أدب الرعب والعام

شكراً سيدتي..

اكتظ الطريق بالمارّة، وازدحم بالعابرين.. وما هي إلا دقائق حتى اخترقت حشدهم لأبلغ مكاني المقصود. أشعلت سيجارة ووقفت بمنأى عن الجميع بجوار طريقٍ يخطوه المارّون.. أترقب وإياهم قدوم قطار يحمل هذه الصخور الصامدة منتزعا إياها من يوم آخر أشد ضيقا عما سلفه من أيام.

كل منا أنهى يومه و جنى ثماره شقاء، ولوهلة ما استطعت أن ألمح ذلك الذي بدت عليه ملامح التعب والإرهاق، كلها تفاصيل نحتت بشدائد دونتها الأيام في وجهه المستدير ذو الشعر الأبيض. مكثف مهمل قد طغى و استقوى على طاقته ليبلغ جل وجهه معلنا انهزاما مذلا لرجل شريف أمام وطأة الدهر و قسوته، فالعناء يرتسم في عينيه التي تكاد تغلق بين الحين و الآخر جراء شوق جسده لراحة النوم ويقظة دون عجلة أو أي يوم دون عبء مسؤولية أو مشقة. سباق مع الزمن الذي يكاد ينهي رثاثه المتبقي، فلكأن ثقل الكون قد أحط على عاتقه..

أما من بجانبه يمرّ كرسيّا متحرك تملؤه جثة رجل آخر، لم يستطع الزمن أن يسقطه بعد.. فصراعهم تجلّى واضحا للجميع.. في صورةٍ تدل على حال هذا البطل العجوز الذي لا تكاد تعبر المحطة أو تمر بجوارها فيعلو صوته الجميع و هو ينادي على بعض علب الكبريت و لبضائع بخسة الثمن.. لا لشيء إلا لكرامته التي ظلت قائمة ترفض أن تنكسر، فتظهر حاجته أو يعتبره العابرون من المتسولين و يحتقرونه. أيعلم أولئك الساسة المهووسون بجنون العظمة أن لرجل بسيط ما يملأ الأرض من كبرياء..

إقرأ أيضا : السجين الهارب (قصة اجتماعية)

سرعان ما اكتظ المكان بالعملة العائدين إلى ديارهم و اختلفت الوجوه، لكنها ائتلفت في انهيارها المطلق و حاجتها للراحة، فلكل وجه مساره في هذا اليوم، الكل يتجه الى مقطنه لا لكي يقبع به، بل ليهيء نفسه لعناء يوم جديد..

و في ظل تلك الظروف قطعت انتظارنا صيحة سيدة وسط الحشد، وبكائها الذي اخترق قلوب الحاضرين و ليس أسماعهم.. لقد نسيت أن أذكر أن لهذا المكان أهله من القذرين الذين لا تهاب أنفسهم شيئا.. أولئك أعداء الأخلاق من انعدم فيهم كل ما يميزهم عن البشر.

ينتشرون بين الناس متنكرين أزياء مختلفة ترى كل واحد فيهم ينتهز غفلة لغيره ليخرج وحشا بداخله و يلحق الأذى مخلفا آلاما في وجه أخيه الانسان.. قد ترى مجموعة من الصيّع يلقون الشتائم، و آخرون يتنمرون على الجميع دون احترام، و ما إن يشتبكون مع أحد تتوافد أعدادهم و تزداد فرصهم في الانقضاض على غنيمة..

لقد جاء القطار كعادته ليقطع اهتمام الناس مع حدث السيدة التي سلبت منها مشقة يومها.. وزالت و كأنها لم تكن. خلّف الحادث كعادته ألما في نفوس الحاضرين لكنه لم يلامس عندهم أي منهم الرغبة في التغيير.. وسرعان ما علت أصوات القطار معلنة ضياع حق جديد دفن مع ما سلفه من آثار ألم لأحداث أخرى في هذا المكان. وما هي إلا لحظات حتى تركت السيدة وحيدةً في ألم شديد بينما همّ الجميع نحو القطار كأنه سيسلك الطريق إلى اليوم الموعود أو جنات الخلود. لم يضف العابرون سوى كلمات جافة على مقبرة من الألم في جهل منهم أن الضحية القادمة أحدهم ..

إقرأ أيضا : لا تنسى

**

انتزعت لنفسي مكان وسط الجميع و بصعوبة استطعت أن أؤمّن بقائي وسط الاكتظاظ، بينما عيناي لم تفارق المسكينة التي انفردت بنفسها منهارة متكئة على حائط الخيبة خارج القطار. لم تتمكن من الصعود لشدة وبقيت وحيدةً.

ما هي إلا دقائق حتى أغلق القطار أبوابه و بدأ في التحرك ببطء إلى أن فكّ أكباله و أطلق عنانه. التصقت الأجساد بعضها البعض كأنه يوم الحشر فترى الوجوه خاضعةً، فيها من استسلم للنوم من شدة العناء، ومنها من اتخذوا بعض الحوارات المستهلكة ملجأ للإفلات من مشقّة الطريق.. كما اتّخذ آخرون ركنا مناسبا للتأمل، تارة الطريق من النافذة.. وتارة أخرى وجوها شاحبة جمعها مصيرا مماثل.

بينما صادفني الرجل العجوز الذي كان يبيع بضائعه البخسة في أرجاء المحطة و هو الآخر قد أنهى يومه وجاهد حق الجهاد، وعلى وجهه ارتسمت صورة العامل الكادح ككل الحاضرين، فتراه يبتسم للجميع دون مقابل و يبادر بنشر السرور مبادلاً الآخرين مواضيع مختلفة.. كما بدا على شخصه علامات للحكمة و الرصانة، فإذا تكلّم أوجز و أبلغ مقصده. لقد بدا للجميع دوما عاقلا يحسن تدبير أموره بين الجميع. الشخص المترع تجارب من المعارك في ميدان الحرب مع الحياة، و رغم ذلك لم يخفي البعض نظرة الاحتقار إليه لطبيعة موضعه في أنظارهم.

و في لحظة كنت أتأمله فيها انتابني شعور بأنني من الضروري أن أنزع ستار الظلام الذي لطالما ما أحرج الجميع فحواه، و أغلق الجهل أبوابه و كبل أصفاده، و ما هي إلا دقائق حتى أنهى كلامه المعتاد مع أحد المسافرين فاقتربت إليه بحذر و اعتمدت أن أشتري من عنده إحدى البضائع التي لم يستطع بيعها و قلت إليه:

_ ما رأيك في تلك الحادثة التي وقعت اليوم في المحطة؟

_ كعادتها الأيام في ذلك المكان أصبحت منبعا للأحزان.

_ألا ينبغي أن يتدخل الحاضرون لإيقاف ما يتكرر؟

_ ومن سيبالي بما يحصل لغيره ما لم يلمسه الأذى، أو من سيضمن أن للجميع وعي مماثل؟ زال زمن التضامن يا بني.. كل منّا يسعى إلى أن يعود سالمًا الى دياره.

_الخطر الأساسي يا سيّدي مكمنه القابليّة على الاعتداء، ذلك الخوف و التراجع الذي آذن لخلق حزنهم، جهلهم بما أن ما أصاب المرأة هذا اليوم ما هي إلا مرآة تعكس ما سيحدث لأي منّا ما دمنا لا نبالي بالتضامن مع من لحقه الضرر.. أو أن نعي على الأقل أن ضعفنا سببا أول لأحزاننا، فمن يذلّ و يسلب غيره و يظلم عليه أن لا ينسى أن غدا لناظره لقريب.

إقرأ أيضا : الرحـلة رقم 102

_ لن يخاطر أي أحد لأجل غيره لأن الأضرار لن يتكبدها إلا صاحبها، وكما يقول المثل “إبعد على الشر و غنيله” وأما خوفنا المتواصل يا بني سببه أعواد ثقاب منتهيةً أجلها أصبحت تفزع كل من اقتربت إليه و ليست مأمن له من الخطر، و من منّا يستطيع إجبارهم على الالتزام بعملهم!

_ وليس الحلّ أن نلزم الصمت ونتأسف على ما مضى لأن ذلك لا يهيؤ إلا لحزن جديد و ما هو ببعيد.. إذْ لم تستطع السلطة ردع أفرادها فليس على الأفراد أن يرفعوا راية الاستسلام و تعمّ الفوضى في الشوارع و الأحياء، فلن يبقى إلا لنا أن يغيّر الأفراد ما بأنفسهم. وحين نلحظ أن الجميع قد استنفر لصالح من أصابه مكروه و ترى كل أحد بدوره يحمل عبء أخيه، أو ينتفض القوم في لحظة لمح أحدهم ما قد يلحق الضرر.

علينا الاتفاق أولا أن الأمن ذاته لا يتحقق إلا عند القبول بفكرةِ اعتبار الالتفاف جميع وراء مطلب الأمن هو في حد ذاته تكريس، كما أنه في الباطن بزوغ لوعي و تجذر لفكرة بناء، إذا اجتثوا يا بني وطني أرضنا التي أسهمنا في ضياعها فلن يعار لكم أي مكان به الأمان، إما أن تحرروا أنفسكم من قيود أرهبتكم و أن تضلوا خانعين تبكي قلوبكم من شدة الوهن.. عندما يستقر القطار مكانه دون زوال الحشد عن اتحادهم جنبا إلى جنب لأذى تعرض إليه فرد منهم، حينها سننعم بالأمان و سيحظى الجميع بالراحة في ذاك المكان الموحش، سيطمئن كل الحاضرين تألف المحبة فيما بينهم و يأمن لنا العيش و استعادة السلام.

‌ألقيت آخر الكلمات من حنجرتي على أسماع الحاضرين، وقد شعرت لوهلة كما لو أن انفعالي قد بلغ أقصاه. وعندما لمحت أعين الرجل بدت نظرته لي لا توحي بغير الإعجاب و اكتفى بأن يطأطأ رأسه مشيرا إلى أنها الحقيقة و لا مفر من التبرير، أما الحاضرين و رغم كثرتهم و أصواتهم المزعجة في البداية إلا أن صدى كلامنا قد سكن أسماعهم و شد إصغائهم و انتباههم.. فبدأ الجميع يسرق الأنظار إلينا في إعجاب لا يؤكد إلا بأن شيء ما قد تسلل بداخلهم.. وسرعان ما عاد الحوار فيما بينهم في انسجام لكنهم اتخذوا إشكالنا الشائك منطلقا لهم و صار لكلامهم معنى، فلكأن اليقظة أمست عقولهم و بلغت ضمائرهم.

إقرأ أيضا : لا أريد الموت

صرت أنتشي الآن بتلك الفوضى العارمة التي تصدرها الأصوات الصاخبة، أغلقت عيني لأسمح لنفسي بأن أستمتع بتلك الأحاديث المحتدمة بعضها البعض، إضافة إلى امتزاجها مع صوت ضخم يصدره القطار.. فبمجرد غلق عينيك سوف ينقلك بدوره وسط جيش عرمرم يحرث الأرض ورائه شدة و سرعة لفتك عدوّه، أما أحاديث الحاضرين فمثلت فخرا لي لانتهاجها مسلك الوعي، أليس من الجميل أن في الضياع ثنايا الالتزام وأعمق ما تحمله المأساة بزوغ لضياءٍ جديد؟ كمن أبحر في ليلة تربع القمر فيها وسط السماء، و ما إن بلغ المنتصف حتى هبت عاصفة أخفت ما سلف من نور على المكان فنزع ثيابه و رفع يديه ليستقبل قطرات المطر و يتلذذ تهاطلها الذي يحي أحاسيسه التي ستخلُد بعد حين.

**

‌فتحت عيناي مجددا فاحتضنتني الجدران البيضاء، الآلات الغريبة التي ارتبطت بعضها بجسدي، ازدادت حيرتي و لكنها لم تتواصل طويلا فقد أقبل الزي الأبيض مسرعا.. حالما لمحتني فتحت عيني فاقتربت إلى أنظاري و أدلت بأنني بخير، رغم أنني في حالة من الحيرة و التساؤل إلا أن شعور الاطمئنان قد انتابني و ما هي إلا دقائق حتى أخبرتني الممرضة ما حدث و انصرفت.

تركتني أيضا وحيدا كتلك السيدة التي اقتصرت النظر إليها من نافذة قطارٍ يبتعد. تركتها اليوم و هي في أمس الحاجة لسندٍ و ها أن بعد أيام قليلة أعايش لحظة الخيبة التي أترك فيها وحيدا !.

استيقظت من الفراش بصعوبة و اتجهت ناحية النافذة، و لحسن ما تبقى لي من حظ أن إحدى السجائر قد نجحت في النجاة.. أشعلت تلك المتبقية و أخذت أتأمل و أفكر متسائلاً كيف حال تلك السيدة حين علمت بأن القطار الذي تخلفت عنه بسبب حزنها لم ينج من اصطدامه سوى شخص واحد؟ قد دفعه بائع الكبريت لينجو من موته المحقق..

المزيد من المواضيع المرعبة والمثيرة؟ أنقر هنا

حسن الغربي

تونس - للتواصل : [email protected]
guest
26 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى