أدب الرعب والعام

سيرينا

بقلم : أحمد محمود شرقاوي – مصر
للتواصل : [email protected]

تطلعت في عينيها فراودني إحساس أنها كفيفة لا ترى
تطلعت في عينيها فراودني إحساس أنها كفيفة لا ترى

انتفضت من نومي على صياح سيدي وهو يصرخ منادياً بإسمي.
أماندا..
أماندا..
استيقظي أيتها الكسولة ، لقد تأخرنا كثيراً.

نهضت مسرعة من على الأرض وارتديت ملابسي البالية وانطلقت ناحيته وأنا اعتذر كثيراً ، نظر لي نظرة غاضبة وهو يسبني بألفاظ نابية ، قبل أن يقول:
– هيا اذهبي وجهزي القارب سريعاً.

خرجت من البيت الخشبي مهرولة ناحية القارب المربوط بحبل في الكوخ الخشبي المطل على المياه وحللت عقدة القارب و وضعت به شبكة الصيد و وقفت انتظر سيدي.

تأملت تلك القرية بأعين حزينة وأنا أتذكر تلك الليلة البائسة التي هوجمت قريتنا فيها من قِبل ملثمين ، هؤلاء الذين لم يرحموا أحداً وقاموا بإشعال النار في القرية بأكملها وأسر الكثير من الفتيات لبيعهن في أسواق الرقيق ، لقيت من الذل والهوان في تلك الأيام ما لم ألقاه في حياتي ، اعتداءات جنسية وتعذيب ، ضرب وإهانة وحبس في الأقفاص كما الحيوانات ، حتى اشتراني هذا الرجل الذي أخدم عنده الأن ، كان يبدو للوهلة الأولى طيباً ،

رقيقاً ، دفع مبلغاً كبيراً ليحصل عليّ ، وما إن أصبحت ملكه حتى عدنا إلى هذا المكان ، وكم كنت مصدومة وقتها  فالقرية كلها تطل على المياه  لا يمكن التنقل إلا بواسطة القوارب ، مجرد قرية خربة عبارة عن أكواخ خشبية والكثير من المياه القذرة ، وما علمته لاحقاً أن مصدر رزق هؤلاء هو الصيد فقط ، لذا فقد عملت مع سيدي في مهنة الصيد ، نذهب يومياً بواسطة القارب إلى البحر الضبابي لنصطاد ثم نرجع إلى السوق ونبيع ما اصطدناه ثم نعود للكوخ لننام ، حياة بائسة ، صعبة ، لم أتخيل قط أنني قد أحياها يوماً ولا في أبشع أحلامي.

 
أفقت من شرودي على صفعة قوية على وجهي من سيدي وهو يصيح بصوته الخشن من أثر شرب الخمر:
– هيا أيتها الشاردة سنتأخر.
وعلى الفور قفزت إلى القارب وأمسكت المجداف و رحت اضرب به المياه في قوة ، كان متذمراً كالعادة ينظر إلي بغضب.

لم يرحمني يوماً ولم يفعل أبداً ، نظرت إلى السماء, و أنا أناجي الرب أن يرحمني مما أنا فيه ، وصلنا إلى حدود البحر الضبابي و راح القارب يخترق مياهه الثقيلة في هدوء شديد ، كانت الغيوم كثيرة وقد حجبت أشعة الشمس فجعلت الجو كئيباً ، مقبضاً ، مخيفاً.

غيوم سوداء  مظلمة  تكاد أن تنهمر منها الأمطار ، فتجعل يومنا صعباً جداً ، أتذكر هذا اليوم حينما أمطرت علينا ونحن نصطاد ، فما كان من هذا الملعون إلا أن جعلني أنزع لباسي كله ليختبئ هو من مياه الأمطار وأبقى أنا انتفض من البرد ، ولم ينتهي الأمر وقتها بل زاد بإصابتي بنزلة برد شديدة كادت أن تقتلني ، أما هو فرفض أن يتركني بالكوخ وطردني خارجه لأنام إلا على لوح خشبي ، ليلة كاملة رأيت فيها ما لم أراه بحياتي من الألم والعذاب والبرد ، حتى قبِل عودتي في اليوم التالي حينما علم أنني قادرة على العمل.

سمعت صوته الغليظ يقول:
– هيا ثبتي القارب وألقي بالشباك لعلنا نصطاد شيئاً يا صاحبة الوجه القبيح.
وهذا ما يناديني به دوماً ، القيت بالمرساة الصغيرة فتوقف القارب ثم طوحت بالشباك ونصبت الفخ الصغير للأسماك لعلها تعلق بالشباك.

وجلسنا ننتظر ، بالطبع أنا أنظر أرضاً لا أقدر على رفع عيناي ناحيته ، أما هو فكان ينظر إلي في غلظة وغضب كعادته ، نظرت له وابتسمت له في رقة محاولة أن أتودد له حتى لا ينتهي يومي بمجموعة من اللكمات والصفعات وقلت :
– ألن تتزوج يا سيدي فأنت وسيم وكل فتيات القرية يتمنين لو تزوجت أحداهن ؟.
وبالفعل لامست كلماتي غروره وأجاب في سخرية:
– وهل سيكفي الكوخ ثلاثتنا ؟.
اقتربت منه في هدوء و أنا ابتسم له وقلت:
– نبني غرفة صغير تتصل بالكوخ من الخلف وتكون مبيتاً لي وتبقى أنت و زوجتك في الكوخ .
كنت أقولها في لهفة لعله يوافق فيرحمني من النوم على الأرض أسفل قدميه ، ولكنه كان شديد الذكاء حينما لمح لهفتي فقال:
– هل تظنين أن فتاة لم تتخطى السابعة عشر سوف تخدعني ؟.
نظرت اليه بحذر وخوف و أنا أقول:
– ماذا تقصد يا سيدي ؟.
وهنا لم يمهلني وصفعني على وجهي فتأوهت متألمة ليرتج القارب وأسقط في المياه.
 
سقطت في المياه وأنا أصيح وأضرب بذراعي الماء القذر وهو يضحك بشدة ثم مد يده وأمسكني من شعري وجذبني ناحية القارب وهو يقول:
– تريدين أن ابني لك غرفة خلف البيت الخشبي ، تريدين أن ترثيني وأنا حياً ؟.
بكيت بحرقة وأنا أقول :
– لم أقصد هذا يا سيدي ، أنا فقط متعبة من النوم على الأرض في الكوخ.
– أتعرفين شيئاً يا ذات الوجه القبيح ؟ سوف أطردك حينما نعود ولن أجعلك ترثيني أبداً ، فأنا أعرف أنني حينما أموت أنتِ من سيرث القارب والبيت ، ولكني سأبيعهما لأحدهما بضمان حياتي ، حتى لا تحصلين على شيئاً بعد موتي.
وهنا اهتزت الشباك فصرخ بصوتٍ عال:
– مرحى ، لقد جاء السمك ، هيا اسحبي الشباك.
 
سحبت الشباك وكانت قد علقت بها الكثير من الأسماك ، رحت اجذبها وأضعها في الحاوية الصغيرة على القارب ، وما إن فرغت من جمع الأسماك العالقة حتى القيت بالشباك من جديد ، وهنا أخرج سيدي زجاجة خمر و راح يتجرع منها وهو يبتسم ويدندن.
” مرحباً بك أيتها المرأة الأرستقراطية “.
” مرحبا بكِ آيتها العاهرة الايرلندية “.
كان يتجرع من زجاجته في نهم و أنا أتابعه خائفة ، فهو كلما تجرع من زجاجته كلما زاد الضرب والبطش ، وتغيرت نبرة صوته بعد دقائق ، حينها عرفت أنه قد شرب حتى الثمالة ،

وهنا تحدث إلي قائلاً:

– لقد كبر جسدك بطريقة مثيرة أيتها الفتاة.
نظرت له بخوف ، فتابع هو:
– هل اعتديت عليك يوماً آيتها الفتاة ؟.
أجبته بخوف :
– لا ، لم يحدث يا سيدي فأنت رجل شهم كما أعرفك.
ضحك ضحكة مجلجلة وسط الضباب الذي انتشر كثيراً من حولنا وقال:
– حسناً أنا لن أكون شهماً اليوم ، هيا اقتربي مني.
نظرت له فزعة و أنا استعطفه أن يكف عن هذا ، ولكنه صاح بي قائلاً:
– إما أن تقتربي أو القي بك من المياه لتغرقين.
وهنا بكيت بحرقة وحاولت أن استعطفه ثانيةً ولكنه لم يبالي ، جذبني اليه و راح يضع يديه على جسدي ويمزق ثيابي في قوة و….
 
هنا اهتزت الشباك بعنف شديد مما جعل القارب يترنح وكاد أن ينقلب بنا ، نظرت بخوف إلى الشباك وأنا انتفض مما يحدث ، أما هو فقد صفق بيديه وهو يصيح ، مرحى إنها سمكة كبيرة جداً ، لحظات من الترقب ثم اهتزت الشباك بعنف تلك المرأة ، وهنا صرخ سيدي.
– اجذبي الشباك آيتها العاهرة.

وجذبنا الشباك بكل قوة ، كان الشيء ثقيلاً ، قوياً بحق ، كان يجذب الشباك إلى الأسفل بقوة بينما نحن ننازع لجذبه إلى الخارج ، وظهر الذيل ، كان ذيل سمكة كبيرة ، كان الرجل يصرخ في هيستريا وهو يقول:
– سمكة كبيرة ، سمكة كبيرة.
جذبنا بقوة بينما هو أمسك المجداف و راح يضربها بكل قوته ، ولكن الذيل كان قوياً جداً و كان يتحرك بعشوائية شديدة ، وجذبنا أكثر وأكثر ، وظهر ما جعلني أشهق في فزع ما بعده فزع ، لقد كانت رأس امرأة بجسد سمكة كبيرة ، كان شيئاً خارج عن المألوف ، مفزعاً بشدة ، تركنا الشباك من الرعب فتحرر هذا الشيء و راح يسبح من حولنا.
 
أما هو فقد اتسعت عينيه و راح يردد في دهشة.
” سيرينا “.
” سيرينا “.
تحدثت في اضطراب شديد وقلت :
– ومن تكون تلك ؟.
أجابني وهو ينظر للمياه في ذهول:
– جنية البحر ، إنها حقيقية ، أتعرفين ؟ لو اصطدناها فسوف نجني ثروة كاملة.
نظرت له مرتعبة وقلت :
– أرجوك فلنرحل من هنا.
نظر إلي وكأنه لا يراني و راح يردد.
” ثروة “.
” ثروة “.

وهنا أزاح الغطاء المهترئ وأزاح غطاء قاعدة القارب وأخرج رمحاً وسكيناً.
شهقت وانزويت على نفسي وأنا أراه يقف على حافة القارب وهو يتابع تلك المياه المضطربة التي تدل على مكان الجنية.
 
ثم وبكل ما أوتي من قوة اطلق رمحه ناحية هذا المكان ، وارتفعت في المكان صوت حشرجة غريبة ، ثم ظهر الرمح وهو يتحرك في عشوائية بعد أن اخترق جسداً ما ، رفع المرساة سريعاً و راح سيدي يضرب الماء بالمجداف ليتحرك ناحية الرمح حتى وصل له  ثم أمسكه ونزعه بقوة ، كل هذا وأنا أراقب ما يحدث في رعب منكمشة على نفسي و أنا انتفض.
 
نظر سيدي إلى الرمح فلم يجد أثار دماء ، تعجب كثيراً و راح يدور حول نفسه لعله يحدد مكان الجنية من جديد.
و فجأة ضرب جسد القارب بقوة من الأسفل جعل سيدي يطير في الهواء ثم يسقط في قلب المياه.
انتفضت في مكاني وأنا أرى ما يحدث بأعين زائغة ، سرعان ما راح يضرب المياه بذراعيه وهو يناديني أن أنجده.
نهضت من مجلسي وتحركت بالقارب ناحيته حتى و صلت اليه ، أمسك بذراعه حافة القارب و…
 
وفجأة صرخة صرخة مفزعة وأخذ جسده يتشنج وينتفض ، نظرت له وهو متعلق بالقارب فرأيت الدماء تنزل من جسده بغزارة ، وسمعت صوت تمزق وتحطم ، كل هذا وهو متعلق بذراعه في حافة القارب ويصرخ بكل ما يملك من صوت ، ثم رأيت المرأة وهي تخرج من أسفل المياه وتعض بأسنان حادة بطنه حتى تمزقها تماماً ، ظلت تمزق بأسنانها بطنه وهو يصرخ والدماء تنزف منه حتى فصلت جسده إلى نصفين ، نصف متعلق بالقارب ونصف قد غرق مع المياه.
 
نظرت في ذهول إلى عينيه فوجدتهما يتحركان في عشوائية و رعب ثم أغلقهما للأبد.
وهنا تراجعت وانزويت على نفسي وأنا أتوسل إلى الخالق أن ينجيني ، وفي لحظة واحدة قفزت المرأة إلى القارب و وقفت في منتصفه تحملق فيّ بثبات مرعب ، كانت عينيها واسعة بيضاء تماماً ، جاحظة كأعين الأسماك ، رأسها يشبه النساء كثيراً ، أما جسدها فكان جسد سمكة عملاقة ، كنت انتفض في مكاني وانتفض ، وهي تقف وتحملق بي في ثبات مخيف ، تطلعت في عينيها فراودني إحساس أنها كفيفة لا ترى ، لذا فقد كتمت أنفاسي وظللت انتفض في صمت.
 
لحظات وقفزت في المياه ثم ابتعدت تماماً ، بقيت أنتظر وأنتظر لساعة كاملة ثم وما إن تمالكت نفسي حتى انطلقت بأسرع ما يمكنني عائدة إلى القرية.
 
ها أنا قد عدت ولا أعرف كيف ، وها أنا قد ورثت القارب والبيت بعد أن قال صاحبهما أنني لن أملكهما مطلقاً ، لقد حاولت إنقاذك ولكن يبدو أنك استحققت هذا.
أتمنى أن تستريح روحك بالجحيم.

…………………………………………
سيرينا : منقول فقط لمعرفة أصل الأسطورة.
 
كانت فتاة إسمها (سيرينا) في مدينة أغانا بالقرب من نهر Minondo ( في تايمز الإسبانية القديمة في مكان ما بين 1565-1898).

سيرينا كانت تحب السباحة وكانت تنتهز أي فرصة كي تسبح في البحر أو في نهر Minondo يوم واحد ، طلبت والدة سيرينا منها أن تجمع بعض قشور جوز الهند لإشعال النار ، و بدلاً من أن تجمع قشور جوز الهند ذهبت إلى النهر للسباحة ، وعندما تأخرت سيرينا بدأت أمها وعرابتها في البحث عن سيرينا ، و وجدتاها تسبح في النهر دون اهتمام ، فغضبت والدة سيرينا غضباً شديداً وأخدت تلعنها قائلة : إذا كنت تحبين السباحة كثيراً هكذا فلتصبحي سمكة .

شعرت العرابة بالرعب من حدوث تلك اللعنة ، وبالفعل بدأت سيرينا بالتحول إلى سمكه .
ولكن العرابة استطاعت أن تخفف تلك اللعنة وجعلت الجزء العلوي لها بشري بينما أطرافها السفلية بدأت تتحول إلى ذيل سمكة ، وتحولت سيرينا إلى حورية بحر كاملة.
والدة سيرينا ندمت كثيراً على لعنتها ، ولكن تحققت اللعنة على الرغم من أسفها ، وستستمر هذه اللعنة إلى الأبد.

ودعت سيرينا أمها والعرابة بالدموع وخرجت من النهر إلى المحيط الهادئ.
وتقول الروايات أن البحارة يشاهدون حورية البحر سيرينا حتى يومنا هذا .

وأنه لا يمكن القبض عليها إلا باستعمال شبكة من الشعر البشري ، والشيء المثير للاهتمام حول هذه الأسطورة هو أن منزل سيرينا الذي عاشت فيه ما زال موجوداً على النهر هناك ، حتى شب حريق في عام 1980، ولكن ما زال الناس هناك يذهبون اليه.

وهناك أيضاً تمثال لسيرينا بالقرب من منزلها ، وقد تم بناء التمثال في أوائل 1980 م ، وأيضاً هناك صور لسيرينا على كرات الغولف يمكن شراؤها من متاجر الهدايا أو من شبكة الأنترنت.
……………..
 
 
أعمالي الورقية متاحة الأن.
رواية إن الله سيبطله ، تتحدث عن إبطال كل شهوات الجسد من خلال رحلة مميتة.
و رواية حتى زرتم المقابر ، تتحدث عن زيارة القبور وحدوث كوارث بسبب هذا الأمر.
……………………………..
 
سلسلة نساء مخيفات متاحة الأن  فقط اكتب على جوجل ” تحميل رواية نساء مخيفات “
 
 

تاريخ النشر : 2020-07-10

guest
7 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى