أدب الرعب والعام

شارع لا تسكنه الجميلات

بقلم : سامي عمر النجار – jordan
للتواصل : [email protected]

بالنهاية لم يبقى أحد في ذلك الشارع ، رحل الجميع ولم تعد تسكنه الجميلات.
بالنهاية لم يبقى أحد في ذلك الشارع ، رحل الجميع ولم تعد تسكنه الجميلات.

1

ارتدت فستانها الأزرق ووقفت أمام المرآة تتأمل نفسها ، كانت تعلم أنه يُفضِل أن يراها كما هي دون أن تلون وجهها، مساحيق التجميل تغطي عذوبة وجهها هكذا كان يَقولُ لها ، أمسكت قلم أحمر الشفاه ووضعت القليل منه على شفتيها ، ابتسمت وهي تنظر إلى نفسها ثم كتبت على المرآة بأحمر الشفاه :

“رَأيتُ اليوم امرأة لا ترمش، سحقتني بعينيها”.

رَشَّت بعض العطر على نفسها ، نظرت مرة أخرى إلى المرآة للتأكد من كامل أناقتها ثم خرجت تمشي على مهل نحو الغرفة الخاصة بزوجها جمال، الغرفة التي خصصها جمال لتكون كمعمل لإنتاج رواياته..
وقفت بتول أمام باب الغرفة وطرقت الباب.

2

أغلق حاسوبه المحمول بغضب، فكر في تحطيمه، منذ الصباح وهو يجلس خلف حاسوبه يحاول البدء في كتابة شيء ما ، شعر بالعجز عن إيجاد فكرة يبدأ فيها بكتابة رواية جديدة ، ضرب رأسه بيديه لعله يوقظ بذلك بنات أفكاره ، خطر له أنه استنفذ جميع أفكاره و استهلك جهد عقله في كتابة رواياته السابقة.

صار يخشى الفشل بعد نجاح آخر رواياته في عالم الأدب، شعوره بالخوف جعله عاجزا عن التفكير بشكل حقيقي، جميع الأفكار التي كانت تلوح في عقله شعر بأنها سخيفة ومستهلكة.

فتح حاسوبه مرة أخرى ، إلا أنه استبعد أن يكتب شيئا في الوقت الحاضر فأعصابه كانت محترقة ورأسه من شدة التفكير يؤلمه ، قام بتشغيل موسيقى هادئة ثم أغمض عينيه وأرخى جسده على الكرسي محاولاً الاسترخاء إلا أن سماعه لصوت دَقِّ باب غرفته جعله يقفز رعباً..

– بتول! متى عدت؟ قالها وهو يضع يده على قلبه.
سارت بتول نحو جمال تسبقها رائحة عطرها، عُدتُ منذ قليل.
تنهد جمال وقال : لم أشعر بدخولك البيت، أين الأولاد ؟
أزاحت بتول الحاسوب المحمول وجلست على المكتب ثم قالت :
لا تقلق ، تركت الأولاد عند أمي. هل كَتبتَ شيئاً؟

بِحسرة أجاب جمال : – لم أكتب حرفاً واحداً ، ورأسي يكاد يتمزق وأعصابي متعبة ، أنا تائه في صفحة بيضاء ، أشعر بأني فقدت القدرة على الكتابة وهذا الشعور يقلقني، أتعلمين !! لم أنم منذ البارحة، أنا متعب جداً.

‏قالت بتول بصوت خافت :
أثيري وصديقي ،ما رأيك أن تدعني أساعدك لتكتب؟
– وهل تعتقدين أنك تستطيعين مساعدتي؟
هل تشك في ذلك ؟
فكر جمال قليلاً ثم قال :
– طبعاً لا ولكن.. كُلُ خَليةٍ في رأسي الآن موصدة بأقفال يصعب فتحها.
ضحكت وهي تقول : لا تقلق سَأُحطم لَكَ هذه الأقفال.

3

والآن يا عزيزي اهدأ واطمئن، سأحكي لك قصة كانت قد روتها لي جدتي مريم، هذه القصة ستحرك خيالك وتوقظ خلايا عقلك ، أحداث هذه القصة يا عزيزي حصلت في شارع يسمى شارع جيوزيل.

هذا الشارع الذي أصبح الآن مهجوراً بسبب حوادث القتل التي حصلت فيه. والغريب في الأمر أن جميع ضحاياه من النساء. كانت طريقة القتل واحدة ووحيدة وهي الدهس وكان  الشيء المشترك بين الضحايا أنهن جميعاً جميلات.

ولحسن حظ جدتي وسوءه أيضاً ، أنها كانت تسكن ذلك الشارع إلا أن هذا الأمر جعلها تشعر بأن حظها سيء وأسوأ في آَنٍ واحد ، سيء لأنها لم تُقتل في ذلك الشارع وأسوأ لأنها علمت أنها لم تكن جميلة لتتعرض للموت ، هذا الأمر جعلها تفقد ثقتها بنفسها فأصبحت تخجل من الظهور أمام الناس حتى أنها أهملت نفسها واعتزلت الناس إلا أن جاء فارسها وهو جدي طبعاً ، الذي تقدم لخطبتها وساعدها لتتخلص من هذه العقدة.

قاطعها جمال بسخرية :- رحمها الله كانت حمقاء.
لا تذكرها بسوء قالت بتول بحزن وقد ساءها تعليقه.

قام جمال من خلف الكرسي وهو يرفَع الحاسوب المحمول ثم وضعه على الكرسي وجلس هو على طاولة المكتب بجانب بتول.
قال بصوت رقيق :

– أعتذر، لم أقصد ذلك ، كل ما في الأمر أن تفكير جدتك الغريب أثارني ، فكيف لها أن تشعر بسوء حظها وقد خرجت لتوها من الموت ، أحقا أن تكون جميلة وتموت أفضل لها من أن تكون أقل جمالاً ولكن حية!.

صوبت بتول نظرات ثابتة نحو جبين جمال وقالت بنبرة غاضبة :
اسمع يا جمال ، بعض الأحيان يشعر المرء بالحاجة الملحة لكلمة طيبة تعيد له ثقته بنفسه ، فالمرء معرض بشكل دائم لتلقي كرات نارية تحرق ما بناه من ثِقَةٍ في نفسه .
أتذكر عندما لونت شفتاي باللون الأسود، لم يعجبك وأخذت توبخني لوضعي مثل هذا اللون وأذكر أنك شبهتني بساحرة عجوز.

قاطعها جمال يدافع عن نفسه :
– يا إلهي! لقد اعتذرت لك ألف مرة وقلت لك أنك جميلة وأن اللون الأسود يخفي جمال شفتيك، قلت لك أنني كنت أقصد اللون لا أقصد ذاتك أنت.
ومع ذلك كانت كلماتك هذه كافية لإحراق شيء في داخلي ، ظننت أن حُسْني لم يعد يبهرك كالسابق ، هل ما زِلتُ جميلة ؟ سؤال ضل يراودني حتى ذهبت إلى شارع جيوزيل وحصلت على الإجابة التي أُريدُها.

فَكَّرَ جمال بسرعة ، الخيوط تترابط في رأسه ، زوجته تشعر بالألم بسبب كلام لم يقصده قاله لها قبل شهرين واليوم تتحدث عن شارع يقتل الجميلات.. إذن هي الآن بحاجة للكثير من الحنان والعطف.

قال جمال وهو يفكر بكلماته التي يطلقها من فمه :
– بتول ، أقسم لك أنك جميلة ، مبهجة ورائعة ، أنت لست بحاجة لمن يقول لك هذا الكلام. وقصة الشارع الذي يقتل النساء قصة خُرافية كباقي القصص التي ترويها الجدات لنا وقد سمعتها من قبل، دعك من هذه السخافات واعلمي علم اليقين أنك أجمل امرأة في العالم، واسألي مرآتك إن كنت لا تصدقين. ضمها إلى صدره وأَردَفَ هامساً :

– ملاكي الصغير ، الجمال يكمن هنا وهنا ، أشار بإصبعه إلى عقله ثم قلبه؛ الجمال يا عزيزتي ليس له قالب معين أو قواعد يجب على المرء إتباعها ليكون جميلاً ، الجمال الحقيقي لا يُطفئه تبدل الفصول ومرور الزمن، يبقى ساطعاً للأبد ، الجمال الحقيقي يكمن في العقل والقلب وينعكس بريقه على المرء من خلال ابتسامة أو همسة أو قُبلَة أو لمسة حنونة.
طَبَعَ قُبلة على خدها وأردف يَهمس في أُذنها :

– حبيبتي المتوهجة في كل وقت ، في بعض الأحيان تُخفي مساحيق التجميل انعكاس الجمال على وجه المرء وهذا ما حصل في المرة الماضية، لذلك اعذريني فأنا لم أقصد ذاتك بل كنت أقصد المبالغة في وضع مساحيق التجميل. بتول ، أحبك للأبد.

ليتك قلت لي هذا الكلام من قبل. قالت بتول تُعاتبه.
– عزيزتي ، مازلنا بخير وما زلت جميلة، لم يحدث شيء!.
بل حدث كل شيء يا جمال!.

اقترب منها يُريد تقبيلها إلا أنها وضعت يديها على صدره ودفعته بُلطف بعيداً عنها. وقفت أمامه ومدت يدها نحو شعره، ضحكت وهي تتلمس شعره.
طبعت قُبلَة صغيرة على شفتيه ، رفعت الحاسب المحمول على طاولة المكتب وجلست على الكرسي.

عزيزي ، وأنا أُحبك أيضاً ، كنت أُريد أن أبرر لك موقف جدتي فقط ، يا إلهي! كيف وصل حديثنا إلى أن نعاتب بعضنا؟. ضحكت بتول وابتسم جمال لضحكتها وقال :

– لا بأس ولكن اعلمي دائماً أنك امرأة من نور وأن ضحكتك هذه تذيبني حد الجنون وأتمنى احتضانها للأبد.
حسناً لقد قُلتُ لك أنني سأحطم أقفال رأسك لأوقظ بنات أفكارك ، سأكمل لك قصة جدتي وأرجو أن لا تقاطعني مجدداً..

هَزَّ جمال رأسه وقد تربع في جلسته ثم قال: أكملي يا قطعة السكر، كُلي يُنصت لك.
ابتسمت بتول عندما تربع زوجها في جلسته كالأطفال ، كانت تعلم أن جلوسه بهذا الشكل وتطلعه نحوها بعينين طفل وديع وإنصاته لها هي من عاداته التي تعصف بقلبها وتذيبها..قالت وقد اكتسى فمها الجدية :

شارع جيوزيل..هذا الشارع الذي كانت تُحيطه أشجار الزيتون، وبعض الشقق السكنية فقط ، هذا الشارع هو طريق فرعي يؤدي إلى السوق المركزي لمدينة جيوزيل الرائعة.

تقول جدتي أن أولى الأحداث التي عايَشَتها ، هو استيقاظهم على صوت صراخ جارهم محمد الذي كان بيته قريباً من بيت عائلة جدتي ، حينها أطلت من نافذة غرفتها لترى الذي يحصل وقد سبقتها للنافذة أمها ،  بينما خرج أبوها مسرعاً للخارج نحو محمد ، كانت سيارة محمد واقفة تُحيط عجلاتها الدماء ، وهو يجلس بجانب جثة محطمة الرأس وممزقة الوجه بسبب عجلات السيارة ، لقد دهس زوجته دون إرادة منه ، ما ذُكِر أمام جدتي وقالته لي أن محمد في ذلك اليوم كان سيذهب لعمله وكعادته كان يأخذ زوجته معه ليوصلها إلى عملها في إحدى مدارس المدينة حيث تُدَرِس مادة الرياضيات.

لم يتذكر محمد الذي حصل، كل ما تذكره وذكره لجيرانه وللشرطة أيضاً أنه كان يجلس في السيارة ينتظر أن تنتهي زوجته من زينتها.. فجأة رأى امرأة تسير نحوه ، كانت بلا ملامح تقريباً ، وجهها لا يحمل سوى عينيها، تأمل هذه المرأة الغريبة وقد شعر بالريبة، ارتجف قلبه وخفق ، كان يريد الصراخ ، كلما اقتربت منه المرأة ازداد شعوره بالخطر وبلحظة لم يُدركها اختفت المرأة ، تَلَفَّتَ حوله ونظر من خلال مرايا السيارة يبحثُ عنها ، لم يجدها ، فتح باب السيارة وخرج، أراد الهروب إلى البيت، وأثناء ذلك رأى الجثة التي تحيطها الدماء مُمدةً على مَقرُبَةٍ من سيارته ، صرخ ، ارتجف وهو يشعر بالدوار ، من أين ظهرت هذه الجثة!؟

تشجع عندما رأى أحد الجيران وهو يركض باتجاهه فاقترب من الجثة ، كان جسد الجثة سليم أما رأسها فكان مسحوقاً، تأمل محمد الجثة ، فستانها البنفسجي الطويل ، الشامة الموجودة على إصبع يدها الأيسر ، شعرها الكستنائي، حقيبتها الحمراء الصغيرة ، دفتر العلامات الأخضر .. عندها علم محمد أن هذا الجسد هو جسد زوجته نهال. أخذ يصرخ وينوح عليها بينما اتصل الجار الذي كان قد رأى الحادثة وركض نحوه بالشرطة.

في ذلك الوقت اعتبرت الشرطة كلام محمد ضرب من الجنون ، بعض سكان الشارع قالوا أنه قتل زوجته مُتعمداً لأنه كان يغار عليها بشكل جنوني بسبب جمالها الصارخ وقد كانت نهال أجمل امرأة في هذا الشارع بل في المدينة كلها، والبعض قال أنها خانته فقتلها وبعضهم قال أنه جُنَّ لفرط حبه لها..الأقاويل كانت كثيرة وبعضها سخيف.. الأكيد فيما حدث أن التحقيقات النهائية للشرطة والأدلة الجنائية أشارت إلى أن محمد هو من قتل زوجته نهال عن طريق دهسها بسيارته.

بقيت الأسباب التي دعت محمد لِقَتل زوجته مجهولة ومحاولاته بالظهور كمجنون عن طريق اختلاق تلك القصة الغريبة حول المرأة التي لا تملك سوى عينين على وجهها لينفذ من العقاب دون فائدة. لم يصدقه أحد.

بعد خمسة أيام من تلك الحادثة توالت حالات الدهس ، نجلاء التي كانت تُحاول قطع الشارع عندما ظهرت فجأة أمامها سيارة مسرعة ودهستها أمام مرأى الذين كانوا بالشارع ، وقد شاهدوا السيارة وهي تتوقف وترجع للخلف لتدوس بعجلاتها رأس نجلاء وتسحقه..سائق السيارة قال أنه لا يذكر شيء من ما حصل ، قال أنه رأى امرأة غريبة ومخيفة ثم اختفت فجأة ثم وجد نفسه مُحاصراً من قبل بعض الأشخاص يصرخون عليه “دعست البنت.. قتلتها ” ويحاولون فتح باب السيارة لضربه .

قُتلت نهال ثم نجلاء، كلارا، عبير، سمية وأخيرا ريم في مدة قصيرة.

ريم طالبة في الثانوية ، كانت تنتظر باص المدرسة، لم تكن تعلم المسكينة أنها ستموت تحت عجلات باص مدرستها ، وكما حصل مع الجميلات السابقات ، سُحِقَ رأسها تحت عجلات الباص، سائق الباص قال بأنه رأى امرأة لا تملك في وجهها سوى عينين، ظهرت أمامه فجأة ثم اختفت ، فقد شعوره وإحساسه بالزمن، كأنه استيقظ لتوه من سبات عميق، استيقظ على صراخ الطلاب وبعض المارة الذين تجمعوا حول جثة المسكينة ريم.

والد كلارا والتي قُتلت أيضاً بأحداث مشابهة قال : أن ما يحدث في شارع جيوزيل لعنة وأنه على الجميع المغادرة ، والد جدتي سخر من كلامه ، إلا أن والدة جدتي أَلَحَّتْ عليه بالرحيل من هذا الشارع خوفاً على ابنتها ، كثيراً ما كان والد جدتي يمازحها ويقول لها لا تقلقي ، الحمد لله ابنتك قبيحة فهي تُشبهك،لا تقلقي لن تُقتلا ..كان مزاحه و كلماته هذه ثقيلة جداً على قلب جدتي ووالدتها، مزاحه السخيف تسبب في هدم الثقة داخل قلب جدتي، فأصبحت تشعر بأنها أقبح فتاة على وجه الأرض واحتاجت أياماً كثيرة لتتعافى من هذا الشعور.

بالنهاية لم يبقى أحد في ذلك الشارع ، رحل الجميع ولم تعد تسكنه الجميلات.
وقف جمال على قدميه وقال :
– ألم تقل لك جدتك سبب هذه الأحداث، ظهور اللعنة ، لماذا حدث كل ذلك ؟
وقفت بتول أمامه وقالت :
جدتي لم تعرف الكثير لأنها كانت بالرابعة عشر من عمرها ، هي روت لي ما عايشته فقط وما استَرَقَتهُ سمعاً من أَحاديثٍ بين والدِيْها.
– على كل حال، خرافة جميلة ، سَمعتُ بها من قبل لكني طبعاً لا أصدقها.

مَدَّت بتول يدها وأخذت تتحسس دقن جمال ثم قالت هامسة :
لا يهم أن تُصدق ذلك، قل لي الآن هل استطعتُ تحطيم الأقفال وإيقاظ بنات أفكارك؟.
ضحك وقال :
– أسف يا عزيزتي ، يبدو أن الأقفال غير قابلة للتحطيم.
أمسكت يده وهمست :
لا تقلق يا صغيري ، أنا هنا من أجلك وما زال في جُعبَتي الكثير ، شَدَّت يده نحوها وقالت :
سأحاول مرة أخرى ، دعنا نذهب إلى غرفة النوم.

4

استلقى جمال على السرير وبجانبه استلقت بتول، انتبه جمال لما كتبته بتول على المرآة، قال وهو يبتسم :- أيتها المشاكسة ، ما معنى الذي كتبتيه؟.
أجابت : إنها كلمات أغنية أعجبتني.
حضنها وأخذ يمسد شعرها..
– أحب رائحة شعرك ولون الليل فيه.

تبسمت ثم قالت له : أتذكر حينما كنت تقول لي أنك تتمنى أن لا ترى غيري وأن لا تسمع صوت أحد غيري.
طَبَعَ جمال قُبلةً على جبينها وهمس :- ليت ذلك يحدث ! لا أولاد ، لا أصدقاء ، لا أحد، أَنتِ فقط.
نظرت بتول نحوه بمكر وقالت له : تخيل يا عزيزي أنك استيقظت في أحد الأيام ونظرت إلى المرآة فوجدت صورتي بدلاً من صورتك ، اقتربت أكثر لتُمعن النظر فرأيتني أنا ولم تستطع أن ترى نفسك في المرآة.

سيضطرب قلبك وترتفع حرارة جسدك ، ما الذي يحدث ؟ تسأل نفسك ثم تنظر بعينيك إلى جسدك ، تتحسسه بيديك ، أنت أنت كما أنت لم تتغير.
تشعر ببعض الخوف وتذهب إلى مرآة الحمام ، لم تجد صورتك في المرآة ، تُغمض عينيك ثم تفتحهما لتنظر في المرآة من جديد فلا تجد إلا صورتي.

يزداد خوفك حينما تسأل نفسك قائلاً : ما الذي حصل لي ؟، تسمع صوتي.
تُعيد السؤال بصوت أعلى لتتأكد من ما سمعت! فتسمع صوتي من جديد ، صوتك صار صوتي.
يتملكك الخوف وتخرج من الحمام وأنت ترتجف و تتعوذ من الذي يحصل لك.

في صالة البيت تتحسس جسدك مرة أخرى ، تتحسس وجهك ، شعرك ، أنت كما أنت ، تصرخ قائلاً لنفسك : جمال ، أرجوك استيقظ.
يطمئن قلبك فصوتك ما زال موجوداً ، أنت ما زلت أنت.
تجلس على الأريكة وأنت تقول: حلم ، هذا مجرد حلم.
– يا له من حلم جميل ، قاطع جمال حديثها، يا لحظي الرائع لو كان الأمر حقيقة ، أن أبقى كما أنا ولكن كلما نَظرتُ إلى المرآة وجدت هيئتي هي هيئتك وصوتي هو صوتك.

ضحكت بتول وقالت :
لم أُنهي حديثي بعد .
أخذ جمال قبلة صغيرة من بتول وقال لها :
– حسناً ، أكملي.

اطمأن قلبك الآن ، توجهت إلى الحمام ودون أن تنظر إلى المرآة اغتسلت ثم ارتديت أجمل ملابسك وخرجت دون أن تنظر إلى المرآة.
في الشارع وأمام مدخل البيت نظرت حولك ، لا ترى سواي ، البواب والباعة والمتجولين والمارة ، لا تستطيع رؤية حقيقتهم، أنت تراني فقط ، كأنني ارتديت الجميع ووهبتهم صوتي،  تصرخ لفرط غرابة الموقف ، ما الذي يحدث لي ؟

يقترب منك طفل صغير ، تراه أنا ، عمو ، عمو ، تسمع صوتي لا صوته ، تبدأ بالركض ، تريد الهروب من هذا ، الهروب من نفسك !! تركض وتلتفت حولك ، لا ترى إلا صورتي ولا تسمع إلا صوتي..
الكل صار أنا..
تتوقف عند التعب ثم…

توقفت بتول عن الكلام ، نظرت إلى جمال الذي كان قد تاه بعيداً بأفكاره وشرد..
جمال، عزيزي ، انتهيت. لا أجد نهاية للقصة.

تبسم جمال وقال لها :
– أَنتِ بارعةٌ جداً ومُبدعة ، لطالما رأيت ذلك في كل شَيءٍ تفعلينه ، لربما لو أتتك الفرصة المناسبة لكنت الآن أعظم وأجمل كاتبة على الإطلاق .
شُكراً عزيزي ولكن هل استيقظن بنات أفكارك ؟

ضحك جمال لسؤالها وأجاب : يبدوا أنهن في غيبوبة أبدية ، لن يستيقظن منها.
طبعت بتول قبلة صغيرة على شفتي جمال وقامت وهي تقول بدلال :
لا تقلق، لدي طريقة أخرى لحثك على الكتابة وتحطيم أفكارك ، كل ما في الأمر أنك بحاجة لشعلة من نار.

وقفت أمامه وببطء شديد خلعت فستانها وألقته على السرير ، تمايلت بدلال أمامه فأخذ قلبه يشتعل رغبة إليها.
ولكن سرعان ما خمدت ناره عندما سمع صوت طرق باب بيته القوي ورنين جرسه المستمر، فقام من السرير وهو يشتم ويلعن ويتوعد هذا الزائر الذي نغص عليه أجمل لحظات يومه.
جلست بتول على طرف السرير ، عيناها تتبعان جمال الذي توجه غاضباً لفتح باب البيت.

5

تفاجأ جمال بأخيه الكبير محمد الذي أمطره بالشتائم وهو يصرخ غاضبا:
أيها الأحمق، متى ستغير عاداتك !! لماذا تغلق هواتفك اللعينة؟ بَدِّل ملابسك وتعال معي.
– ماذا هناك ؟ سأل جمال وعلامات القلق بدت على وجهه.
تعرضت بتول لحادث وهي بالمستشفى الآن.

– يا إلهي ، أي مزحة هذه ، تباً لك لقد أفزعتني.
تفاجأ محمد من ردة فعل أخيه. أيها الأحمق ، أنا لا أمزح ، شخص ما دهس بتول وهرب ، بتول في المستشفى الآن وحالتها خطيرة جداً.
– توقف عن المزاح يا محمد وإلا ضربتك، أنت تعلم أني لا أحب هذا المزاح ، وبتول بالداخل لو سمعتك تتحدث عنها بهذا الشكل ستغضب.

بتول بالداخل ؟!

– أجل ، أجاب جمال وهو يسير نحو غرفة النوم ، ادخل واجلس ، سأنادي بتول لتجلس معنا.
حينما دخل جمال غرفة النوم لم يجد بتول، لم تكن بالغرفة، لم يكن بالغرفة سوى فستانها الذي خلعته على السرير والكلمات التي كتبتها على المرآة . تلفت حوله وهو ينادي بتول ، بتول..!
لم يجدها ، خرج من غرفة النوم وأخذ يفتش عنها في غرف المنزل كلها ، المطبخ والحمام ، لم يجدها. أين اختفت ؟ سأل نفسه.

كان محمد يجلس بعينين ممتلئتين بالذعر والحيرة بسبب تصرفات جمال. رن هاتفه فأجاب بينما عاد جمال إلى غرفة النوم وأخذ يتأمل الكلمات المكتوبة على المرآة.
بتول، أين اختبأت ؟ كانت هنا..

جاءه صوت أخيه محمد متألماً وهو يقول له  :

لقد اتصلت بي زوجتي الآن وأخبرتني.. صمت قليلاً ثم أردف…البقاء لله ماتت بتول.
ارتجف جمال وشعر بألم في بطنه ، كيف ذلك ، كانت معي الآن ، كنا على وشك…لا لا ، لا يمكن أن يحدث ذلك..هذا حلم أو أنه .. صرخ بكل ألم ينادي زوجته: بتووول.

لم يسمع صوتها ، لم يرها ، كان آخر شيء شعر به هو حضن أخيه الكبير الذي ضمه بقوة إلى صدره.

تاريخ النشر : 2021-08-29

guest
20 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى