أدب الرعب والعام

سيناريو

بقلم : ايناس عادل مهنا – سوريا
للتواصل : [email protected]

أصبحت مصطبغة باللون الأسود و جثةٌ تتنفس بلا روحٍ أمام الآلة
أصبحت مصطبغة باللون الأسود و جثةٌ تتنفس بلا روحٍ أمام الآلة

 لا تنظري إلى السماء يا صغيرتي فلن تبكِ لأجلك .

بآخر هذا الزقاق الضيق يقبع منزلك المتهالك ذا الجدران المبنية من الطوب ، تتلصص أشعة شمس حزيران الحارقة من نافذة غرفتك كلصٍ خجول لتنير عتمة بقايا قلبكِ المظلم ، وها أنت ذا تتطلعين في مرآتك العتيقة بنظرات خاوية الملامح ، الكحل الأسود يرتسم بخط عريض فوق جفنيكِ محدداً مسارات اقتادوكِ عليها مرغمة ، و دموعكِ حبيسة زنزانةٍ صدئةٍ تنذر بالثوران ، و فمٌ كرزيٌ يجاهدُ لرسم ابتسامة نهايتها الهلاك ، سيكون اليوم مميز جدًا بالنسبة إليكِ ، هذا ما أقنعوكِ فيه أو أوقعوكِ داخله ! بشرتكِ و رغم تلك المساحيق ذابلة ، جسدكِ الأبيضُ فارقته الروح منذ زمن ، ومن خلفك تلك العجوز السبعينية تحدق بتفاصيلك بازدراء وهي ترتشف من كوب العصير بشفتيها المترهلتين المجعدتين ، تحاولينَ تجاهل نظراتها المتفحصة قدر الإمكان وهي تتمتم بتململ لجارتها : ليرحمنا الله على بنات هذا الجيل ، لا يعجبهن شيء ! في زماننا كانت البنت تذوب خجلاً في مثل هذا اليوم” فتومئ الأخرى مؤيدة كلامها وهي تلوي شفاهها بامتعاض .

تقرصكِ إحدى بنات الجيران من ساعدك مقهقهه فتتأوهين ألماً ، تصرخ بمرح وهي تحمل الكاميرا لتصويرك :
– وقعتي على دلوٍ من ذهب … يا لحظك .
تنظرين إليها و تواجهيها بجمودٍ ثم تهزين رأسكِ وضحكة ساخرة ترتسم على شفاهك :
– نعم، لضخامته أصبح قبراً من الثروة .
– كفاكِ تذمراً و ابتسمي .
* كليييك *
 
******

مراهقة جميلة كنتِ ، تنظرين إلى واجهة هذا المكتب الكبير ثم تخطين داخله .
بضفيرتين ناعمتين تنسدلان فوق كتفيكِ ، ببذلة المدرسة المتوسطة وكلماتٍ خجولة تنطقين بها لهذا الشاب الذي اتسعت ابتسامته فور دخولك :
– أريد أربع صور للمدرسةِ رجاءً .
يتقدم منكِ بخطى ثابتة وعينين تعرفان معنى الجمال المتجسد أمامه ، يقول بافتتان :
– تفضلي من هنا ، آنستي الصغيرة .
تحدقينه بنظرة استنكار ، فأنت لست صغيرة البتة ، ها قد أكملت الخمسة عشر ربيعاً منذ شهرٍ كامل وأصبحتِ كما تقول والدتكِ دائماً ” عروسٌ تنتظر النصيب”.

تتوقفين في مكانك استعداداً و خلفك الخلفية البيضاء ، يتقدم منكِ لتصحيح جلستك ويرفع وجهكِ بأنامله ، رعشةٌ خفيفةٌ تنتاب جسدكِ عندما تتقابل نظراتكما لبرهة ، عيناه بلون العسل المُصفّی ، أما عينيكِ الواسعتان فيذوب فيهما من اللحظة الأولى كمن وقع ببئرٍ عميقٍ من السكر ، لا يدري هل يستلذ به أم يهرول خارجاً خشية الغرق ، ثم يتنحنح ارتباكاً ويهرب إلى عدسته ، يخفي وجهه و تنهيدةٌ عميقةٌ خلفها ويقول : ابتسمي ….
 
*كليييك*
 
*******

بعد يومين كاملين تذهبين إليه ، تتوقفين على بعد عدة أمتار من مكتبه وبحركةٍ تلقائية تفضين الضفيرتين لينساب شعركِ الطويل المجعد على كتفيكِ كشلال من النبيذ الأحمر لا تدرين سبباً لفعلتك ولا تهتمين لمعرفة الأسباب فهي لن تفيد بشيء ، فور دخولك تسري كهرباء لذيذة بجسده فينتفض واقفاً ليجيب :
– صوركِ جاهزة آنستي .
يسلمكِ المظروف بعد أن أخفى نسخةً خامسةً يحتفظ بها في قلبه قبل محفظته ، تتفرجين على الصور و تبتسمين :
– شكراً ، إنها جميلة.
يقول في سره : الجمال هو من يتجسد أمامي الآن ، في حين تنطق شفاهه بإجابتك : عفواً .

تتحركُ أصابعه فوق طاولة المكتب ويطرقها بتوتر، قبل أن يباغتكِ بكلماته : بالمناسبة إسمي آدم ، أعمل كذلك مصور أعراس إن رغبتِ في أن ……
تنقدينه أمواله مقاطعةً سيل كلماته الجارف: لا أظننا نحتاج مصوراً لأعراسنا أيها السيد ، عن إذنك .
تفتحين باب المكتب لتخرجي ، لكنه يسبق خطواتكِ الصغيرة ويغلقه بيده ، ينظر إلى عينيكِ الواسعتين ويقول بثقةٍ كبيرة :
– ستكون من التقاط يدي أول صورة لكِ … . في فستانكِ الأبيض يوم زفافك ، لن أسمح لأحد غيري بتصوريك هذا وعدٌ مني.
 
******
 
بجانبكِ مباشرةً صراخ الرضيع يتلوى حزناً على مآلك وأختكِ الكبرى تغني له لإسكاته بيأس ، ترتسمُ ابتسامة سخريةٍ أخرى ، تحاولين و أد أحاديث نساء الحي من حولك ، ولا تفقهين سببا ً لانحشارهن بغرفتكِ الضيقة الآن ! تتحاشينهن و تعاودين النظر عبر المرآة إلى اللا مكان ، يا إله السموات كم تغيرت ملامح هذا الوجه ! كانت المرآة أمامك لكنكِ لم تكوني موجودة بداخلها ، انفصلتِ عن واقعكِ و حلقتي بعيداً إليه .
إلى آدم….

لآخر مرة تقابلتما فيها عند المحطة ، شفاهه تنطق بألف عذر وسبب ونظراتك ترتكز على وجهه المضطرب و يديه المرتعشتين ، كان يائساً تعيساً ومحبطاً ، استطالت ذقنه وتبعثرت خصلات شعره الأسود و رائحة التبغ المنبثقة من فيه تكاد تسحق جميع من حوله ، كان صامتاً صمت الجبال وبعينيه العسليتين ينظر إلى الخواء أمامه ، أولستِ أنتِ الخواء الآن بالنسبة إليه ! أوليس البشر من حوله جميعهم خواءٌ بهذه اللحظة ؟.

يقبض على حقيبةٍ سوداء والقطار خلفه أصبح نافذة انطلاقه للعالم الواسع بعد أن سحقه والدكِ بقرارات رفضه المتكرر بحجة الفقر .

الصمت بينكما يصرخ بعنف ، والسماء ستبكي ،
حتماً ستبكي على حالكما الآن ، هذا ما كنتِ تشاهدينه دائماً في الأفلام ، لحظة وداع عاشقين تحت حبيبات المطر المتساقط ، كم هي نهايةٌ دراميةٌ رومانسيةٌ حزينة.

ترفعين رأسكِ إلى السماء ، لكنها صافية !
تتساءلين بخوف : أيعقل أن السماء لا تشعر بتلك النار التي تحرق فؤادي من الداخل ؟ نعم يا عزيزتي – لا تشعر – وكل من حولكِ لا يشعرون ، أهلا بكِ إلى أرض الواقع حيث تتحطم الأحلام والآمال وتتبعثر إلى أشلاء صغيرة.
تغمضين عينيكِ وتناجينها بخفوت وتوسل ” اهطلي لتطفئي لهيب الجحيم الذي يحرق فؤادي “.
وانكفأت نظراتكِ ترتكز عليه ، على صدره الذي راح يطلق تنهيداتٍ عميقةٍ متلاحقة ، تنتظرين منه أن ينتشلكِ ويهرب بكِ بعيدًا نحو الأفق ، لكنه الآن جامدٌ كالحجارة الصماء ، يتملكه الغضب أكثر من الحزن ويفجع قلبه أن يترككِ وحيدةً و يرحل لكن ما من خيارٍ آخر ، يريدون الأموال وها هو ذا سيسافر لجنيها.

تعلقت عيناه على وجنتكِ التي تعلوها زرقةٌ طفيفة ، تلمسها قائلاً بعجز : ضربكِ مجدداً ؟.
فتصمتين لأن الإجابة واضحةٌ لكليكما ، تمردتِ على عاداتك متجاهلة كل من حولك وارتميتِ على صدره ، شعرتِ بتشنجِ أطرافه حين أفلت الحقيبة لتسقط أرضاً .

– لا تصعبي الأمر رجاءً ، يهمس آدم برجاء ، بإشفاق ، بيأس ، بتوسلك متجاهلاً تمتمات الاستنكار خلفه وحوله ، لكنك تعلقت به أكثر ، حار بأمره من عذابك وظلت يده معلقة في الهواء ، يشيح ببصره عنكِ محارباً ضعفه وعجزه في الانقيادِ نحوكِ من جديد ، تحركت يده بتلقائية رافضة أوامر عقله ، فطبطب بألمٍ على كتفيكِ مواسياً لك ولربما مواسياً نفسه ، تعلقتِ بقميصه أكثر ، أطلقتِ العنان لدموعٍ التهبت في مقلتيكِ : لا تتركني رجاءً .

لن يستطيع صبراً على فراقك هو موقنٌ من حتمية الأمر وموقنٌ من هلاكه بعيداً عنكِ ، وموقن كذلك من هلاككِ على يدي والدكِ و أنتِ قريبةٌ منه ، دوامةٌ بشعةٌ جداً غرقتما فيها لا سبيل للخروج منها سوى هروبه .

– سأموت بابتعادكَ عني” تقولينها وتتوسلين مجدداً ، أما هو فتمردت يده الثانية ، حاوطكِ بين ذراعيه بعنفٍ وشوق ، كلعبةٍ صغيرةٍ ضعتِ بين يديه ، وهمسَ لكِ بصوتٍ شبه موءود :  كنتِ حلماً جميلاً جداً فيما مضى لكنه بات صعب المنال ،

رفعتِ بصركِ تجاهه ، تنتظرين منه أن يبوح بالمزيد، فهاتان العينان تحملان مئات الأسرار كصندوق الخبايا ، لكنه اكتفى بالصمتِ والوجوم ، بعد صراعٍ بين قلبه وعقله حرر جسدكِ من قيد يديه اليائستين مطلقاً سراحك و انتظركِ حتى تبتعدين عنه ببطء ، و ها قد انسلختِ عن صدره أخيراً ، تتأملين قميصه الأبيض الذي تلطخ بدموعِ الرحيل ، مسحَ آخر دمعةٍ من عينيكِ بيديه المرتجفتين ثم همسَ بخفوت : آسف ، ما كان الذنب ذنبي..”

لم يكن ذنب أحد منكما،  سوى أن الحياة أرادت أن تلعب وكنتما تسليتها الوحيدة.

قبض آدم على يدكِ الرقيقة المستقرة على صدره ، رفعها إليه ولثمها قبلة انكسار، اشتم عبيرها لآخر مرة قائلاً : لربما أعود وحينها سأكونُ رجلاً آخر ، لن يستطيعوا رفضي.

– سأنتظركَ حتى نهاية الزمان .
تجيبينه بثقة عمياء وكأنكِ المسئولة الوحيدة عن تحديد مصيرك ، شعرَ براحةٍ طفيفةٍ كاذبة لوعدٍ واهن هو موقن من انعدام تحقيقه ثم حمل حقيبته وخطى راحلاً ، ابتلعه باب القطار ليهربَ إلى البعيد ، ترككِ وحولكِ مئات البشر يسيرون بجنون ، وتوقف الزمان بكِ عند هذه اللحظة ، لحظةُ وداعٍ في المحطة .

يصلح بامتياز أن يكون اسم فيلم لن يشاهده سوى من هم في مثل وضعك وسنك من عشاق الدراما والرومانسية الحالمة.

وها أنتِ ذا تصورين فيلمك الخاص بطريقةٍ دراميةٍ مفجعة ، تدوي صفارة القطار ليعدو بعيدًا عنكِ فتركضين نحو نافذته .

بومها شاركتِ البشر رقصتهم المجنونة في العدو ، كنتِ تركضين بقوة وسرعة لتجاري ابتعاده وكأن مئات الشياطين يتراكضون للظفر بك .
و رحل آدم .
أصبح نقطةً صغيرةً جداً اختفت في الأفق فوق السكة الحديدية لحظة الغسق ، و ها قد كتبت النهاية بخط عريض جدًا ، كي تقرئيها ، كي تتأكدي من مصداقيتها و وضوحها كوضوح شمس النهار .
لقد رحل فعلاً .

تركتِ الكون الواسع ورائك وعبرت داخل الزقاق الضيق بقدمين لا تقويان على المسير ، تتلمسين حيطان حارتكِ العتيقة المهترئة و تدخلين المنزل الذي كرهت جدرانه وساكنيه و رائحة العطن المنبثقة من أثاثه ، ألقيتِ نظرةً عابرة تجاه والدك ، فرعون هذا الدار والقوة المسيطرة على مجتمعكم المكون من ثلاث فتياتٍ أو عقبات ، و والدتكِ السلبية بكل قول وفعل ، تجلس مكسورة الجناح تحت قدمي الفرعون الأعظم.

صرخ بحدةٍ وعنفٍ وهو يسحقُ شعركِ تحت وطئ قبضته الغليظة : أين كنتِ يا فاجرة .
ترفعين رأسك بيأس بعيون قد أسكرها البكاء وتتجاهلين غضبه الجامح ولأول مرة ٍلا يقوم بضربك، بل يقوم باعتصار تلك الورقة الصغيرة بين يديه ويرميها أرضاً ، آخر رسائل آدم قبل الرحيل تمزقت وانسحقت الآن كروحك تماماً ، ابتسم والدك بانتصار فها قد نجح في إبعاد آدم عن روحه ، توجهتي مباشرة ناحية غرفتك ، موطنكِ الصغير الدافئ الذي يخبئ ملايين الأسرار بات الآن كقبرٍ باردٍ موحش الأركان ، ارتميتِ على السرير تنتحبين كأمٍ ثكلى تندبين على حُبٍ دام لأربع سنواتٍ كاملة ، أربع سنوات تجرعتِ فيهما لذة العشق لأول شاب يطرق باب قلبكِ الصغير، ويطرق باب منزلك الكبير تأكيداً على صدق نواياه ومشاعره ليرفض والدكِ مطلبه بكل قسوةٍ وتجبر، مرة واثنتان و ثلاث.
– لا نحتاج من يزيد فقرنا وبؤسنا ، تستحقين الأفضل والأغنى.

يقولها بأمر لينهي قصة حب حالمة طموحة جامحة ، لكنكِ لا تستسلمين ، شرعتِ تقابلينه سراً في الانعطافة التي بنهايةِ الزقاق ، يتأججُ لهيب الشوق في قلبكِ الذي بدأ بالنضوجِ على يديه ، يسترقُ من وجنتيك قبلةً شقية خجولة من حينٍ لآخر ويعدكِ بمستقبل جيد لكليكما ، وفي آخر لقاءٍ معه  يكتشف مخبأكِ الفرعون الأعظم – والدك –  فتتعاظم الكارثة بآلامٍ روحيةٍ وجسدية تهطلُ كأمطار آذار على جسدكِ الهش فيتلون بعدها بألوان قوس قزح الدامية ، يفصلكِ عن العالم والدراسة والأصحاب ، تثورين وتهمدين كنيرانِ حرائق الغابات ، تنتحبين وتثورين مجدداً ، لكن بلا فائدة ، ففي رسالة آدم التي عبرت إليكِ عن طريق أختك الكبرى ، ذلك اليوم ، تفضنها بلهفة وشوق و تقرئين المكتوب لتصاب أطرافك بشلل الفاجعة، تصرخين بعنفٍ راميةً الورقة على الأرض ورامية كل ما ورائكِ وتركضين للحاق به ……نحو المحطة.

آسفٌ على حبٍ كان مآله الفناء ….
سأسافر اليوم عند الساعة الخامسة مساءً ، هرباً من كل شيء.
آدم ….

*****

ليلة رحيله غفوتِ على أنغام تكات الساعة المتزامن مع شهيقكِ المكتوم و رحتي بسبات عميق لربما لساعات ، لربما لأيام ، لربما لعدة أشهر فلم تعودي قادرةً على احتساب الزمان ، تقفين على حافة الهاوية ، على خيطٍ رفيع جدًا بين الحياة والموت ، تصرخين وما من مجيب، تحلمين ، وفي كل مرة ترحلين إليه ، لصدره الدافئ ونظراته العميقة ، ويقول لك في كل لقاء : سأعود أميرتي … ولأجلك.
وها هو قد عاد ، تركضين إليه بشوق وتصرخين :
– كنت أعرف ، كنت موقنة من عودتك .

يطرق باب غرفتكِ بعنف فتنتفضين بفزع ، لتعرفي أنكِ على أرض الواقع مجددًا حيث الأحلام مبعثرة كأشلاء كيانٍ على قارعة الطريق.

– حتى حلاوة الأحلام قررتم حرماني منها . تقولينها بغضبٍ لوالدتك المنهزمة على الدوام فتجيب بلا مبالاة :
– انهضي ، يريدونك .
كأمرٍ عسكري تنطقها ، وكانصياعٍ تام ٍلأوامر القائد الأعظم تستبدلين ملابسكِ و تنجرين ورائها ناحية الصالة ، الجميع كان هناك ، يتشاركون مضغ أحلامكِ وبصقها ، من هم ؟ تتساءلين بخوف ، بجزع ، بارتباك ، فتسكت والدتك تساؤلاتك وهي تضع بين يديكِ صينية القهوة المزركشة الخاصة بالضيوف ، تنظرين إليها بصدمة قد تكررت كثيراً مؤخراً ، تهزين رأسكِ برفضٍ كما هي العادة منذ رحيله لكنها تصر على دفعكِ إلى الأمام ، اضطراب يعلو ملامحكِ وغصة تكاد تسحق حلقك الجاف ، تتجاوزين عتبة باب الصالة وتتقدمين منهم بقدمين كالهلام وسط نظراتهم المتفحصة ، زوجين مع ابنهما الشاب ذو الثلاثين عاماً .

واحداً تلو الآخر تقدمين لهم القهوة حتى صرتي قبالته ، قبالة العريس ( حسان ) تعيسِ الحظ الذي ستقومين بمحاربته بكافة أسلحتكِ كما البقية ، تنحنين أمامه و تقولينها بلا روح :
– تفضل .
ينظر إليكِ باهتمام ، ثم تنفرجُ شفتيهِ عن ابتسامةٍ خبيثةٍ وهو يتناول فنجان قهوته :
– شكراً آنسة أمل .
أمل ! ياه ، وكأنها المرة الأولى التي تسمعين فيها أسمك .
– أي أملٍ في حياةٍ لا أمل فيها لحريتي و رأيي ؟.
تهربين من أمامهم فوراً ، بداخل الحمام تتقيئين ما في جوفكِ من خواءٍ وعجزٍ وضعف.
صوتُ والدك الجهوري يرتفع من خلف باب الصالة قائلاً : إذن على بركة الله .

******

وتعودين للواقع مرةً أخرى ، زغرودة عالية انطلقت من خلف الأبواب المغلقة تلاها صراخُ موكب نعشك :
– جاء العريس ، جهزوها .
سكتَ الرضيع الآن فلا مجال للاحتجاج أكثر ، ولربما صراخهم القادم من بعيد كجيوشٍ تتقدمُ فوق ساحات الوغى مستعدة لاقتلاع أفئدة المحاربين قد أخرس صوته الصغير ، وقفت جارتكِ العجوز من خلفك تهز رأسها كحرباء الصحراء مولولةً بالنسبة لكِ و مزغردةً بالنسبة للجميع وكأنها تقول شامتة : ها قد حانت النهاية .

ونهضتِ أنتِ جاهدةً كبح الدموع بين النسوة، شقيقتك الأخرى تحكم شدّ الكفن الأبيض على جسدكِ الممشوق ، و تسدل الطرحة وهي تحذرك :
– ابتسمي فهذه سنة الحياة .

– هل أنا على قيد الحياة حقاً ؟ تتساءلين بحدة وقهر وغضب بعد أن باءت جميع محاولاتك في إبعاد الخرتيت حسان بالفشل ، فليس كالآخرين الذين هربوا من جفائك وقسوة تعاملك ، كان مقاومًا حتى النهاية.

فتح باب النعش و جرّوك ورائهم ناحية الزقاق كنعجة لا حول لها ولا قوة، يرتلون ترانيمَ الموت على جسدكِ الهزيل وتقدم العريس بخطى بطيئة لاصطحابك ، كان مخفياً وجهه خلف باقة أزهار بيضاء و صفراء ، دليلٌ آخر على حتمية موتكِ المؤكد .
يبدأ موكب الدفن وتقرع طبول انتقالك للعالم الآخر،
تسيرين ببطء بجانب حسان الذي يمشي الهوينة وسط الحضور متفاخراً بعروسه ، يصفقون فرحًا على صفقةٍ رابحة ، للوالد الذي يعد نقود مهرك ، للأم التي تصطنع ابتسامة مجاملة للجميع ، فها هو السيناريو يتكرر للمرة الثالثة مع ابنتها الثالثة .
لم تتغير وجوه الحضور و لم تتغير ملابسهم أو تسريحاتهم ، غير أن العروسين من يتبدلان في كل مرة.

و ها قد حان دورك الآن لإكمال طقوس هذه المسرحية الهزلية ، تركبين سيارته الفارهة للانتقال إلى الصالة ، وعلى الزجاج ارتسمت ملامحه – آدم – حبيبك الأول والأخير .
– أين عساكِ أن تكون بعد فراق دام لأكثر من عامين ؟.
تتساءلين بلهفةٍ وشوقٍ متناسية ذلك الرجل الجالس بجانبك ، فما زلت تتأملين أن يعود حتى هذه اللحظة لانتشالك من مأساتك.
– سنتزوج بإحدى ليالي اكتمال القمر، حيث النجوم تكون متألقة في كبد السماء .
يقولها آدم فتضحكين بمرح ، حسان الآن يلتصق بك ، يحتضن كفك بين يديه ويمضغ اللبان ، يقولون أنها تخفي التوتر في لحظات كهذه ، تتحاشينه و تتأملين النجوم من خلف زجاجِ النافذة ، القمر مكتملٌ والنجوم ها هي تتلألئ في فضاء هذه الليلة السوداء ، ها هي طقوس زواجك كما تخيلتها من قبل، لكن باختلاف بسيط، العريس قد تغير ! .
تعودين لآدم مجدداً ، يحتضن كفك بين يديه فتقولين بسعادة :
– سننجب أربعة أطفال .
– بل عشرة … أريد أن أستشعر وجود من يشبهونكِ بكل ركنٍ في منزلي الصغير .
وتضحكين مجدداً على أيام حبٍ راحت واندثرت خلف ستارة النصيب.
يسألك حسان بابتسامةٍ متوترة :
– ما الذي يضحك ؟.
تتنبهين إلى وجوده ، تسحقين الابتسامة و تتطلعين إلى تفاصيله الدقيقة الهادئة نسبياً ، تهزين رأسكِ أن لا شيء وتكتفين بالصمت ، تدخلين الصالة خطوةً وراء خطوة نحو المدفن الكبير حيث اكتمال طقوس تقديمك كقربانٍ للشيطان ، يقبض على يدكِ بقسوةٍ مرتبكاً ، كانت القاعة مكتظة بالحضور رجالاً ونساءً يشربون ويتراقصون حول جثمانك ، كعذراء ترافينسكي في أوبرا طقوس الربيع فتكونين العذراء المأمورة بالتضحية ليحيا البقية .

تتوسطان القاعة وتبدآن بالرقص ، تشعرين بخيانتك لآدم فتحرقك لمسات حسان وأنفاسهُ الخانقة رغم أنها برائحة النعناع بسبب اللبان الذي ما زال مصراً على مضغه ، تغمضين عيناك السوداوان الواسعتان وتحاولين الانفصال عن الواقعِ مجدداً ، لعبةٌ صرتِ خبيرة فيها مؤخراً ، تنسلين من بين يديه وتعودين لآدم مرة أخرى.
لكن مهلاً….

هذه المرة لم يكن آدم حلماً ، كان هناك في الركن المقابل ، يمسكُ آلة التصوير خاصته ويلتقط الصور التذكارية للحضور، اختنقت العدسةُ بيديه عندما واجهت نظراته العاجزة انكسار روحك.

********

صراخ صغيرها الراقد في مهده اكتسح عتمة الليل ، أغلقت جهاز الحاسوب دون أن تخط النهاية و ركضت تجاهه تحمله بحنو بالغ ، تجربةٌ مخيفةٌ كانت بالنسبة لها كأول طفل تُرزق به ، نظرت لعينيه الصغيرتين تهدهد لإسكاته عندما استشعر ذعرها من المستقبل كأم موؤودة الروح ومشاعر ماتت يوم زواجها ، أهداها أجمل ابتسامةٍ من كرزيتيه ، ضحكت و قبلته بشوق دفين ، لامستْ صدره بأناملها لتستشعر ضرباته الناعمة كسينفونية عشقٍ رقيقة ، رغم صغره إلا أنه محور كينونتها وموئلها و رغم ضعفه يبقى مبعث قوتها لمجابهة المستقبل .
قربت وجهها من أنف رضيعها الذي أسمته آدم تخليداً لذكرى حب قديم وهمست له:
– لم يتجسد العشق إلا بك .
أرجعته إلى المهد وسارت بتؤدة ناحية حاسوبها ، فتحت الملف مجدداً و نقرت بأصابعها فوق الأحرف لتكتب على صفحة جديد .

– الصالة الواسعة أضحت غارقةً بالصمت وسط ضجيجها ، ومن يتراقصون حولك باتوا أصناماً. انعدمت رؤية كل ما يحيط بهذا الجسد الساكن الممسك بآلة التصوير، وأصبحت مصطبغة باللون الأسود ، وجثةٌ تتنفس بلا روحٍ أمام الآلة ، صدقَ حدسه فيما مضى وتجسدَ بأبشعِ صورة لآدم على الإطلاق.

*******

وعلى مرِّ الزمان إحساسُ الخوفِ قد طوته الأيام تحت وطأة الألم لكنه تلاشى بسببِ روحٍ جديدة أهداها لكِ القدر ، ترفعينَ بصركِ إلى السماء مشديةً فقد عرفتِ منبع الحبِ الجديد بعد الجفاف .

**
 
النهاية …….
 
 
 

تاريخ النشر : 2020-02-27

guest
14 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى