أدب الرعب والعام

سجن أم جحيم ؟

بقلم : يعقوب السفياني – اليمن

لقد مات كل سكان الزنزانات واستبدلوا عشرات المرات بسجناء آخرين وهو في زنزاته طيلة 3 عقود من الزمن

– أيها الحقير خذ عشاءك
متبعاً كلامه بقهقة عالية وركلة في الرأس .. فعل حارس الزنزانة الضخم والقبيح وهو يحضر العشاء أو بالأحرى السم للسجين ابراهام .
يقوم ابراهام وظهره ينزف من أثر سوط التعذيب محاولاً أن يبصر طعامه بعين واحدة بعد أن قلعت عينه الأخرى وغرز فيها سيخ ملتهب ، ويعرج برجل واحدة بعد أن سكب الحديد المذاب على قدمه الأخرى ، وصدر مرقع بأقطاب لا تحصى  ، وشعر كثيف يملؤه التراب وروث الحيوانات التي ملأ زنزانته ، يقيه من البرد قميص رمادي ممزق ومتهالك .

يفتح طبق عشائه الذي كان يحتوي على قطعة خبز عفنة وفأر مسلوق تعوَّد على أن يأكله طيلة 30 عام في السجن كي لا يموت جوعاً .

– يا له من عنيد إنه لا يموت بعد كل ما فعلنا به
قال الحارس لصديقه الذي أجاب :
-نعم إنه عنيد جداً ، لقد مات كل سكان الزنزانات واستبدلوا عشرات المرات بسجناء آخرين وهو في زنزاته طيلة 3 عقود من الزمن .
بعد أن أكمل العشاء ، يضع رأسه على الأرض القذرة لينام قليلاً حتى قاطع نومه البائس حارس السجن :
أيها الحقير ، قم سنذهب بك إلى التحقيق حتى تعترف بذنبك .

يقوم ابراهام وهو صامت وعصا الحارس تصيبه بكل مكان في جسمه .
يصل للغرفة اللعينة التي صُب عليه فيها ألوان العذاب ، يستقبله المعذب المنزوع الرحمة "جولد بين " بابتسامة خبيثة.
– سيد ابراهام ، ألم تكتفي مما حصل لك طيلة هذه السنين من عذاب ؟
ألم يحن الوقت للتخلي عن الكبرياء و الاعتراف.
يجيب ابراهام : ماذا إن اعترفت ، هل تريدون إعدامي كما أعدمتم آلاف الأبرياء ؟
يجيبه جولدبين : أيها الحقير ، الموت أهون لك مما سيصيبك الآن.
مددوه على طاولة التعذيب .

يمسك الحراس ابراهام الذي لم يعد فيه أية قوة كي يقاوم ويضعونه على الطاولة المطلية بالدماء ، يمسك جولد بين بحقنه مليئة بسائل أخضر يغرزها في عنق ابراهام الذي بدأ ينتفخ ، وبدأت التقرحات تظهر في كل مكان في جسمه .
يتلوى ابراهام من الألم وصراخه يملء الغرفة يخالطه ضحك جولد بين والجنود.
يشعر ابراهام بألم غير متخيل يقطع بنان جسمه ، تنهمر الدموع من عين واحدة ، يأخذه الحراس إلى زنزاته وجسمه مليء بالتقرحات التي تنزف بالدماء .
يستمر الألم بالتدفق في أوصاله ، يتناغم ابراهام مع الألم الذي اعتاد عليه طيلة سنين ، يشعر بنوع من التخدر في أنامله وأطراف جسمه ، لم يستطع النوم في تلك الليلة.

في الصباح الذي لم ير شمسه طيلة سنين حكمه يأتي الحارس بوجبه الإفطار ، لم يستطع أن يمد يده ليأكل ، يأخذ الحارس الطبق ويحشوه في فم ابراهام دفعة واحدة حتى شعر بالاختناق ، يركله الحارس عدة ركلات في رأسه ، ينظر يمنةً ويسرة ثم يتبول على ابراهام وهو يضحك .. يخرج ويغلق باب الزنزانة .

يتذكر ابراهام زوجته الجميلة ايميلي وابنتيهما اللتان أحبهما أكثر من نفسه ريتا وليلي .
يقطع تسلسل أفكاره الدافئة صراخ ايمليلي زوجته وهي تذبح على يد جنود السفاح جارد ، وابنتاه اللتان أخذهما الجنود وهم يقولون ضاحكين : يبدو أن الليلة ستكون ممتعة مع هذه الدمى الصغيرة ..
يصرخ ابراهام وهو يتقطع ألماً وحزناً ، فيدخل الحارس الذي ركله في بطنه وهو يقول : أيها الوغد اسكت لقد أزعجتنا.

يأتي وقت الغداء ويدخل الحارس وجبة الغداء التي كانت فخمة قليلاً ، فقد أدخل له حساء الضفادع مع أرز أبيض غير ناضج ، يأكله وهو ينضح بالألم من كل مكان في جسمه ، الفطريات أصابت أكثر من مكان في جسمه .

في يوم من الأيام سمع ابراهام حارس السجن يقول : هل صحيح أن الزعيم جارد أصدر عفواً عاماً عن كل من له صلة بقضية الانقلاب ضده ؟
ليجيبه رفيقه نعم ذلك صحيح .
يبكي ابراهام بشدة ، ليس فرحاً أبداً ، لكنه تذكر رفاقه في الثورة وكم عانى الثوار من بطش جارد السفاح الدموي وصنوف العذاب الذي لاقوه.
يخاف ابراهام من العودة مجدداً لهذا العالم الذي خذله وتربع عليه طاغية مثل جارد ، يشعر ابراهام أن الجلاد جارد قد قرر تعذيبهم بأقسى عذاب وهو إخراجهم للعالم بعد كل ما فعله بهم.

كان خبر إطلاق سراحه أشد وقعاً و إيلاماً عنده من كل ذلك العذاب الذي تعرض له في السجن.

يدخل حارس السجن وهو يقول : أيها الحقير قم معي لتغتسل ونلبسك لباس جديد ، الزعيم جارد يريد أن يقيم حفلاً جماهيرياً بمناسبة العفو العام ويجب أن تكونوا أيها المساجين القذرين لائقين لتظهروا على زعيمنا المفدى.

يأخذه الحارس ويلقي به في حوض مليء بالماء الحار جداً ، كأنه يريد خلق جلد جديد لابراهام بدلاً عن جلده المتقرح والمتفحم ، يخرجه من الحوض بعد أن غسله ، يرمي له بعض الثياب ويأمره بارتدائها.
يلبس ابراهام ثيابه و يحضر له الحارس طبقاً من الأرز الشهي وقطعاً من أرجل الدجاج وكوباً من العسل.
ينظر ابراهام بتقزز من هذا الطعام الذي لم يذقه منذ 30 عام.
يأكل طعامه كله والحارس يضحك بشدة ، يحلق له الحارس شعره الكثيف المتجعد ويقص أظافره الطويلة ، يدخله زنزانه نظيفة محتوية على فراش وثير قائلاً له : نم بشكل ممتاز الليلة ، يوم غدٍ ستكون حراً طليقاً .
يضحك ابراهام في أعماقه كيف أنام أيها الأوغاد ؟؟بعد أن نقلتموني لعالم آخر طيلة ثلاثة عقود !!

تنهمر الدموع من عينه مجدداً .. ينام من شدة إرهاقه وتعبه.
يشعر بحرارة جميلة على جلده وضوء سحري تدفق الى مقلة عينه ، كانت خيوط الشمس التي انسابت لأول مرة من نافذة زنزانته.
يستيقظ وماهي إلا لحظات حتى جاءه الحارس بوجبه إفطاره اللذيذة ، يأكلها بنهم شديد .. يأخذه الحارس وهو يقول له :
– ابتسم سوف نخرج الآن أمام الزعيم جارد وحشود الناس التي تأهبت لهذا الحدث العظيم .
يشعر ابراهام بمرارة كبيرة ، لقاء هذا المجرم هو عذاب بحد ذاته.

يخرج ابراهام والحارس يقوده ، يسير بخطى ضعيفة وركيكة
يشاهد عشرات المساجين مثله يقودهم الجنود ، منهم من فقد عيناه بشكل كامل ومنهم من بترت ساقيه ، ومنهم من بترت يداه ..
صنوف من العذاب التي عاشها السجناء تظهر واضحة على وجوههم .
يخرجون وسط تهليل من الناس الذين توافدوا لساحة السجن الخارجية.
كانت شعارات " يعيش الزعيم جارد تملأ المكان "
تنهمر دموع الثور المساجين ومنهم ابراهام ، فهذه الشعارات كانت رصاصاً يخترق أجسامهم ، يرفع ابراهام بصره لمنصة عالية في الساحة ، فيشاهد رجل يرتدي ثياب سوداء فخمة ، وخاتم ذهبي كبير يعكس ضوء الشمس إلى عيونهم وهو يبتسم ويلوح للجماهير .

– هذا الكهل اللعين نجح في إبادة ثورتنا
قال أحد المساجين الذي تم جره بسرعة خاطفة إلى السجن مجدداً .
يمر المساجين ويعرض بهم كما تعرض الأغنام في الأسواق ، والجماهير تهتف للزعيم جارد .. وفجأة دوت أصوات رصاصات في المكان .
سقط جارد هاوياً والدماء تنزف من رأسه ، التفت الناس ليشاهدوا  امرأة  أربعينية تصيح بصوت مغمور بالألم والحزن : 
– مت أيها الحقير ، لقد ذبحت أمي وقتلت أبي في سجنك .. أيها الظالم اللعين لقد ظللت وجنودك تغتصبون أختي حتى أصابها مرض وماتت ، وظللتم تتنابون على اغتصابي ولم تكتفوا بهذا ، بل جندتموني معكم حتى ظننتم أني سأنسى….

وقبل أن تكمل كلامها انهمرت رصاصات الجنود على جسدها .

توقف الزمن برهة أمام ابراهام الذي أعاد شريط حياته كاملاً ..
عم الشغب في المكان وتدفقت جموع الناس ممسكة بالجنود ، وظهرت فرق شبابية مسلحة تقتل عسكر جارد .
سمع ابراهام صوت يقول :
أيها الثوار ، مركز المدينة قد سقط بيدنا ، البلدات كلها انتفضت .
ينظر ابراهام لحوله فيرى بندقية ، يمسك بها ويصوبها نحو جارد الميت وهو يطلق راصاصاته على جسمه قائلاً :
فلتخسأ أيها الحقير ولتمت ميتة أبدية..

خر ابراهام بعدها ميتاً وهو يبتسم ابتسامة المنتقم والمنتصر معاً .

تاريخ النشر : 2018-01-18

guest
13 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى