أدب الرعب والعام

سحر الأماسي

بقلم : ابوبكر محمد ↻

كانت تبتسم وتتذكر صراخه لأول مرة
كانت تبتسم وتتذكر صراخه لأول مرة

نهضت أخيرا من سريرها بعد جهد جهيد من المقاومة ونجحت بصعوبة بالغة بعد أن أخمد الحزن نار الأمل بداخلها . حاولت بكل جهدها أن ترسم ابتسامة كاذبة علي وجهها محاولة أن تخبئ قناع الحزن خلف جدار السعادة ، ذلك الجدار الواهن.. كافحت بكل أنواع الطرق حتى لا يعلم أحد بمعانتها المريرة.

أخذت تتجول وحيدة في المنزل وهي تتبع صوت ضحكات طفلها الوحيد الذي توفي دهساً تحت إطار سيارة زوجها السكير الذي طالما كان يضربها ويعذبها ، لا ينفك عن تهديدها ويتوعدها بوعود لا طائل منها.

تقدمت برفع شكوي ضده في المحكمة مطالبةً بالطلاق ، لكن طلبها يرفض كل مرة . وأخيراً نجحت في إدخاله السجن بعد أن قام بضربها ، لكن المحكمة لم تتعب نفسها في حبس هذا الوحش الكاسر ، ولم يلبث في السجن بضعة أشهر كأنها كانت كافية لتأديبه !

جلست في شرفة منزلها وهي تنصت بلهفة لصوت خطوات ابنها الوحيد وهو يركض في الممرات محاولاً أن يهرب من ظله . رسمت لها هذه الذكرى أول ابتسامة صادقة في وجهها منذ أشهر.
استمرت ابتسامتها بالظهور حتى استقرت في وجهها ، كانت تبتسم وتتذكر صراخه لأول مرة عندما اكتشف ظله لأول مرة بينما كان يتمشي في أروقة المنزل الذي كان سابقاً جنةً يرقب الكل في الحصول عليها . مع مغيب الشمس احمرت السماء وامتزجت ألوان المغيب مع زرقة السماء ، امتزجت الألوان التي لطالما أحبتها وغاصت في أعماقها وعلقت آمالها على ما ليس له وجود في الأرض.

عاودت النظر إليها مرة أخرى تلك السماء التي تزينت بمغيب الشمس الذي لطالما آمنت بمغيب كل شمس تكون هناك نهاية سعيدة .
لكنها أمست الآن مجرد ألوان زائفة وآمال كاذبة ، ومجرد لوحة رخيصة تزهق روحها . كرهت كل تفاصيل حياتها بعيد رحيل كينونة قلبها.

رفعت عينها إلى السماء وتنهدت في صمت وهي تنظر لصورة ابنها وهي تقول : هذه ليست النهاية التي رجوتها لك.
نظرت نحو شجرة الرمان القديمة التي احتضنت طفولة ابنها وشاركتها تعب الأمومه واحتضنته تحت ظلها .
تجسد لها خيال طفلها الذي أنهك حياتها وتفكيرها نظرت له وهي تبتسم لم تعد تستطيع أن تميز بين الحقيقة والخيال .
بدأت تراقبه بهدوء وهو يحبو متوجها بلا كلل أو ملل نحو جذور الشجرة التي كانت ترعاه منذ عرف طعم الحياة دون أن تشتكي من معاناة الأمومة ، أخذ بيده الصغيرة حفنة من الأوراق لم يكن يعرف ماذا يفعل بها سوي أن يمضغ أوراقها المتساقطة .

اعتراها ذلك الشعور التي يرواد كل أم وأخذت تصرخ عليه بقلق وغضب وخوف ، يا له من مزيج غريب لا تجيد صنعه سوي الأم التي وضعت الخوف على ابنائها شعارا يسمو فوق قلاع فؤادها .
صرخت في وجهه مطالبة إياه بأن يعود وإلا قتلته . بدأت تغريه بالبسكويت المحلى بمربي المشمش ، تغريه لكي يعود لها وتقتله لأنها تخاف عليه.
التفت بجسده الصغير محاولا أن ينظر لأمه التي اكتسحها الخوف.
نظر إليها وفي وجهه ارتسمت تلك الابتسامة البريئة التي تجعل قلب أقسى الوحوش يلين ، وفي عينيه بريق المحبة التي هزت كيان أمه المرهف وبدأ يتسلق أرجوحته القديمة التي كان حبلها شاهدا على ضحكاته محاولاً أن يقف بأقدامه الصغيرة عليها ، لكنه لم ينجح وكان لا ينفك عن السقوط مرة بعد مرة ، لم ينجح في مهمته مما دفعه أن يعلن عن هزيمته الساحقه بطريقة الأطفال المميزة.

نظر للأسفل وجمع أكبر كمية من الدموع التي كانت تتجمع على عجل وضيق على عينيه الخناق حتي تفيض بالدمع ولم يتبق له سوى أن يجهر بصوته الذي كان يمنعه فمه الصغير من الصراخ ، اهتزت تلك الشفاه الورديه بشفقة محاولا ضمها حتي يصنع أفضل طريقة لكي يعلن هزيمته النكراء.
ولم يتبق له سوى أن يجد الضحية المناسبة لكي تشهد على هزيمته ، ولما التعب بينما أمه تراقبه بقلق أدار رأسه الصغير وانفجر بالبكاء مشيراً لأمه أن تتقدم لكي تنسيه هزيمته.
أن تطبع على خده قبلة كانت كفيلة بأن تجعله ينسى معنى الخسارة وينتشي بحنان الأمومة.

لم تحتمل أمه ان تراه بهذه الطريقة و أسرعت له بسرعه تكاد تجابه سرعة اللحظات التي عاشتها مع هذا الطيف الشارد.
انحنت له وهي تقبله في رأسه ولفت يديها حول خصره وضمته نحو صدرها ، كانت هذه الإشارة تعني بأن كل شيء علي ما يرام.
لكن لم الصمت وهو يعلم لأن كل صرخة يصدرها ستكون لها مكافأة خاصة . لكن يا ليته يعلم بأن صراخه يطعن أمه المسكينة ألف طعنة في قلبها الذي يحاول أن يضمد جراح الفراق الأليم.

أخدته بهدوء والفرحة تغمر روحها ، إنه ابنها ، لقد عاد من أجلها . بدأت تقبله في خدوده وتداعب بطنه الصغير بأصابع يدها التي ابتلت بالمياه ، كان ينفجر من الضحك في كل مرة تقوم بلمسه في بطنه.
وضعته في حوض الاستحمام لكي تغسله من الأوساخ ، لقد اتسخت ملابسه بالوحل الذي كان يلهو به أحيانا ويتناوله أحيانا
وضعته في المياه لكنه رفض النزول لوحده ، نظر إليها مباشرة في عينيها مشيرا لها بالنزول معه ، لم يكن هذا طلب صغير بل كان أمر صارم لا نقاش فيه.
لم تدري ما تفعل سوى أن ترضيه حتى لا يبدأ بالصراخ ، لقد أضحت أسيرة لطفلها.

غاصت بهدوء داخل حوض الاستحمام برفقته ، كان ضحكته تعلو كل مرة تغوص فيها للأسفل ، تلك الضحكة التي جعلتها تأخذ نفس عميق حتي تصدر له صوت الفقاعات حتى يضحك وتنتشي هي بسعادة من الفرح ، يا ليتها كانت تعلم بأن كل لحظة تقضيها مع ابنها تقربها خطوة من الموت .

وأخيرا شعرت بضيق في صدرها ، احتاجت بشدة أن تستنشق بعض الهواء لكن ابنها كان يلهو فوق صدرها ويضرب بكفيه الصغيرين وجهه بفرح ، لقد تحول ذلك الحوض العميق إلى محيط عميق لم تستطيع الفرار من قيودهر.
أصبح طفلها يطفو من فوقها ، محاولةً أن تمسك يده الصغيرة لكي يسحبها للخارج ، وبعد صراع شديد من أجل الحياة تمكنت من أن تمسك أطراف أصابع يده لتسحب نفسها للخارج ، لم تلاحظ شيئاً سوي ابنها الذي كان يسحبها للخارج.

صعدت به نحو السماء وهي تحضنه بشغف ، وتركت جسدها غارقا بهموم الدنيا ومصائبها . وهي لا تعرف أنها تحررت من قيود الحزن وألم الفراق .

تاريخ النشر : 2019-03-05

guest
13 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى