أدب الرعب والعام

شيزوفرينيا

بقلم : كوثر الحماني – المغرب
للتواصل : [email protected]

تفتن البجعات بتناغم الألحان فيتذللن لماء البحيرة حيث يقبع الكيان بقامته الطويلة
تفتن البجعات بتناغم الألحان فيتذللن لماء البحيرة حيث يقبع الكيان بقامته الطويلة

 
هناك عند التلة كنت أقف بوجوم أحاول السيطرة على شعري البني المنسدل ، الذي يتطاير بفعل الرياح.

أرتدي فستاني الأبيض البسيط ، إن رأيتني حسبتني عروس القمر لكن إن اقتربت أكثر ستجزع من تلك الخصلات الدقيقة القاتمة التي تنبثق من ثوبي الحافي ، فتحيطني بهالة سوداء منفرة.

 لقد كنت أرمق بترقب البحيرة العملاقة أمامي ، أتفحص منظر البجعات وهن يتراقصن بخفة على أنغام فاتنة ، تنافي برقتها و سحرها ، ذلك الرجل الملتحف ببذلته السوداء المبتذلة  و الممسك لنايه الخشبي باحتراف ، لوحة فنية مشحونة يتصارع فيها الجمال و القبح .

 تفتن البجعات بتناغم الألحان فيتذللن لماء البحيرة عساه يرأف لحالهم، فيأخذهم بسرعة لصاحب الناي ، ثم يتمايلن بليونة حتى يصلن أطرافها ، حيث يقبع الكيان بقامته الطويلة ، ينظر إلى البجعات بسحر، ثم يلتفت إلي ، فأضم ذراعي الجامدتين إلى صدري ، في محاولة خائبة لصنع درع جسور يقيني.

 يزيد الكيان من حدة ألحانه فتهيم البجعات أكثر، ثم تتوغل في شباكه الشوكية المغلفة بالجمال ، يلقي الرجل بالناي في البحيرة فيغيب في أعماقها ، فيتحول ماؤها الزلال إلى علقم مرير يعيق حركة البجعات ، و يطيح بأرواحهم إن حاولن ارتشافه ليسقطن الواحدة تلوى الأخرى .
 كنت أتابع المشهد بسخط فقررت أن أنزع عني عباءة الجبن ، هرولت مسرعة لأساعد البجعات ، لم أعد خائفة من الكيان ، ها أنا أخرج البجعة الأولى ، ثم الثانية ثم الثالثة ، يمسكك الكيان بقبضته يدي الهزيلتين  فيلقي بي في أعماق البحيرة لأغرق في الظلام مجدداً.
انتفضت من مكاني بهلع ، لقد كان مجرد حلم ،

ضلالات ينسجها دماغي المضطرب ، أجزم الآن أني الداخل الحافلة أجلس على كرسي متهالك غير مريح ، دخان السيارات المتصاعد ، السائق العجوز الذي لا بد أنه يحكي للفتيان جانب من صعوبة  حياته ، و كيف ساقت به الأقدار إلى هذه المهنة التي لم يعد يطيقها البتة ، كلها مشاهد خالية من الشوائب تؤكد أن عقلي لا زال قادراً على تحليل الأمور بشكل جيد ، لكن هواجسي لم تمنعي التأكد ، التفت إلى الرجل الذي يجلس قربي اسأله ، تفرست ملامحه بعمق لأتفاجأ بهول المنظر ، أنه ذلك الكيان المظلم الذي تسلل إلى أحلامي ليحولها إلى فلم دموي مريع ، ملامحه المريبة ، بذلته السوداء قديمة الطراز ، إنه ينظر إلي بترقب ، يتلذذ برؤية الدهشة الممزوجة بالفزع التي نقشت على ملامحي ، تعلو وجهه ابتسامته المقيتة ، اقترب مني ثم همس بصوت أشبه بالفحيح .

– لقد اشتقت لك يا فتاة ، ظننتك خائنة ، لم أكن أعلم أنك بهذا الدهاء لتجدني بسرعة ، لم تستغرقي سوى ثلاثة أيام .

– (صحت بفزع) من أنت يا هذا؟ لقد رأيتك في حلمي ، هل أنت معتوه ؟ أم قاتل متسلسل ، أم أنك تخطيت قدرات البشر فأصبحت عابث أحلام ؟.

أصدر الكيان ضحكة شيطانية متزعزعة ، ثم أمسك بمعصمي و ضغط عليه بقوة ، كنت مستغربة كيف أن ركاب هذه الحافلة اللعينة بلا نخوة ، كيف لم يستجب أحد لنجدتي ، صرختي المكتومة ، عيناي الملبدتين بالدمع ؟ كلها مؤشرات تدل أني أحتاج المساعدة ، قطع الرجل الأسود أفكاري المشتتة ثم استطرد قائلاً :

– أحقاً لم تعرفيني ، أم أنك أصبتي بداء البلاهة ؟ لكنني لا أراه في الجوار … حسناً سأختصر عليك الوقت ، أنا اسمي شيزوفرينيا ، هل تذكرتني الآن ؟ أنا ماضيك المبهم ، و حاضرك البغيض ، مرضك الذي ينهشك ببطء ، هلوساتك المتكررة سلوكك العدواني المفاجئ ، كنت أظن أنك ستستسلمين للعقاقير في ذلك المصح البائس ، لكني تخطيت توقعاتي ، لقد فررتي بجلدك ، أعترف بذكائك يا فتاة ، لكن ماذا الآن ؟ سأخبرك ، لقد اجتزت اختبار الثقة بنجاح ، أصبحت عميلتي المفضلة ، لهذا لن أدخر جهداً معك ، سأغرقك في الظلام ، ظلام دامس ليس له عمق أو نهاية.

استجمعت رباطة جأشي ثم اطلقت ضحكة عالية اهتز لها ركاب الحافلة ، نظرت إليه بتمعن و أردفت :

– إنك حقاً معتوه يا هذا ، أم أنني الآن في برنامج هزلي ؟ حسناً قل لي أين الكاميرا ؟ سأتظاهر بالرهبة ، و في آخر الحلقة سألقي كلمة شكر، و سأشيد حتماً بأدائك المقنع ، أعترف أنني هربت من مصح عقلي ، أنني رأيتك في أحلامي ، لكن ما تقوله مجرد هراء ، ترهات لا معنى لها ، ( ثم استرسلت بجهر ) و هل تتجسد الأمراض على هيئة البشر ؟

نظرت إلى الحشود التي نهشتني بنظراتها ، منذ صعودي هذه الخردة ، ثم استرسلت:

– ما الذي يثير دهشتكم هكذا ؟ همساتكم تزعج تفكيري ، أريد هدوء من فضلكم ، دعوني ألقن هذا المعتوه أمامي أداب الحوار، و إذا بصوت من الجموع يقول :

– هل أنتِ مجنونة أيتها الفتاة ؟ منذ صعودك  و أنتِ تهذين بكلام غير مفهوم ، لم يستطع أحد الجلوس بجانبك ، و ها أنت ذا تكلمين كرسياً فارغاً ، و تجبريننا على الصمت كي لا نزعجك ، هل أنت حمقاء ؟ أطفالنا الآن خائفون بسببك ، هيا انزلي الآن و إلا سنلقنك درساً قاسياً لم يكن ينقصنا سوى المجانين في هذا البلد.

– (صرخت بصوت عالي ) أنا لست مريضة ،  لست مجنونة ، هل تسمع ؟.
أخدت نفساً عميقاً  ثم جلست على الكرسي ، فتحت محفظتي البالية و أخرجت العلبة التي تحتوي أقراصاً مهدئة ، ابتلعت واحداً ، و رحت أحدق في الكيان الذي كان يراقبني ببرود و ابتسامة ماكرة ، كأنه يقول : لقد هزمتك يا فتاة ، نعم لقد هزمني ، عقلي لم يعد يفرق بين الواقع و الهلوسات ، استسلمت لواقعي المرير، و أغمضت عيني ليختفي كل شيء ، و أجد نفسي داخل غرفتي بالمصح  اجلس القرفصاء على سريري و أتفحص ملامح الطبيب الذي

بدا في قمة تركيزه طول جلسة العلاج ثم قال بصوت هادئ :

– هل حقاً كنتِ تفكرين بالهرب يا مرام ؟.
– ( قلتها ببرود ) : نعم ، لكنني تخليت عن الفكرة ، ذلك الشخص الذي اسمه شيزوفرينيا فسيقتلني حتماً.

–  (بتعجب): حسناً … أتقصدين أنك واعية بكونك مريضة فصام ؟.
– أنا أعي إصابتي بالهلوسات ، لكن ليس لأنني مريضة ، أنا لست مجنونة ، بل بسبب ذلك الرجل ذو البذلة السوداء ، يريد قتلي ، لقد خدعكم جميعاً أيها الحمقى ، هو يملك قوى قاهرة جعلته خفياً يتلبس الشخص فيجعله غارقاً في الأوهام والضلالات ، فتظنوه مريضاً ، لقد حاول خداعي أيضاً لكن لم يفلح.

– ما الذي أخبرك به هذا الرجل أيضاً ؟.
– صحيح أنه أخدني إلى عالمه المليء بالهلوسات ، إلا أنه شاركني بنقطة ضعفه ، دون أن يعي ذلك المغفل ، لكن أجزم أنه ضعيف أمام تلك العقاقير التي تقدمونها هنا ، مدعين أنها الترياق الشافي، لكن لا يهم سأتحملها طالما تبقيه بعيداً عني.
– أنتِ فتاة ذكية حقاً مرام ، لقد كشفت سره ، لكن ما الذي يضمن عدم قيامك بخطة الهروب هذه في وقت لاحق ؟.

– أنظر أسفل السرير ، هناك عصاة حديدية عثرت عليها في البارحة أثناء فترة الاستراحة ، كنت سأهوي بها على رأس الممرضة التي بتقديم الدواء  و أقدم على الهرب ، لكن تغيرت الأقدار ، يمكنك أخدها و أرحل ، شيزوفرينيا ينظر إليك بغل ، صحيح أنه مكبل ، لكن قوته لا تكمن في جسده كما تعلم ، و تذكر إن راودك كابوس و رأيت فيه رجل يرتدي بذلة سوداء ، احذر فهو ليس عابثاً بالأحلام إنه الوغد شيزوفرينا.
 
النهاية……..

تاريخ النشر : 2020-08-10

كوثر الحماني

ـــ المغرب ـــ للتواصل مع الكاتب : [email protected]
guest
8 Comments
الاحدث
الاقدم الاكثر تصويتا
Inline Feedbacks
شاهد جميع التعليقات
زر الذهاب إلى الأعلى