أدب الرعب والعام

سرّ

بقلم : محمد ابراهيم فقيه – لبنان
للتواصل : [email protected]

حمرة الشمس عند غروبها بدت كمآسينا تغرق في البحر
حمرة الشمس عند غروبها بدت كمآسينا تغرق في البحر

– انظر فوقك ؛ اذا رأيت فقاعات تتصاعد أو صواريخ تتساقط ، أو رصاص يقترب منك ، يعني أنك تنتقل لأرض الأحلام ، هكذا تنتقل ، لا بسيارة ، لا بمركب ولا بطائرة .

صواريخٌ تساقطت قرب حيّنا مع صوتها الذي أصمَّ آذاني وكاد يمزّق عضلات قلبي من تسارع دقاته ، ارتعشت خوفًا حتى دست على شظية زجاج كانت على الأرض فجرحت قدمي العارية ؛ هذا ما حدث وأنا في الطّريق أثناء عودتي من دكان العمّ أحمد لشراء مصاصة حمراء.

طرقت الباب بعدما وصلت إلى منزلي أعرج على قدمي بوجه يغرق في دموع مختلطة بغبار الدمار خارجًا ، دخلت ثم لففت لي والدتي جرح قدمي بعدما أزالت شظية الزجاج وعقمته ، هذا بينما كنت أتناول مصاصتي بنكهة الفراولة مع الدموع والغبار ، لا أذكر كيف كان طعمها ، فالألم في قدمي أنساني أنني آكل مصاصةً أصلًا !.

انتهت أمي فتوجهت إلى غرفتي مسرعةً أقفز على قدمٍ واحدةٍ ، ثم مددت يدي تحت سريري وأمسكت ب “سرّْ”، حملتها ، حضنتها بعدما فتحت غطائها وجلست على فراشي أخبرها بكل شيء ، أخبرتها عن الجدران المحطمة خارجًا ، عن المحال المقفلة ، عن الساحات الفارغة التي تفتقد أولاد الحي وألعابهم ، أخبرتها عن تلك الشظية التي دخلت رجلي وآلمتني مع أنني لم أؤذها ، ثم حدثتها عن أخي ككل يوم وأغلقتها باكيةً ، أغمضت عيناي في محاولة للنوم لكنني لم أستطع من فرط التفكير بأخي.

بالكاد غفوت بعدما جفت عيناي من كثرة البكاء لأستيقظ فجر اليوم التالي على صراخ أمي : قصف دكان العم “أحمد” ؛ تسمرت لحظتها وكأن أطرافي شلّت ، فكل ما كان يفرحني في أزمتي الوخيمة تلك المصاصة الحمراء حين يعطيني إياها العم أحمد مع ابتسامة ، على الرغم من أسنانها المفقودة ، لطالما كانت مفعمة بأمل غدٍ مشرق ، كأنه كان يقول لي بعينيه التي بالكاد أراها خلف زجاجات نظاراته المشعورة، لا تقلقي سيمضي ويزول كل شيء ، ستلتقين بأخيك يومًا ، سيزهر الغد وسيثمر صبرك، ستعيشين شبابك وترين أحلامك تتحقق واحدة تلو الأخرى.

رحل العم احمد و رحلت معه كل آمالي وكأنني فقدت مرهمًا كان يخفف من آلامي ، غريب كيف مضى ذلك اليوم بحزنه وسواده و وحشته ! لا أعلم متى حل الليل كي انتشل “سرّْ” من تحت السرير وأخبرها بألمي ، أخبرتها عن العم احمد ، عن نافذة امل تحطمت وغدٍ مشرق أفلت شمسه ، ثم أخبرتها عن أخي و غفوت على مخدة تبللت بالدموع.

زجاجةٌ بلاستيكية ، قماش أحمر اللون ، عينان سوداوان وصَمْغٌ ، هكذا صنعت صديقتي “سِرّْ”.
كنت كلّما تضايقت أفتح غطاءها ، أحدثها بكل شيء ، أبكي ، ثم أغلق الغطاء وأحضنها قائلة: عذرًا، ملأتك همومًا.

أنا طفلة بعمر السادسة ، الأصغر سنًا بين إخوتي الستة ، خمسة اعرفهم و واحد مجهول الأثر منذ ولادتي ؛ أخبرتني أمي يومًا أنه ذهب للخدمة العسكرية على الحدود ، لم يتصل من وقتها ولم نعرف خبرًا ، ولكنها لطالما كانت تعدني أننا حتمًا سنلتقي به يومًا ما.

أجل هو أخي الذي أفكر به كل يوم ، يا ترى كيف كان ليكون لو أنه بجانبي ، أحقًا هو لطيف بقدر ما تخبرني أمي ؟ لو يطرق الباب الآن ، افتح له ، احضنه حتى تنتهي الحرب ، لو أغفى على ركبتيه ويداعب شعري ، لو احضنه بقوة كي لا تأخذه الحدود مني مجدداً ، لو يطرق الباب فقط ، أنا لا أريد أخًا يجلب لي دميةً بشعرٍ أحمر أو مصاصة حمراء ، أريده هو فقط ، جل ما أردت هو أخي.

أنا طفلة لازمني صوت الرصاص منذ ولادتي ، وُلدت في بلد لا يتحدث إلا بالصواريخ والرصاص والقنابل ، وكأن الأبجدية وجدت عبثًا ، لا أعلم إن كان وجب عليَّ أن أحب بلدي كما يحبه أبي وبعضٌ من إخوتي ، أم اكرهه ككره أمي والبعض الآخر من إخوتي ؟ أصلاً لم يكن من داعٍ للإجابة على ذلك التساؤل حتى صبيحة يوم الثلاثاء.

” أعزاءنا المتابعين أهلاً بكم أينما كنتم ، تتابعوننا في نشرتنا الإخبارية لليوم وفي العناوين : خمسة عشر دولة تفتح باب اللجوء ، فأيها المواطنون أقدموا”.

هذا ما صدر من جهاز الراديو حين شغله والدي صباحًا ، لم أكن اعلم أن موجة الراديو تلك ستقسم أفراد عائلتي هكذا بين مؤيد للسفر و رؤية مستقبل فيه أحلام تتحقق، ومعارض وطني متشبثٍ بأرضه ، هذا ما كانوا يتشاجرون عليه حول جهاز الراديو في المطبخ حتى نهض والدي عن كرسيّه ، ضرب طاولة المائدة بشدّة وصرخ بنبرته العالية : من أراد فليذهب ، أما أنا فــ “وطني ليس حقيبة و أنا لست مسافر”.

توجهت مسرعة إلى غرفتي ، رأيتها وكأنها تنتظرني تحت سريري ، أمسكتها أحدثها ، هل أبقى هنا أم أرحل ؟ ماذا عن أخي لو عاد يسأل ابي “اين اختي”؟ ماذا لو لم استطع رؤية أبي وإخوتي الثلاثة مجددًا ، ماذا عن ذكرياتي هنا في هذا المنزل ؟ أصلاً هي أقرب للكوابيس من الذكريات !.

ثم حسمت قراري..

فبعدما حدثتني أمي وقطعت وعدًا بأن نلتقي بأخي وأبي وإخوتي قريبًا ، حسمت رأيي بالسفر بعدما وضّبت شنطة أحلامي وطموحاتي ، غمرت إخوتي و والدي ، لم أكن ادري لما استغرقت مدة طويلة بغمرهم ، هناك بكيت آخر مرة في المنزل ومضيت مع أمي و إخوتي إلى مركب في البحر كان سيقلنا إلى أرض الأحلام كما وصفتها أمي !.

على متن القارب سألتني أمي ولأول مرة : ماذا ستصبحين حين تكبرين ؟ أجبتها : سأخبرك حين نصل ، سأخبرك بكل شيء.

حمرة الشمس عند غروبها بدت كمآسينا تغرق في البحر، ولكن سرعان ما عقدت حاجبيّ حين رأيت الشمس تغرب وبتعجب خلفه حشرية زائدة سألت أمي : أمي ! لماذا تغرب الشمس ونحن ذاهبين اليها ، كيف سنعرف الطريق ؟.

ابتسمت بأعين تخبئ الحزن على ما مضى وقالت: هي فقط تغرب اليوم كي تمحي ما عشناه ، كي تشرق غدًا شمس جديدة تحقق أحلامك وتجعلك تخبرينني بماذا ستصبحين حين تكبرين.

لكنها لما تبدو لي هكذا ؟ رأيت تلك الحمرة كهدوء ما قبل العاصفة ، لا تمهيدًا لحياة جديدة.

انتظرت الغد بفارغ الصبر، لم أنم حتى رأيت الشمس تشرق من جديد ، وكأن الشمس تلعب معنا “الغمّيضة” (لعبة الاختباء)، حقًّا لا أعلم لماذا تتصرف هكذا!  أشرقت ولكن ليتها لا تزال مختبئة!.

صراخٌ ساد المركب ، كلٌّ متمسك بمن له وتوترٌ يفوق توتّرَ القصف في قريتنا، أسنانهم تصطك خوفًا.

أمي أمسكتني بشدةٍ وجمعت إخوتي حولها ، أحسست بيدها ترتجف حتى لاحظتهم كلهم يرتجفون عدا أمًّا رأيتها جالسة تحمل رضيعها تتمتم ، ربما تدعو الله ولكن لا أعلم لم َ؟ لمَ الكل خائف إلى هذا الحدّ ؟ بقيت داخلةً في صدمتي حتى بدأت قدماي تبتلان ماءً شيئًا فشيئًا ، عندها، وكأن الكل استسلم خاضعًا ، اختفت الأصوات، اختفت تلك الأم و رضيعها ، و يد أمّي التي كانت تمسكني بإحكام بدأت تفلت من يدي وتفارقني.

جرح قدمي الذي لففته أمي بدأ يؤلمني مع أنّه يلامس الماء وليس الملح ، هل ثمة أحداً وضع املح في البحر؟.

شيئًا فشيئًا أصبح جسمي كله تحت الماء ، فرحت ، ظننت أنني سأتنفس مثل السمكة ، سأسبح وأسبح ، لكنني حين حاولت التنفس كأنّ ماءً كثيرًا دخل أنفي ، أردت أن أسأل أمي كيف أتنفس مثل السمكة لكنني لم أجدها ! حاولت أن اصرخ ” أمّي” ولكن لم يصدر أي صوت !.

نظرت فوقي بعينين بالكاد مفتوحتين حتى رأيت فقاعات تتصاعد إلى الأعلى ، لربما وصلت أرض الأحلام التي حدثتني عنها أمي !.

النظر إلى تلك الفقاعات أودى بناظريّ الى شيء أحمر اللون يطفو سرعان ما أدركت أنها “سرّْ”، لماذا تبتعد عني؟ لما لا تريدني ؟ لما لا تنقذني ؟ هل سئمت من همومي؟ خمّنت أنني ، كما يقولون، أموت ، هذا حينما بدأت سرّ تختفي فأدركت أنني أسقط ، ثم للحظة أغمي عليّ واستسلمت حين ، ولأول مرة كنت ابتعد عن لوني المفضل: الأحمر.

كأن البحر حينها فتح صفحة جديدة ، غرقنا نحن واختفى كل شيء ، لم يبقَ من شيء يطفو سوى سرّ.

لا أعلم كيف استطاعت أن تنجو ، ربما همومي التي حشوتها فيها كانت أثقل من الماء فطافت ، أو ربما لم تود أن تبقى بجانبي كي لا أخبرها بهموم اكثر بعد ، حسنًا ، فلتنجو ، فلتصل إلى تلك البلاد وتخبر أولادها عن قصتي ، فلتخبرهم عن دراجتي الهوائية التي رسمتها بقلم الكلس على جدارغرفتي ، فلتخبرهم كيف ركبتها بخيالي ومضيت بها إلى المدرسة ، فلتخبرهم عن كل مأساةٍ أخبرتها بها ، عن العم أحمد كيف رحل ، عن أخي الذي ما التقيت به طيلة حياتي ، فلتخبرهم عن فرحي بأبسط الأشياء ، عن مصاصة حمراء كانت تنسيني كل شيء ، فلتخبر أمي أن رأتها عن حلمي بأن أصبح رئيسة لجمعية تلمّ الشظايا عن الأرض فحقاً أنها تؤلم الأطفال ، أخبريهم بكل شيء ولكن أرجو ألّا تفشي سرّي وتخبريهم أنني أكره الرّئيس ، أخاف أن يفعلوا لنا شيئاً.

“مركب يحمل لاجئين يغرق قرابة السا…” هذا آخر ما تلفظ به جهاز الراديو قرب أبي الذي كان في المطبخ عندما قُصف المنزل وتحطم كل شيء ، غرفتي، جداري ، ودراجتي الهوائية.

أخي ، كأنه استسلم للعدو حين سمع الأخبار وسط رفاقه وغزا جسده الرصاص أثناء خدمته.

أخبرني بهذا لما التقينا فيما بعد في أرض الأحلام هنا ! أخبرني بهذا وهو يقف بجانب العم أحمد حاملاً مصاصة حمراء ، لطافته فاقت وصف أمي التي صدقت بوعدها والتقينا عما كان قريب !.

النهاية …..

تاريخ النشر : 2020-05-07

guest
41 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى