، تشعان براءة وحباً لا يستطيع لأحد مقاومة نظراتها، قسمات وجه حادة، وضحكة تبرز فقدانها أحد أسنانها الأمامية بشكل لطيف.
جلست على السرير ممسكة دمية ابنتها المفضلة، كانت عبارة عن دب محشو ابتاعته لها في ذكرى ميلادها الثاني، ومنذ ذاك الوقت لم تفارقها ولو للحظة واحدة.
ترددت لثوان وهي تنظر إلى الدب، ثم قالت هامسة لنفسها:

-لقد ماتت بيتي هنا، بين يدي.. أنا السبب في ذلك، أنا قتلت بيتي…
صمتت ثوان عدة بعد ذلك الاعتراف، وهي تتأرجح في مكانها بعيون جاحظة، وشعور بالخوف والذنب.
كان بداخلها تتوسع شقوق جراح عميقة، جراح لا أحد يعرف بوجودها، لقد كانت تنخز روحها، كانت هنالك جراح أكبر من أن نعبر عنها بكلمة أو بنظرة، هنالك دوماً أمور لا تستطيع مشاركتها مع أحد..
فكرت لزوجها وردة فعله، كان هادئاً بشكل مبالغ فيه، ولم يبكي مرة واحدة على فراقها، وذلك يصدمها، لكنها تبرر له بأن قد يكون يتظاهر، فعلى أحدهما أن يكون قوياً، أو على الأقل، نحن نجهل في بعض الاحيان غالب المحن التي يجتازها الناس الذين نحبهم، أو فقط نتاجهلها ونمتنع عن معرفتها كي لا نتأثر بشكل ما ونغدو ضعيفين منهارين نحن أيضا..
هبطت لتجلس على الارض منهارة بشكل تام، منحنية الظهر ساقاها مطويتان في حالة إنهاك شديد، مطرقة راسها إلى الأرض، كانت ترتجف وهي لا تستطيع منع نفسها من البكاء.
سامحة للذكريات بالتدفق، تلك التفاصيل التي ترافقها في كوابيسها ليلاً تمنعها من النوم، وتتكرر في ذهنها دون توقف نهاراً، لا ينفك المشهد عن التكرار مرة تلو الأخرى الأمر الذي سيصيبها بالجنون.
تستطيع بوضوح رؤية طفلتها الصغيرة ممددة على السرير وحرارتها مرتفعة بشدة، لقد كانت قلقة بشأن مشاكلها بالعمل، فتغيبها المتكرر جعل مدير الشركة غاضباً بشدة، وهددها بطردها، أخبرتها بيتي بأنها تتألم كثيراً وسألتها إن كان موعد الدواء قد حان، فبعجلة من أمرها، وبدل أن تعطيها خافض الحرارة أعطتها دواء لمرض السكري، فألفريد مصاب به.
لقد رجتها بيتي كثيراً أن تروي لها حكاية أو تغني تهويدة تساعدها على النوم، لكنها رفضت ذلك بعصبية وانفعال أخاف الطفلة الصغيرة.
ثم تتالت الاحداث بشكل أسرع، سعال بيتي الذي ترافق معه خروج دم، تقيؤ حاد، وشعورها بالإعياء عندما حاولت النهوض من على السرير، استنجادها بوالديها، ونظرتها الراجية البريئة التي تقتل إينولا كلما تذكرتها ” أتقذيني”.
في المشفى، خرجت الطبيبة -والتي كانت امرأة قاسية بنظر ألفريد- وأعلمتهم بنبأ وفاة طفلتهما بسبب تسمم دوائي، استفسرت زهراء بعدة أسئلة عما حدث، وعند رؤيتها إنهيار إينولا وارتباك ألفريد، صاحت بها بعصبية وانفعال ملقية اللوم عليها، تخبرها بأن الطفلة تعذبت كثيراً، وتألمت لدرجة لا تستطيع تصورها، بانها بسبب استهتارها وإهمالها قتلت ابنتها، لقد كان جميع من في الطابق يتابع ما يجري، صراخ الطبيبة وبكاء إينولا ومحاولة ألفريد لتهدئة الوضع.
بعد نصف ساعة قدمت الشرطة واقتادتها إلى المخفر للتحقيق في مقتل بيتي.
لم يكن الامر بالهين، بل بقيت محتجزة في السجن لثلاث أسابيع، حتى وافق القاضي على دفع كفالة لإخراجها.
لم تكن سعيدة بالخروج، فعلى الأقل، في الداخل، كانت تشعر بأنها تنال جزاء جريمتها الشنيعة، لكن زوجها ببساطة أتخذ قرارا مهماً كهذا عنها.
وطوال السنوات الثلاث الماضية، لم يلقِ اللوم عليها لمرة واحدة، بل دوماً ما كان يواسيها في لحظات ضعفها وانهيارها بأنه كان مجرد حادث..
صفعت نفسها بقوة وازداد نحيبها، إنها مذنبة، سافلة لا تستحق لقب أم، قتلت ابنتها بيديها، ما يجري لها عقاب تستحقه.
فتحت عينيها وسط دموعها محاولة التماسك، ثم رأت طيف فتاة صغيرة يقف عند باب الغرفة، لقد كانت بيتي! فقط طال شعرها وازداد طولها، مرتدية ثوبها الأحمر المفضل، مسحت بسرعة دموعها غير مصدقة، وجرت لتحضنها، لكن بيتي سارت، تبعتها إينولا وعلامات الدهشة لا تفارق وجهها، وبيتي لا تتوقف عن الابتسام لتبان غمازاتها، دون الاجابة عن اسئلة أمها المتكررة، لقد كانت تقود والدتها إلى السطح، وقفت بيتي على حافة السطح و إينولا على مبعدة خطوات قليلة وهما تتبادلان الابتسامات.


لقد كان من الصعب الوصول إلى الصيدلية واحضار دواء إينولا في هذا الجو، فبعد وفاة ابنتهما، أضطرت لأخذ أدوية كثيرة، مضادة للاكتئاب، وللهلوسة، ومنومات، بعدما ركن سيارته الرمادية أمام المنزل وخرج منها وقد أحضر باقة ورد لزوجته عسى أن تتحسن نفسيتها، سمع صوت ارتطام حاد من الجانب الاخر للمنزل، تسارعت نبضات قلبه بشكل ملحوظ وقد تصبب عرقاً، جرى بسرعة وقلق نحو مصدر الصوت، وعندما وصل إلى هنالك تسمر في مكانه مصدوماً منكسراً وهو يرى جسد زوجته ممدداً على الأرض وقد اصطبغ الثلج بلون دمائها الحمراء، راسمة ابتسامة عريضة على وجهها، كأنها تحررت من سجنها بعد طول سنين من العذاب، وكأنه أمر مقدر بأن تلتقي الأرواح لتمحى الآثام.

ملاحظة : القصة نشرت سابقاً للنفس الكاتب في موقع جوّك .

اية

سوريا
guest
21 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى